الاثنين، ديسمبر ٢٤، ٢٠٠٧

رؤية يابانية لاقتصاد مجتمع المعلومات


المشاركة و الإدارة الذاتية، في عصر المعلومات

نواصل فيما يلي طرح الرؤية المستقبلية لاقتصاد عصر المعلومات، التي يقدّمها المفكّر الياباني كاورو ياماجوشي . و هو يبدأ هنا بالإجابة على التساؤل الذي طرحه، في نهاية الرسالة السابقة : ما الذي يترتب على تحوّلنا من الصناعات الميكانيكية التي عرفها عصر الصناعة، إلى الصناعات الميكاترونية ( أي الميكانيكية ـ الإلكترونية )، التي تتزايد شيوعا في عصر المعلومات ؟ .
يقول ياماجوشي بوجود ثلاث نتائج أساسية :
أوّلا : أن يصبح الإنتاج حسب الطلب و وفقا له، اعتمادا على المشاريع الإنتاجية الأصغر حجما، المهيّأة لسرعة الإحلال و الإبدال، نتيجة للتغيّرات السريعة في الأسس التكنولوجية . من هذا المنطلق،
يمكن أن نعامل أدوات الإنتاج كجانب من المواد الخام المتغيّرة .
ثانيا : لأنّ الإنسان الآليّ المبرمج إلكترونيا ( الروبوت )، المتعدّد الوظائف، سيصبح أهمّ أدوات الإنتاج، فإنّ إعادة برمجة عمله ـ أيّ تغيير معلوماته ـ تصبح من المدخلات الرئيسية . ومن هذا المنطلق،
يمكن أن تعامل أدوات الإنتاج كجانب من المعلومات .
ثالثا : في ظلّ النظام الاقتصادي الجديد، الذي يعتمد على الإدارة الذاتية و المشاركة، تصبح ملكيّة أدوات الإنتاج، و التحكّم فيها خلال العملية الإنتاجية، غير ضرورية بالمرّة . لأنّ الإنسان المنتج سيصبح سيد هذه الأدوات . و من ثمّ، لا يصبح مفروضا على أيّ عامل أن يتكيّف مع هذه الأدوات، كما كان ـ و لا يزال ـ حادثا في عصر الصناعة .


العمّال .. كمدخلات معلوماتية

لهذه الأسباب التكنولوجية و المجتمعية مجتمعة، لن يعود لأدوات الإنتاج دورها القديم كعنصر أساسي من عناصر الإنتاج . و من المحتمل أن يتحوّل صراع القوّة الحالي مع مالكي أدوات الإنتاج، إلى صراع مع مالكي المعلومات، و الذين يتحكّمون فيها . كما يحتمل ظهور طبقة جديدة من مالكي المعلومات كطبقة جديدة مسيطرة . أيّ أنّ ملكية المعلومات و المعرفة، ستصبح مصدرا جديدا للقوّة و الثروة .
و أخيرا، ستصبح العمالة أحد العناصر المفتقدة في مدخلات الإنتاج، فلن يعود العمل البشري هو الذي يصدّر الخدمات العضلية المضنية . فمثل هذا العمل سيوكل للإنسان الآلي، الذي يستطيع أن يقوم بها، بشكل أدقّ، و أكثر اقتصادا، من الإنسان . و يصبح العمل أحد المدخلات المعلوماتية .
لن يصبح العمّال، في ظلّ النظام الاقتصادي الجديد، ملحقا لأدوات الإنتاج، بل يصبحون مالكين لوحدات الإنتاج، و أسياد أنفسهم، لأوّل مرّة في التاريخ .


من الذي يتحكّـم ؟

في ظلّ التكنولوجيا الميكاترونية، تصبح كفّة إنتاج الخدمات و المعلومات أكثر رجوحا من كفّة إنتاج السلع . الخدمات و المعلومات تشترك في شيء واحد . فالخدمات ليست سوى النتاج المباشر للعمل الخدمي البشري، بينما المعلومات هي النتاج المباشر للعمل العقلي البشري . و معنى ذلك، أنّهما معا من نتاج الطاقة البشرية المباشرة، و من ثمّ لا يتحكّم أحد في العملية الإنتاجية، إلاّ أصحاب هذه الطاقة .
و إذا كانت الخدمات و المعلومات هما الإنتاج السائد في مجتمع الغد، فاستخلاص أعلى كفاءة إنتاجية منهما، يكون بترك المنتجين يديرون بأنفسهم عمليات الإنتاج، و من ثمّ تصبح الإدارة الذاتية أكثر التنظيمات كفاءة للوحدات الإنتاجية . و الحادث حاليا، أنّ مؤسّسات الإدارة الذاتية تكتسح، في جميع أنحاء العالم، على شكل تعاونيات عمّالية، و جمعيات تعاونية، و أعمال صغيرة، من خلال القطاع الثالث، غير الخاص و غير العام .

خصائص المعلومات

عملية إنتاج السلع، يمكن أن تنفصل عن عملية استهلاكها و استثمارها . و عليه، فالسلع يمكن أن تخضع للمبادلة، و الانفراد بحيازتها، كما تخضع للاستهلاك و التراكم . و تراكم البضائع يصبح، بالتبعية، مصدرا أساسيا للثروة بالنسبة لمالكي البضائع . هذه القابلية للتراكم، مع الملكية الخاصّة، أرستا قواعد الاقتصاد الرأسمالي .
و من ناحية أخرى، نجد أن عملية إنتاج الخدمات ـ في ذاتها ـ لا تنفصل عن عملية استهلاكها، فإنتاج الخدمات يتمّ في نفس وقت استهلاكها . و لهذا، فالخدمات يمكن الانفراد بها، لكنّها لا تتراكم . معنى هذا، أنّ
الثروة تكمن فقط في أيدي منتجي الخدمات و مستهلكيها .
و إذا انتقلنا إلى المعلومات، نرى أنّه يمكن أن ينفصل إنتاجها عن استهلاكها . و من ثمّ، يمكن أن تخضع للملكية الخاصّة . كما أنّه من الممكن أن تتراكم، فالمعلومات المتراكمة هي المعارف . و من هنا يمكن أن تصبح المعرفة مصدرا جديدا للثروة . و مع ذلك فالمعلومات و المعارف لا يمكن الانفراد باستخدامها عن طريق من يستهلكها أو يشتريها . عليه، فإنّ ما يميّز المعلومات عن السلع و الخدمات :
أولا : بائع المعلومات يمكن أن يواصل استخدامها بعد بيعها . و هذا يعني أنّ المعلومات يستحيل انتقالها نهائيا من منتجها إلى شاريها، لأنّها تبقى بعد بيعها في يد منتجها .
ثانيا : من الممكن استنساخ المعلومات بشكل حرّ، و بذلك يمكن أن يصبح شاريها هو مستهلكها و منتج نسخها في نفس الوقت . و تكلفة النسخ هامشية يمكن إهمالها .
ثالثا : و من ثمّ، ما أن يتم إنتاج المعلومات، حتّى يصبح من الممكن تقاسمها دون تكلفة إضافية . كما أنّ تكلفة الوصول إلى المعلومات تتناقص باستمرار، مع تزايد عدد الأفراد الذين يتشاركون فيها .
رابعا : الخاصّية الرئيسية من خصائص المعلومات، و التي تميّزها عن السلع و الخدمات، هي : المشاركة مع تناقص متوسّط التكلفة .


بضائع و خدمات معلوماتية

خاصّية المشاركة، ستجعل من الصعب تناول المعلومات كسلعة، مثل البضائع و الخدمات، في اقتصاد السوق الرأسمالية، لأنّها تفتقد الخاصّية أساسية للسلعة، و هي قابلية الانفراد بالاستخدام . بهذه الطريقة، يمكن أن تقود المشاركة إلى هدم أساس نظام الاقتصاد الرأسمالي، الذي يقوم على الملكية الخاصّة، و الانفراد باستخدام السلعة . هذا بالإضافة إلى أن البضائع و الخدمات التي كانت الإنتاج السائد للتكنولوجيا الميكانيكية، ستصبح أيضا وثيقة الصلة بالمعلومات، في عملية إنتاجها و استهلاكها، في ظلّ التكنولوجيا الميكاترونية، و هكذا تتحوّل البضائع و الخدمات، إلى بضائع و خدمات معلوماتية .
يقود هذا إلى أن تبدأ البضائع و الخدمات مساهمتها في الخاصّية الرئيسية للمعلومات، ألا و هي المشاركة . و سيقود هذا إلى أن تصبح خاصّية المشاركة شائعة في الاقتصاد بأكمله .


* * *

بعد هذا التوضيح لخصائص السلع و الخدمات و المعلومات، و بالتحديد للخصائص الجديدة للسلع و الخدمات، في ظلّ التكنولوجيا الميكاترونية ( ميكانيكية ـ إلكترونية ) . و بعد التأكيد على المشاركة و الإدارة الذاتية، باعتبارهما من خواصّ مجتمع المعلومات، يبقى أن نتعرّف على صورة المؤسّسات الاقتصادية التي تتشكّل مع تحوّلنا المتسارع، في جميع أنحاء العالم، إلى مجتمع المعلومات .
و في الرسالة التالية، يتحدّث المفكّر الياباني المستقبلي كاورو ياماجوشي عن الحيازة كبديل للملكيّة الخاصّة التي عرفها عصر الصناعة .

الجمعة، ديسمبر ١٤، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات


رؤيـة يابانـية لاقتصـاد الغـد
ياماجوشي الياباني..ولقـــاء برشــلونـة

صاحب هذه الرؤية هو أستاذ الرياضيات و المفكّر المستقبلي الياباني كاورو ياماجوشي، التقيت به لأوّل مرّة في برشلونة، من خلال وقائع مؤتمر لجمعية الدراسات المستقبلية العالمية .. تناقشنا حول النشاط المستقبلي لكل منّا في بلده، فتحمّس ليطلعني على الأوراق الأولي لرسالته عن الاقتصاد الجديد لمجتمع المعلومات .. و كان كريما معي إذ سمح لي بأن أطبع نسخة من هذه الأوراق . كما سمح لي بأن أنشر ما أراه مفيدا من آرائه . . قائلا : يبدو أن علم الاقتصاد ، على أهميته، بقي متخلّفا في مجال التوجّهات المستقبلية
و هو يرى أن علم الاقتصاد يتوزّع حاليا بين ثلاثة نماذج شاعت في عصر الصناعة
الأوّل هو :نموذج الكلاسيكية الجديدة، و هو ما ينسب إلى ليون فالراس، العالم الاقتصادي الذي قام بتطبيق نظام المعادلات الآنيّة للميكانيكا التقليدية على مجال الاقتصاد
و كان الثاني هو نموذج جون كينز، الذي اشتهر بنظريته الثورية حول أسباب البطالة طويلة المدى .
و أخيرا، النموذج الثالث و هو الماركسي، نسبة إلى كارل ماركس .

فالراس .. وتحقيق التوازن

يزعم نموذج فالراس أنّ العمالة الكاملة كفيلة بتحقيق التوازن، و بتلبية الموارد و الاحتياجات في جميع الأسواق . و يتحقق هذا في اقتصاد السوق الرأسمالية، ما دامت الأسعار و الأجور مرنة، قابلة للتغيّر بلا قيود . و يمضي أتباع هذا النموذج إلى القول بأن التوازن الذي يتحقّق بذلك، يتضمّن التخصيص الأمثل للموارد، و التوزيع الأكفأ للدخول . و من ثمّ، فإن مشاكل الاقتصاد الأساسية في إنتاج و توزيع و استهلاك السلع و الخدمات، يمكن أن يصل المجتمع إلى حلّها عن طريق آليّات التكيّف الذاتي للأسواق الحرّة . و إذا ظهرت البطالة، فإنّ مرجعها يكون للسياسات و القوانين الحكومية الخاطئة .

بين كينز و ماركس

أمّا نموذج كينز، فيرى أنّ الرأسمالية الحديثة قد فقدت آليّات التكـيّف الذاتي في الأسواق، بسـبب بطء التكيّف بين الأسعار و الأجور، و بسبب الاحتـكارات و الاتّحادات و التنظيمات التجارية . و من هنا، وجب قيام الحكومة بوضع سياسات و ضوابط مالية و نقدية، سعيا وراء العمالة الكاملة، لكي يتحقّق توازن السوق . أمّا التوازن الاقتصادي العالمي، و التوزيع العادل للدخول، فيتحقّقان من خلال السياسات و الضوابط التي تتكفّل بها المنظّمات العالمية، كالأمم المتّحدة و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي . أمّا النموذج الماركسي، فيقول : أنّ الرأسمالية ـ من حيث المبدأ ـ مقدّر لها الفشل، نتيجة لصراع الطبقات، و سوء توزيع الدخل بين الرأسماليين و العمّال .
على أساس هذه النماذج الثلاثة، قامت ثلاث مؤسّسات اقتصادية، و كان على أيّ شعـب أن يختار بينها . و يرى ماجوشي أن رؤية آلفين توفلر للرأسمالية و الاشتراكية كوجهين لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، كانت فتحا فكريّا، يتيح الخروج من مأزق النماذج الثلاثة السابقة .

عمليات الانفصال الأربع

و لكن، ما هي المؤسّسات السياسية و الاقتصادية الجديـدة التي تنبع من مجتمع المعلومات ؟ . يتصدّى المفكّر ياماجوشي للإجابة عن هذا السؤال، مستوحيا رؤي المستقبليين من ناحية، و التحوّل في نموذج العلوم الطبيعية من ناحية أخرى .
يقول أن جذور النماذج الاقتصادية الثلاثة لعصر الصناعة، اختلفت عن بعضها في تفسير عمل الأسواق، أسواق العمالة و السلع و رأس المال . و هو يرى أنّ سوق العمل كان وليد الانفصال بين العاملين و أصحاب العمل، و سوق السلع كان وليد الانفصال بين المنتج و المستهلك، كما قاد الانفصال بين المدّخرين و المستثمرين إلى قيام سوق المال .
لكنّه يشير إلى عملية انفصال رابعة، لا بدّ أن ندخلها في اعتبارنا، هي انفصال الإنسان عن الطبيعة . لقد كانت الثورة الصناعية عبارة عن عملية عزل للإنسان عن بيئته، و عن الطبيعة ذاتها . كما أنّها حضّت على استعباد الطبيعة و استغلالها، لحساب انفراد الإنسان باستخدامها .
ثمّ يتساءل ماجوشي: الآن .. هل حان الوقت الذي نسأل فيه أنفسنا سؤالا أكثر أهمّية : لماذا قامت هذه الأنواع الأربعة من الانفصال في حضارتنا المعاصرة ؟، و لماذا بقيت سائدة ؟
التكنولوجيا الميكاترونية
يجيب ياماجوشي قائلا : إنّ ذلك يتّصل اتّصالا وثيقا و قويّا بالتكنولوجيا الميكانيكية، التي قام عليها عصر الصناعة . و هو يطرح هذا كتمهيد، لتوضيح نتائج التحوّل من تلك التكنولوجيا إلى تكنولوجيا جديدة، هي التكنولوجيا الميكاترونـية ( أيّ الميكانيكية ـ الإلكترونية )، التي تفرض تصوّرا للاقتصاد في مجتمع المعلومات، يختلف عن التصوّرات التقليدية، التي عرفها مجتمع الصناعة .
انحصر إنتاج عصر الصناعة في السلع و الخدمات . و كانت السلع هي محور الإنتاج منذ قيام الثورة الصناعية . و كان إنتاجها يتم بشكل نمطي و على نطاق واسع، ممّا أتاح انفصال المنتجين عن المستهلكين . و مواصلة السعي لتحقيق أكبر كفاءة للإنتاج على نطاق واسع، تطلّبت تنظيم المنتجين في قسمين : العمّال، و المديرين ( الذين يمكن أن يكونوا في نفس الوقت المالكين لوسائل الإنتاج ) . هذا الفصل بين العمّال و المديرين، يضرب عميقا في جذور طبيعة إنتاج السلع . و نتيجة لهذا، تأسّست أسواق السلع و أسواق العمالة، و مع تطوّر و توسّع اقتصاديات السوق، تمّ الفصل بين الذين يديرون و الذين يملكون . ممّا قاد إلى ظهور الانفصال بين المستثمرين و المدّخرين .
من المعروف، أنّ تبادل البضائع هو في جوهره تبادل حقّ التفرّد بالاستخدام، أيّ تبادل الملكيّة . لذا كان من الضروري أن تنشأ الملكية الخاصّة كأساس قانوني لعصر الصناعة، بهدف تأميـن إنتاج السلع، و تبادلها في السوق .
انتعشت الأسواق الرأسمالية، نتيجة لعمليات الانفصال الأربع التي أشرنا إليها، كما انتعشت الأسواق الاشتراكية، و أفرزا معا توجّهاتهما الحاكمة، على شكل النماذج الاقتصادية الثلاثة التي أشرنا إليها .

مرحلة التحوّل التكنولوجية

لكي نفهم خصائص التكنولوجيا الميكاترونية، في مقابل خصائص التكنولوجيا الميكانيكية، نقول أن التكنولوجيا الجديدة يحلّ فيها الإنتاج حسب الطلـب، و إعادة تدوير المصنوعات، و المعرفة . محلّ الإنتاج على نطاق واسع، و ما يترتّب عليه من تلويث للبيئة، و استنزاف للموارد الطبيعية . كذلك تحلّ فيه المواد الخام مع البيانات و أشكال الطاقة المتنوّعة و المعلومات، محلّ المواد الخام و أدوات الإنتاج و طاقة الحفريّات و العمالة .
و بمزيد من التحديد، نقول أن المنتجات غير النمطية، و التي تتم بشكل متنوّع وفقا للطلب، و التي تراعي إعادة استخدام المواد المصنّعة سابقا، حفاظا على المواد الأوّلية، تتكوّن من سلع و خدمات . كما أنّ الإنتاج حسب الطلب، و بناء على رغبات المستهلكين، يستوجب مشاركتهم في عمليات الإنتاج للحصول على المعلومات التي تتّصل باحتياجات و أمزجة و أذواق المستهلكين، و التعرّف على تصميماتهم المفضّلة . هذا النوع من الإنتاج لم يكن يحقّق شيوعا في عصر الصناعة .
هذا كلّه، بالإضافة إلى أنّ العالم يتحوّل من طاقة الحفريّات ( فحم و بترول و غاز )، إلى مصادر طاقة متنوّعة و متجدّدة .
الملاحظة الهامّة في هذا الطرح، هي أن أدوات الإنتاج لم تعد تلعب دورها الحيوي القديم، الذي كان لها في عصر الصناعة . و أنّها آخذة في الاختفاء التدريجي من قائمة مدخلات العملية الإنتاجية .
السؤال التالي الهام الذي يطرحه المفكّر المستقبلي الياباني كاورو ياماجوشي :
ما الذي يترتّب على هذا كلّه ؟، ما الذي يترتّب على تحوّلنا من الصناعات الميكانيكية التي عرفها عصر الصناعة، إلى الصناعات الميكاترونية، التي تتزايد شيوعا في عصر المعلومات ؟ .
و إلى الرسالة التالية لنستعرض إجابة هذا السؤال .

الثلاثاء، ديسمبر ٠٤، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات



رؤية مستقبلية لبيتر دراكر
الاقتصاد عابر الدول، و البيئة
العلاقة بين فراشة الأمازون و شيكاغو

لقد استعرضنا في الرسالة السابقة جهد المفكّر المستقبلي جون ناسبيت في تصوّر العوامل المؤثّرة على اقتصاد الغد . و نتحوّل الآن إلى رؤية أكثر عمقا، يقدّمها بيتر دراكر أستاذ الاقتصاديات و الفلسفة، و صاحب المؤلّفات الاقتصادية الهامّة، و الذي عمل لأكثر من عشرين سنة كأستاذ للإدارة، ممّا استحقّ عليه لقب " رائد الإدارة الحديثة " . و هو في كتابه " الحقائق الجيدة " يضع خبرته في كلّ هذه الممارسات، عند تحليله لأعماق مظاهر التغيّر التي يمرّ بها العالم حاليا .
يقول دراكر " لا توجد أيّة نظرية اقتصادية تستطيع تفسير الأحداث الاقتصادية الرئيسية التي مرّ العالم بها منذ عام 1975 . و غني عن البيان، أنّه لم يكن بمقدور أيّة نظرية منها أن تتنبّأ بما حدث منذ ذلك الوقت . الواقع الجديد يتجاوز النظريات الاقتصادية القائمة . النمـوذج الاقتصادي الذي نحتاجه حاليا، يجب أن ينظر إلى الاقتصاد باعتباره عدّة أشياء غير مسبوقة في حساباتنا .

هل نفهم معنى "الاقتصاد العالمي" ؟

وهو يرى أن نظرتنا المعاصرة للاقتصاد، يجب أن تدخل في اعتبارها عدّة أشياء " حياة الكائن الحيّ على الأرض "، و " البيئة "، و " الوضع النسبي للأشياء في الإطار العام " . و أيضا باعتبار الاقتصاد مكوّنا من عدّة دوائـر متبادلة التأثير : دائرة الاقتصاد شديد الصغر (مايكرو) الخاصّ بالأفراد والمشروعات الخاصّة الصغيرة، و دائرة الاقتصاد الكبير (ماكرو)، و بصفة خاصّة الاقتصاد عابر الدول، بالإضافة إلى دوائر اقتصاد الدول و الاقتصاد العالمي .
و يقول دراكر : الجميع يتكلّمون عن " الاقتصاد العالمي " باعتباره واقعا جديدا . إلاّ أنّ ما يجري يختلف تماما عمّا يعنيه معظم الناس، من رجال أعمال و اقتصاد و سياسة، بالنسبة لهذا الاصطلاح .
و هو يربط بين الاقتصاد عابر الدول، و كيان مستجدّ آخر عابر للدول، هو العلاقة بين الكائنات الحيّة و بيئتها .

تعظيم الأسواق

منذ النصف الأوّل من السبعينيات، و في أعقاب موقف الأوبك، و بعد تعويم نيكسون للدولار، تغيّر الاقتصاد العالمي : من شكله القديم كاقتصاد بين الدول، إلى اقتصاد عابر للدول و خارج عن ولاية هذه الدول، و متحكّم فيها . و يرى دراكر أنّ من بين خواصّ الاقتصاد عابر الدول، أنّه يتشكّل من التدفّقات النقدية، أكثر من تشكّله نتيجة لتجارة البضائع و الخدمات . هذه التدفّقـات النقدية لها آليّاتـها الخاصّة . و الملاحظ أن السياسات النقدية و المالية للحكومات القومية ذات السيادة قد أصبحت، منذ ذلك الحين، تستجيب لأحداث المال و أسواق رأس المال التي يخلقها الاقتصاد عابر الدول، أكثر ممّا تسعى إلى لعب دور نشيط في تشكيلها، و التحكّم فيها .
و من بين خصائص الاقتصاد عابر الدول، أن عناصر الإنتاج في الاقتصاد التقليدي ـ من أرض و عمالة ـ تصبح بشكل متزايد ذات دور ثانوي فيه . و أيضا، أصبح المال هو الآخر عابرا للدول، و لم يعد كما كان من عوامل الإنتاج التي يمكن أن توفّر لدولة ما ميزة تنافسية في السوق العالمية . كذلك، لم تعد أسعار تبادل العملات الأجنبية مؤثّرة إلاّ على المدى القريب . و أصبح من الواضح أن الوضع التنافسي الجديد يقوم على أساس الإدارة .
في الاقتصاد عابر الدول، لا يكون الهدف هو ( تعظيم الأرباح )، بل يصبح ( تعظيم الأسواق ) . وبهذا ، من المتوقّع أن تصبح التجارة ـ يوما بعد يوم ـ تابعا للاستثمارات . بل لقد أصبحت التجارة بالفعل وظيفة من وظائف الاستثمار .

تبادل المصالح

و يقول دراكر : إن النظريات الاقتصادية التي بين أيدينا حاليا، ما زالت تفترض أن الدول القومية ذات السيادة هي الجهة الوحـيدة، أو على الأقلّ الجهة الأكثر تأثيرا، و أنّها القوّة الوحيدة القادرة على تبنّي السياسات الاقتصادية الفعّالة . لكن، إذا تأمّلنا طبيعة الاقتصاد عابر الدول، اكتشفنا أن هذه الجهة هي واحدة ضمن جهات أربع، ترتبط بعضها بعضا، لكن لا تتحكّم أي منها في الثلاث الأخرى .
الدول القومية هي إحدى هذه الجهات، إلاّ أن سـلطتها في اتّخاذ القرارات تتحـوّل باطّراد إلى الجهة الثانية،
و هي المناطق الإقليمية ( كالتجمّع الأوروبي ) .
و هناك جهة ثالثة، تتّسم بالأصالة و بأنّها تكاد تكون ذات سيادة، هي الاقتصاد العالمي للنقود و الائتمان و التدفّقات الاستثمارية .
و أخيرا، جهة النشاطات عابرة الدول، و هي ليست بالضرورة ذات ضخامة اقتصادية، و التي تنظر إلى العالم المتطوّر كسوق واحدة .
ثم يقول دراكر ، إن السياسة الاقتصادية الجديدة، تصبح بشكل متزايد أكثر اعتمادا على ( تبادل المصالح ) بين الأقاليم، مسقطة من حساباتها شعاري : التجارة الحرّة و الحماية الاقتصادية
و يضيف دراكر، " لم تعد البيئة تعرف الحـدود الدولية، بالضبط كما هو الحال مع المال و المعلومات. والاحتياجات البيئية الحاسمة، مثل حماية الغلاف الجـوّي، لا يمكن أن تتصدّى لها دولة ما، فالأمر يقتضي سياسات عامّة عابرة للدول، يتمّ فرضها بهيـئات عابـرة للدول أيضا "، ثم يقول : إنّ الاقتصاد العالمي عابر الدول، يفتقد المؤسّسات اللازمة له، و على رأسها القانون عابر الدول

التحكّم في " الطقس " الاقتصادي

الوصول إلى نظرية اقتصادية جديدة تتوافق مع المجتمع الجديد و تتفاعل معه، يقتضي تأليفا وتركيبا لمعطيات الجديدة التي فرضت نفسها في مجال الاقتصاد، سعيا لإطار النظرية الجديدة . الوضع الحالي لن يتيح لنا التوصّل إلى "سياسة اقتصادية" . و الرياضيات الحديثة، التي تتعامل مع الظواهر المركّبة تثير سؤالا هاما : هل من الممكن أن نصل إلى أيّة سياسـة اقتصادية ؟ .. أم هل كتب الفشل على محاولات التحكّم في " الطقس" الاقتصادي المتغيّر، كالتحكّم في الكساد أو التقلّبات الدورية ؟
يقول عالم الاقتصاد الأمريكي جورج سيجلر، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1982، إنّ محاولات الحكومة، على مدى أعوام، للتحكّم و تنظيم الاقتصـاد، لـم ينجح أيّ منها . و يحاول دراكر تفســير ذلك بما يطلـق عليه " ظاهرة الفراشة " . تقول الفكرة، أنّ الفراشة التي تخفق جناحيها في غابات الأمازون الممطرة، يمكن أن تتحكّم في حالة الطقس بمدينة شيكاغو، بعد هذا بعدّة أسابيع أو شهور . في الوقت الذي تقول فيه النظريات الرياضية الحديثة، أن النظم المركّبة لا تسمح بالتنبؤ، لأنّها محكومة بعوامل تفتقد الدلالة الإحصائية . من هذا خرجوا بأنّه، في ظلّ النظم المركّبة، يجوز أن نتنبّأ بما يطلق عليه " المناخ العام"، و يمكن استقرار ما نستخلصه منه . إلاّ أنّه من الصعب جدّا أن نتنبأ ب"الطقس"، لأنّه غير مستقرّ بالمرّة .
و نتيجة لهذا، يمكن القول بأنّ السياسيين الذين يحظون بمساندة قوية من الناخبين، هم أولئك الذين يتحرّكون في اتّجاه ابتكار السياسات التي تخلق : المناخ ، بعيدا عن محاولة التحكّم في : الطقس
محدّدات الواقع الاقتصادي

يقول دراكر : نحن نتكلّم بشكل متزايد عن البنية الاقتصادية : عن الإنتاجية و المنافسة، و التطوّر الإداري النابع من الرؤية بعيدة المدى، و عن دور الأبحاث و مؤسّساتها، و عن العلاقة بين الأعمال الاقتصادية الحكومية .. إلى آخر ذلك . إلاّ أنّه لا توجد لأيّ من هذه الاهتمامات مكانا في نظرياتنا الاقتصادية، أو في النماذج الاقتصادية التي يضعها علماء الاقتصاد . كما أنّ رياضيات النظرية الاقتصادية لا يمكنها أن تتصدّى لأيّ من هذه العوامل . حتّى الإنتاجية تكون نوعية إلى حدّ بعيد، بحيث تصعب معايرتها بشكل مسبق .. و مع ذلك، فهذه هي محدّدات الواقع الاقتصادي
و في الرسالة القادمة ننتقل من الغرب إلى أقصى الشرق، لنستعرض رؤية يابانية حديثة لاقتصاد مجتمع المعلومات

الاثنين، نوفمبر ٢٦، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات



اقتصـاد موحـّد.. و سـوق واحـدة

لا يمكن فهم الاقتصاد العالمي الجديد، إذا تصوّرناه مجرّد تصاعد مستمرّ للتجارة بين 160 دولة . نحن ننتقل من التجارة بين الدول، إلى اقتصاد موحّد و سوق واحدة . و هذه هي المرحلة الطبيعية التالية لتاريخ اقتصاد الحضارة البشرية . هذا هو ما يقوله المفكّر المستقبلي جون ناسبيت في كتابه الهام : التوجّهات العظمى 2000
يقول أنّه في البدء كانت القرية المكتفية ذاتيا من الناحية الاقتصادية، ثم كانت المـدينة، ثم الـدولة . و قد أوصلنا هذا إلى تنوّع من الاقتصاديات الكبرى للدول القومية، التي كانت مكتفية اقتصاديا إلى حدّ بعيد . و قد جرى تقسيم الواجبات الاقتصادية داخل كلّ دولة من هذه الدول على مدى السنين . أمّا الآن، فنحن في قلب عملية توزيع للواجبات الاقتصادية بين الدول، و السعي إلى الاعتماد الاقتصادي المتبادل ، الذي يفرضه هذا التحوّل
داخل هذا الاقتصاد العالمي، غالبا ما تعلو الاعتبارات الاقتصادية على الاعتبارات السياسية، وينعكس هذا على دور حكّام الدول و أجهزتها النيابية . فمع تصاعد أهمّية العلاقات الاقتصادية، غالبا ما يكون قادة النشاط الاقتصادي أكثر أهمّية من الشخصيات السياسية في الدولة . و هذا يعني أنّه " في الاقتصاد العالمي الجديد تتناقص ـ يوما بعد يوم ـ أهمّية الرؤساء و رؤساء الوزارات و البرلمان " . سيتحوّل واجبهم إلى إعادة تنسيق البناء السياسي، لتسهيل عالمية الاقتصاد
و فيما يلي، أهمّ العناصر متبادلة التأثير التي تصنع التحوّل الاقتصادي، في رأي ناسبيت
أولا : حرّية التجارة بين الدول
لكي يعمل الاقتصاد العالمي بكفاءة، في إطار سوق واحدة، يجب أن تتحوّل جميع الدول إلى الاقتصاد الحرّ بالكامل . بالضبط كما يتم الأمر حاليا داخل الدولة الواحدة . فلا يتساءل أحد اليوم عن التوازن التجاري بين فرانكفورت و دوسادلدورف، أو بين طوكيو و أوساكا، أو بين دنفر و دالاس .. على هذا الأساس سيأتي الوقت الذي نتوقّف فيه عن ذكر التوازن التجاري بين أمريكا و اليابان .
ثانيا : الاتّصالات و الاقتصاد .
التزاوج الحالي بين الاتّصالات و الاقتصاد، و الذي يتيح لرجل الأعمال في قرية قابعة فوق قمّة جبال كولورادو أن يتّصل بشريكه في مكتبه بطوكيو، هو أكثر العوامل دفعا لحركة الاقتصـاد الحـرّ العالمي . لقد بدأ تشغيل كابل الألياف الزجاجية عبر الباسيفيكي في عام 1989، و هو يربط الولايات النتّحدة و اليابان . هذا بالإضافة إلى الربط الشبيه بين أمريكا الشمالية و أوروبا و آسيا و استراليا .
ثالثا : لا حدود للنمـو
الانتعاش العالمي الذي نشهده في التسعينات، يتجاوز حدود النمو التي عرفناها في الماضي . الثابت أنّه لن تكون هناك حدود للنمو . ستكون لدينا وفرة من المنتجات الزراعـية و المواد الخام و البتـرول. و السرّ في هذا، أنّنا سنكون أقلّ احتياجا للمواد الخام، نتيجة لتحوّلنا عن الإنتاج المعتمد عليها إلى حدّ بعيد، ذلك الاعتماد الذي التزمنا به خلال العقود الأخيرة .
مثال ذلك، الاستعاضة عن الصلب بالبلاستيك، و الاتّجاه المتزايد إلى تصغير حجم المنتج . و مثال ذلك أن 70 رطلا من كابلات الألياف البصرية، يمكن أن تنقل نفس الرسائل التي ينقلها طنّ من الكابلات النحاسية، بالإضافة إلى أن إنتاج 70 رطل من الألياف يستهلك 5 في المائة ممّا يستهلكه طن النحاس .
رابعا : لا أزمة في الطاقـة
العالم يستخدم الآن طاقة أقلّ لينتج أكثر . لذلك لم تنشأ أزمة طاقة في التسعينيات تحد من الانتعاش العالمي . استهلاك الولايات المتّحدة من الطاقة، كان يتزايد كل عام، لكن في عام 1979 بدات تستهلك أقلّ كلّ سنة عن سابقتها . كما أن العالم ينتج المزيد من البترول، فكان احتياطي البترول العالمي عام 1979 حوالي 611 بليون برميل، أمّا الآن فيزيد عن 887 بليونا .
و ضعف احتمال نشوء أزمة طاقة، يرجع إلى انخفاض الاعتماد على البترول، نتيجة استخدام الطاقة النووية، و التقدّم الذي تحرزه الطاقة "الضوء ـ كهربية"، بتحويل الطاقة الشمسية مباشرة إلى كهرباء .
خامسا : ثورة الإصلاح الضريبي
بدافع من حاجة الدول إلى المنافسة في الاقتصاد العالمي، تقوم واحدة بعد الأخرى بخفض ملموس جدّا في الضرائب على دخول الأفراد . حدث هذا في الولايات المتّحدة، من 75% عام 1981، إلى 28% عام 1989 . و في إنجلترا، من 98% خلال السبعينيات، إلى 40% في عهد تاتشر .
سادسا : تصغير حجم المنتج
من عوامل تشجيع إشاعة الاقتصاد العالمي، تصغير حجم المنتج، لأنّه يسهّل التجارة . كان حجم الراديو كبيرا منذ 50 سنة، و اليوم يمكن إدخاله في الجيب . حتّى مواد البنـاء لأصبحت أصغر حجما و أخفّ وزنا، و أكثر كفاءة .كما أنّ أجهزة الكمبيوتر آخذة في تقليص أحجامها . و في أسواق المال العالمية، تحلّ النبضات الإلكترونية محلّ الأوراق .
سابعا : التضخّم و سعر الفائدة
التنافس العالمي بالنسبة للسعار و الجودة، سيقود إلى احتواء التضخـّم، و هذه ظاهرة اقتصادية جديدة . و أسعار الفائدة هي الأخرى ستتأثّر إيجابيا، نتيجة لوجود وفرة من رؤوس الأموال في عالم اليوم، و لنمو التنافس العالمي في إقراض الأموال، و من ثمّ تنافس عالمي في سعر الإقراض .
ثامنا : تصاعد الاستهلاك الآسيوي
من الناحية الاقتصادية، تمر الدول الآسيوية بحالة تفجّر، تقود إلى المزيـد من المنافسـة لأوروبا و أمريكا الشمالية، و خالقة ـ في الوقت نفسه ـ المزيد من الزبائن للجميع . و إذا كانت اليابان قد تحرّكت من اقتصاد التصدير إلى اقتصاد استهلاكي التوجّه، فمن المتوقّع أن تتبع الدول الآسيوية الأخرى الخط نفسه . و هذا يعني فرصا هائلة للمنتجين في أمريكا الشمالية و أوروبا و آسيا .
تاسعا : الديموقراطية، و المشروعات الخاصّة
التحوّل العالمي من الأنظمة الشمولـية إلى الديموقراطية، يرسي الخلفية السياسية للنمو الاقتصادي . و هذا التحوّل نلمسه في كلّ مكان، في الدول الاشتراكية، و في دول العالم الثالث ، و الديموقراطية هي أكثر السياقات تشجيعا على إنعاش المشروعات الاقتصادية الفردية، و التي تعتبر أكثر القوى أهمّية في النمو الاقتصادي
و يضيف ناسبيت إلى هذا، أن زحف السلام على العالم، يوحي بتحوّل معنى الأمن القومي إلى المنافسة الاقتصادية في السوق العالمية . كما يرى أن مشكلة الانفجار السكّاني أصبحت محكومة إلى حدّ ما، فيما عدا أفريقيا . و يعطي أمثلة لانخفاض معدّل الخصوبة إلى النصف في البرازيل
هذا هو ما يقوله جون ناسبيت . و رغم أهمّية ملاحظاته هذه، إلاّ أنّنا لا نعتبر هذا المأخذ مفيدا في تكوين صورة متكاملة عن اقتصاد الغد، و لا يوضّح لنا المبادئ الأساسية التي يقوم عليها اقتصاد مجتمع المعلومات، و التي تختلف تماما عن المبادئ التي قام عليها اقتصاد عصر الصناعة . لكن ما يقوله ناسبيت يصلح كأرضية لتفهّم بعض ملامح التغيير، رغم طرحها متجاورة، دون توضيح للعلاقات المتبادلة بينها، و دون تعليل لحتمية حدوثها . و قد يفيدنا في هذا الصدد أن نستعرض رأي الاقتصادي المستقبلي الكبير بيتر دراكر .. فإلى الرسالة التالية
.

الثلاثاء، نوفمبر ٢٠، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات

من الشركات العملاقة
إلى اقتصاد البوتيكات

ماذا يقول المفكّر المستقبلي آلفن توفلر عن اقتصاد مجتمع المعلومات؟

كان هدف المؤسّسات الإنتاجية في عصر الصناعة، هو التحكّم في جميع العمليات المتّصلة بما تنتجه . في مطلع القرن الحالي، سعى جون روكفلر، في شركة استاندرد للبترول، إلى التكفّل بكل النشاطات المتّصلة، كضخ البترول و تكريره و تسويقه . كذلك سار ارنست وبر، في شركة ناشيونال للصلب، على نفس النهج، ممّا جعلها أعلى الشركات المنتجة للصلب أرباحا، في ثلاثينيات القرن الماضي . فقد تحكّمت تلك الشركة في مصادر الحديد الخام الخاصّة بها، و خفرت مناجمها الخاصّة لاستخراج الفحم، و اعتمدت على نظامها الخاصّ في للنقل .
في مثل هذه الشركات، و في كلّ مرحلة من مراحل توسّعها، كان هناك نظام ضخم لتسلسل الرئاسات، يتولّى وضع البرامج، و نظم تخزين مستلزمات الإنتـاج، و يحارب في أسعار التحويل الداخلية .. و في جميع الأحوال كان القرار يتّخذ مركزيا . و يقول الكاتب المستقبلي الكبيرآلفن توفلر أنّ ذلك كان جوهر نظام الإدارة بالأوامر . و هو الأسلوب الشبيه بأسلوب بيروقراطيات التخطيط السوفييتية .

المقاول الخارجي

غير أن ما يسود حاليا، هو عكس ذلك تماما .
يسود حاليا مبدأ توزيع العمل في العديد من المشروعات الاقتصادية، بين جهات ذات تخصّصات و أحجام مختلفة . فشركة "بان أميريكان" للطيران، على سبيل المثال، تتعاقد مع المقاولين الخارجيين لتدبير شغل أماكن الشحن في رحلاتها عبر القارات . و تعلن شركتان كبيرتان، مثل جنرال موتورز و فورد، أنّهما ستزيدان حجم الاعتماد على العمالة الخارجية، بما يصل إلى 55 في المائة . و تقول مجلّة "الإدارة اليوم"، أنّ محاولة تحقيق التكامل الرأسي داخل الشركات متعدّدة الجنسيات، أصبح بلا معنى أو فائـدة، كما تقول أن الحكومات و الوكالات الحكومية ذاتها يتزايد إيكال عمليّاتها للمقاولين الخارجيين .
خلاصة القول، أن قيام مراكز الربح داخل الشركة، يناظره قيام مراكز أكثر تنوّعا و عددا خارجها .

اقتصاد البوتيك

واقع الحال، أنّنا نمضي بشكل متزايد بعيدا عن الشكل التقليدي لاقتصاد الضخامة . و في هذا يقول آلفن توفلر أنّ الشركات الصغيرة، و ذات الحجم المتوسّط، تكتسب اعترافا كبيرا باعتبارها المراكز الجديدة للعمالة و الابتكار و الديناميكية الاقتصادية .
المقاول الاقتصادي الصغير، أصبح البطل الجديد للاقتصاد . فعن فرنسا، تقول الفايننشيال تايمز "لقد تمّ التخلّي عن خطط دعم المشروعات الاقتصادية الكبرى، لحساب برامج يغلب أن تساعد على انتشار المشروعات الصغيرة" . كما توفّر بريطانيا خدمات المشورة الإدارية، لدعم انتشار التنظيمات الاقتصادية الصغيرة، و الارتفاع بكفاءتها . و في الولايات المتّحدة الأمريكية، تنشر مجلّة " إنك"، التي تقوم بقياس نشاط مائة شركة صغيرة رئيسية، ما يفيد تضاعف معدّل تزايد الشركات الصغيرة كلّ خمس سنوات .
و هذا يعني : أنّنا في مكان الاقتصاد الذي يتحكّم فيه عدد من المؤسّسات الضخمة العملاقة، نسعى اليوم إلى خلق اقتصاد جديد فائق الرمزية، يتشكّل من وحدات صغيرة، قد يستقرّ بعضها في جوف المشروعات الاقتصادية الكبرى، لاعتبارات محاسبية و مالية . إنّنا نمضي إلى اقتصاد البوتيكات .
هذا الاقتصاد، متعدّد الأشكال و التركيبات، يتطلّب أشكالا جديدة تماما للتنسيق . و هذا هو ما يفسّر عمليات الانفصال و التجمّع التي لا تنتهي، بالنسبة لما يطلق عليه " التحالفات الاستراتيجية "، و غير ذلك من التنظيمات الجديدة .

العلاقات و التنسيق كمصدر للثروة

في مدينة أتلانتا، بالولايات المتّحدة الأمريكية، توجد مؤسّسة كبرى تستخدم وحدها 37 ألف موظّف، و يصل مجموع ما تدفعه من رواتب إلى بليون و نصف دولارا سنويا، و تقوم منشآتها على2و2 مليون قدم مربّع .. هذا المشروع الضخم هو مطار أتلانتا .
إنّه عبارة عن "موزاييك" عملاق، يتشكّل من عشرات التنظيمات المنفصلة . و يتضمّن تنوّعا كبيرا، من الخطوط الجوّية، إلى خدمات الطعام، إلى شركات الشحن، إلى تأجير السيارات، إلى الوكالات الحكومية الداخلة في نشاطها مثل إدارة الطيران الفيدرالية، إلى خدمات البريد و الجمارك . و يتبع موظّفو هذه التنظيمات اتّحادات و نقابات مختلفة متعدّدة
القليل من الثروة الناتجة، يعود إلى جهد شركة أو وكالة بعينها . فالثروة المتدفّقة من هذا الموزاييك الكبير، تنتج بالتحديد عن العلاقات القائمة بين جزئيات ذلك الموزاييك، و التنسيق و الاعتماد المتبادل بينها . هذه العلاقات، لم يعد من الممكن أن تقوم على أساس القيادة البسيطة، التي يفرض فيها أحد المشاركين نمط سلوك الآخرين .

المؤسّسة الفارغة !

بديهي أن المؤسّسات العملاقة التي تقوم على التنظيم الهرمي، أو غير ذلك من التنظيمات المركزية، ما زالت موجودة، و ما زال لها نفوذها الكبير . لكن الأشياء تتغيّر بسرعة .
لم يعد المورّدون مجرّد باعة بضائع و خدمات، فهم يورّدون المعلومات الحسّاسة إلى الشركة، و من ناحية أخرى يستمدّون المعلومات المفيدة لهم من قواعد البيانات الخاصّة بالمشتري . لقد أصبحت العلاقة عبارة عن علاقة مشاركة .
يقول جون سكالي، المدير التنفيذي العام في شركة " آبل " للكمبيوتر : إنّنا قادرون على أن نعتمد على شبكة متكاملة من الشركاء، العاملون في تطوير البرمجيات (سوفت وير)، و صنّاع التجهيزات الهامشية، و الباعة، و تجّار الجملة . و يزعم البعض ـ خطأ ـ أنّنا بمثل هذه الترتيبات قد ساعدنا على بزوغ المؤسّسة الفارغة .. و أنّنا نصبح مجرّد قشرة فارغة تعتمد في بقائها على شركات خارجها .
يتحدّى سكالي وجهة النظر هذه، مشيرا إلى أن هذا الموزاييك التنظيمي، هو الذي يسمح لشركة آبل نفسها أن تصبح طيّعة و قادرة على التكيّف، و أن هذا هو السند الذي اعتمدت عليه الشركة في الوقوف على قدميها خلال الأزمات .

الحكمة الكلّيـة

و في شركة ماتسوشيتا اليابانية، تبلورت عملية المشاركة، في شكل ما يطلقون عليه اسما طويلا هو "الإنتاجية العالية من خلال استثمار الحكمة الكلّية" .فالشركة تلتقي مع مقاوليها الفرعيين، في مرحلة مبكّرة من مراحل تصميم و رسم مسـار الإنتاج فيها، و تسألهم أن يساعدوها على تطوير ذلك المسار . و يتوقّع كوزابورو سيكاتا، رئيس رابطة مقاولي الباطن، أو المقاولين الجزئيين، في شركة ماتسوشيتا، أن يصبح هذا النظام ممارسة قياسية شائعة . فالمشاركة المسبقة في المعلومات غير المتوفّرة لباقي الأطراف عند بداية إنشاء العمل، ليست نوعا من الكرم و طيبة القلب من جانب الشركة، لكنّها ضرورية لمواجهة المنافسات من الشركات الأخرى . و الثابت أن مديري الشركة ينصتون بانتباه، عندما يتكلّم أحد مورّديها الفرعيين المنتظمين، البالغ عددهم 324 مورّدا .
عن هذا يقول آلفن توفلر " في الماضي، كنّا نسمع كلاما يتردّد على ألسنة مديري الشركات، حول أن جميع العاملين شركاء في العمل . و الجديد، أن هؤلاء المديرين يكتشفون حاليا أنّهم مرغمون على تطبيق ما كانوا يحرّكون به ألسنتهم من قبل .." .

و إلى الرسالة القادمة، لنرى كيف يمكن أن نفهم الاقتصاد العالمي الجديد

الثلاثاء، نوفمبر ١٣، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد.. لمجتمع المعلومات


من بوتقة الإنصهار
إلى وعاء سلطة الخضار

النظام الجديد لخلق الثروة، يأتي معه بالتنوّع و اللانمطية الاقتصادية، و بدرجة أكثر حدّة من التنوّع
الاجتماعي . و من ثمّ، يكون على الحكومات الديموقراطية أن تواجه ـ بالإضافة إلى الصراعات التقليدية بين الأغلبية و الأقلّيات ـ حربا معلنة بين الأقلّيات بعضها بعضا . و تحت ضغط نظام الإنتاج الجديد، تتصاعد مقاومة النظام القديم، نظام " بوتقة الانصهار"، نقصد نظام النمطية و القولبة الذي استدعاه صالح المجتمع و الاقتصـاد الصناعي . في كلّ مكان من العـالم، بدأت الجماعات العرقيـة و الدينية و الأقلّيات في المطالبة بحق الاعتزاز باختلافها مع الآخرين، و بترسيخ ذلك الحقّ

كان الاستيعاب، أو الاحتواء، هو مبدأ المجتمع الصناعي . الذي ينسجم مع حاجته إلى قوّة عمل متجانسة . أمّا الاختلاف و التباين و التنوّع، فهي مبادئ و أهداف جديدة، تنسجم مع النظام الجديد لخلق الثروة : وعاء سلطة الخضار

نظام "بوتقة الانصهار"، و غيره من النظم الشبيهة في الدول الصناعية، بدأت تنسحب من الحياة، مفسحة المجال لمبدأ "وعاء سلطة الخضار"، ذلك الوعاء الذي تحتفظ فيه المكوّنات المختلفة بهويّتها
و التوجّه نحو "وعاء سلطة الخضار"، يعني احتياج الحكومات إلى أدوات قانونية و اجتماعية جديدة، تفتقر إليها حاليّا . يحدث هذا، في الوقت الذي تتصاعد فيه احتمالات الاندفاع إلى التطرّف، و العنف المعادي للديموقراطية، و تزداد المعارك سخونة بين الأقاليم و الدول و القوى الدولية العظمى، من أجل الوصول إلى القوّة و السلطة
الديموقراطية الجماهيرية التي عرفها عصر الصناعة، و ما زلنا نأخذ بها، تعتمد على وجود جماهير. فهي تقوم على أساس : حركات جماهيرية، و أحزاب سياسية جماهيرية، و وسائل إعلام جماهيرية . لكن، ماذا يحدث عندما يبدأ ذلك المجتمع الجماهيري في التحوّل إلى اللاجماهيرية، أي إلى التنوّع و التباين و الاختلاف ؟، ماذا يحدث له عندما تبدأ الحركات و الأحزاب و وسائل اإعلام في التشظّي و التشرذم ؟
إذا كانت التكنولوجيا الحديثة المتطوّرة تتيح الإنتاج المتنوّع حسب الطلب، و إذا كانت الأسواق قد تجزّأت إلى أسواق صغيرة متباينة، و إذا كانت وسائل الإعلام تتنوّع و تتعدّد لخدمة جمهـور يتواصل انكماشه بشكل متواصل، و إذا كان بناء الأسرة و الثقافة تصبح بشكل متواصل أكثر تنوّعا و تباينا، فلماذا يواصل الساسة افتراض وجود جماهير متجانسة ؟

صعوبة التراضي العام

كلّ هذه التغيّرات، سواء كانت على صورة نمو للحسّ المحلّي، أو مقاومة للعالمية، أو تنشيط لحماية البيئة، أو تصعيد للوعي العرقي و الطائفي، تعكس التنوّع الاجتماعي المتزايد .. إنّها تشير جميعا إلى اقتراب المجتمع الجماهيري من نهايته
و بإمكان المراقب أن يتبيّن ما يحدث اليوم للحركات الجماهيرية في بعض دول العالم الصناعي المتطوّرة، و كيف أنّها تمضي نحو التفتّت بشكل مطّرد، مع أن تلك الحركات الجماهيرية ما زالت تشكّل عاملا مؤثّرا في حياة أبناء هذه الدول
إنّ ما كنّا نطلق عليه تعبير "التراضي العام"، و الذي عنينا به التقاء الجماهير الواسعة حول وضع ما، يصبح من الصعب تحقّقه في الأيام القادمة، إلاّ في حدود البعض القليل جدّا من الموضوعات ذات الأولوية الأولى

من روزفلت إلى كلينتون

النتيجة النهائية لانقضاء المجتمع الجماهيري، تعتبر قفزة هائلة بالنسبة للتركيب الكلّي للحياة السياسية. ففي مجال السعي إلى الفوز في الانتخابات، كانت مهمّة كبار القادة السياسيين، خلال عصر الصناعة، بسيطة نسبيا
يعقد آلفن توفلر مقارنة بين وضع روزفلت و وضع كلينتون فيقول أنّه في عام 1932، كان بإمكان روزفلت أن يقيم تحالفا بين عدد من المجموعات البشرية : عمّال المدن، و فقراء الفلاّحين، والأمريكيين النازحين من من بلاد أخرى، و المثقّفين . و من خلال هذا، استطاع الحزب الديموقـراطي أن يمسك بمقاليد السلطة في واشنطن، على مدى ما يقرب من ثلث القرن
أمّا اليوم، فإنّ المرشّح الأمريكي للرئاسة، كما هو الحال مع كلينتون مثلا، يكون عليه أنّ يجمع شتات تحالف يتكوّن، ليس من أربعة أو ستّة تحالفات رئيسية، و لكن من مئات المجموعات و الجماعات، التي يكون لكلّ منها برنامجه الخاصّ، و التي يتغيّر كلّ منها بشكل دائم، كما أنّها تظهر و تختفي بشكل متّصل، بحيث لا يزيد عمر العديد منها إلى ما لا يزيد عن شهور، و ربّما أسابيع . و لعلّ هذا هو الذي يضيف سببا قويّا لارتفاع نفقات انتخابات الرئاسة الأمريكية، و ليس فقط ارتفاع تكاليف الدعايات التلفزيونية

ديموقراطية الموزاييك

إنّ الذي يتشكّل يختلف كثيرا عن تلك الديموقراطية الجماهيرية التي عرفناها . إنّنا نمضي بشكل متزايد إلى موزاييك ديموقراطي ، أو " فسيفساء ديموقراطية " . و هي شديدة التنوّع، سريعة الحركة، منسجمة مع بزوغ الموزاييك الاقتصادي، و تمضي وفق قواعده
الديموقراطية التي تعوّدنا عليها، لا تعرف كيف تستجيب للموزاييك الذي طرأ على الكيانات الجماهيرية، و هذا هو ما يجعلها معرّضة بشكل مضاعف لهجمات ما يمكن أن نطلق عليه تعبير :الأقلّيات المحورية

الأقلّيات المحورية

العلماء الذين يبحثون في موضوع الاضطرابات، و عدم الاستقرار و الفوضى، في الطبيعة و في المجتمع، يعرفون أن النظام نفسه ـ سواء كان نظاما كيميائيا أو كان نظام مجتمع أو دولة ـ يتصرّف بشكل مختلف، وفقا لكونه يمر بظروف مستقرّة أو بظروف غير مستقرّة ، أيّ أنّه يستجيب لحالات الاستقرار و درجاته بردود فعل متباينة
اضغط على أي نظام بشكل متزايد، تراه يخرق كلّ قواعده التقليدية، و يتصرّف بشكل شاذ غريب . وهذا يحدث في أيّ نظام، نظام هضمي، أو نظام كمبيوتر، أو نظام المرور في مدينة كبرى، أو نظام سياسي . عندما تصبح أيّ بيئة على درجة عالية من الاضطراب، تتحوّل النظم الخطّية ذات الاتّجاه الوحيد، إلى نظم خطّية متعدّدة الاتّجاهات . و هذا هو الذي يفتح الباب واسعا لظهور الجماعات الصغيرة . ويجعل الديموقراطية التي نأخذ بها غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد، و بصفة خاصّة مع التغيّرات الجذرية المتسارعة التي تتّسم بها مرحلة التحوّل الحالية، من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
و إلى الرسالة القادمة .. لنرى كيف نتحوّل من اقتصاد الشركات العملاقة، إلى اقتصاد البوتيكات

الخميس، نوفمبر ٠١، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات


العمالة الجديدة تسقط البيروقراطية
لغة جديدة للحديث عن العمل و العمالة .. هل نعرفها في مصر؟

نقرأ في صحفنا عن الخطط التي توضع في مجالات العمالة و الإنتاج، يضعها الخبراء و الإخصائيون، أصحاب التاريخ المشهود في هذه المجالات . و المشكلة هي أن هؤلاء الخبراء يقيمون خططهم على ما كانوا قد درسوه و خبروه، و الذي يقوم على الواقع التقليدي لعصر الصناعة، و ليس على ما نواجهه حاليا، أعني بذلك الواقع المختلف لعصر المعلومات . و حتّى أولئك الذين يعرفون مقتضيات الواقع الجديد، يعجزون عن الخروج عن الخط التقليدي بمبادرات فرديّة، تتناقض مع التوجّه العام للدولة . الثابت، أن اللغة التي يتحدّثون بها عن العمل و العمالة و البطالة لغة منقضية، نسختها لغة جديدة نابعة من المعاني الجديدة لهذا كلّه، في انتقالنا إلى مجتمع المعلومات .
فمن بين الابتكارات الهامّة لعصر الصناعة، مبدأ إمكان استبدال العامل بآخر، بالضبط كما يستبدل ترس بآخر في آلات المصنع . لقد نظر عصر الصناعة إلى العمّال نظرته إلى قطع الغيار . وقد كان هذا المبدأ مصدر الكثير من الضعف النسبي للطبقة العاملة الصناعية . فطالما أن العمل بطبيعته لا يحتاج إلاّ إلى مهارات محدودة، فمن الممكن تدريب العامل البديل خلال دقائق معدودة، على العمل الجزئي البسيط الذي سيقوم به . لكنّ الأمر يختلف تماما مع انتقالنا إلى مجتمع المعلومات .

المحتوى المعرفي للعمل

مع دخولنا إلى عصر المعلومات، يصبح المحتوى المعرفي لكل الأعمال مرتفعا، و تصبح الوظائف أكثر تفرّدا و تميّزا، و من ثم تصبح إمكانية استبدال العامل بآخر أقلّ . و في هذا يقول الاستشاري جيمس وبر، نائب رئيس مجموعة إندكس، " يصبح العمّال العقليّون أقلّ صلاحية للاستبدال يوما بعد يوم . كما أن الآلات يصبح استخدامها مختلفا من عامل لآخر . فأيّ مهندس يستخدم الكمبيوتر بطريقة تختلف عن الذي يليه، و أيّ خبير من خبراء تحليل السوق تكون له طريقته في تحليل الأشياء المختلفة عن طريقة أيّ خبير آخر " .
كما بقول مسئول كبير في مشروع مهمّ من المشاريع الدفاعية الأمريكية " منذ سنوات، كان كلّ شخص يقوم بالشيء نفسه، و اليوم يختلف الأمر . حاليّا، عندما نفقد شخصا، فإنّنا نحتاج إلى ستّة أشهر لتدريب شخص آخر، حتّى يفهم نظام عملنا . و لأنّ العمل عندنا يقوم على نظام مجموعات العمل، فعندما نطرد عاملا نخاطر بأن تنخفض كفاءة المجموعة كلّها " .

حتميّة الابتــكار

اختفاء العمالة الصناعية التي يتصبّب فيها عرق العامل، و سيادة العمالة العقلية، يقتضي تحقّق أمران أساسيّان : حتميّة الابتكار .. و حتمية التسارع . و هذا يحدث انقلابا في ما استقرّت عليه الأوضاع في مجالات العمل .
والعامل الحرّ، يميل أن يكون أكثر ابتكارا في عمله، قياسا على ذلك الذي يعمل تحت رقابة محكمة، و في ظروف تسودها سيطرة الرئاسات . وهذا يقتضي علاقات قوّة مختلفة تماما بين الرئيس و من يعملون معه، و يعني ـ من بين أشياء أخرى ـ أن تتحمّل القيادة الأخطاء الذكيّة، التي قد تقع نتيجة للسعي إلى الابتكار .
حتميّة الابتكار في مجالات العمل، لا تقتصر على الأعمال المتّصلة بالكمبيوتر و الإلكترونيات، لكنّها تتّسع لتشمل كلّ شيء، من نشاط التأمين إلى الرعاية الصحّية إلى الرحلات السياحية . فالتنافس يقود إلى تمزيق كلّ ما استقرّ من أوضاع النشاط الاقتصادي، بالاعتماد على سلاح الابتكار .

التسارع كمبــدأ

طبيعة مجال العمل في عصر المعلومات، تحض أيضا على الأخذ بحتمية التسارع كمبدأ . لقد أصبح واضحا للجميع أن الاقتصاديات المتطوّرة تتسارع بلا توقّف . و في بيئة العمل الجديدة، لا يكفي الاعتماد على الابتكار، فرجل الأعمال أو صاحب الشركة يكون عليه أن ينزل بإنتاجه الجديد المبتكر إلى السوق بأسرع ما يطيق، قبل أن تسبقه شركة منافسة أو تسعى إلى تقليده .
ضغط التسارع، يقود إلى الإقلال من أهمّية سلسلة الأوامر البيروقراطية الثابتة المحدّدة . فالشبكات الإلكترونية الجديدة، تيسّر الاتّصال العلوي و السفلي و الجانبي في المؤسّسة . و هذا يتيح للعاملين أن يتجاوزوا المستويات الخاصّة بتسلسل الرئاسات .
نظام العمل الجديد الذي نتحدّث عنه، سيجتاح ـ بعد قليل من الوقت ـ جميع القطاعات الاقتصادية، و يشيع الاستقلال الذاتي للعاملين، القادرين على الوصول إلى المعلومات .

عدالة توزيع المعرفة

خلال عصر الصناعة، كان موضوع معاملة العاملين بشكل أكثر إنسانية، لا يحظى بأيّ اهتمام . ومرجع ذلك إلى سيادة التكنولوجيات الفظّة، التي كانت تعطي ثمارها بشكل أفضل كلّما كان العامل أكثر جهلا، و من ثمّ أقلّ قوّة .
أمّا اليوم، فيطالب العمّال بالمزيد من وسائل الحصول على المعلومات، و تتصاعد مطالبهم هذه يوما بعد يوم، لأنّهم لا يستطيعون القيام بأعمالهم، على مستوى الكفاءة المطلوب، بدون هذه المعلومات .
و هذا يعني أنّنا نتحوّل من المطالبة بعدالة توزيع الثروة، إلى عدالة توزيع المعلومات و المعارف . باعتبارها ضرورية للعامل حاليا، نتيجة لاشتراطات السوق الجديدة، و التكنولوجيات الجديدة التي دخلت سوق العمل . و لا يجب أن يغيب عن بالنا، أن عملية إعادة توزيع المعلومات، في وقتنا هذا، تعني إعادة توزيع السلطة و النفوذ و القوّة .

من أمريكا إلى اليابان

تقول النيويورك تايمز، نقلا عن تشارلز إيبرل، نائب رئيس مجلس إدارة بريكتور آند جامبل " مع تقليد برامج الكمبيوتر للمهارات التي أتاحت للمديرين طويلا مكانتهم الخاصّة، أصبح بإمكان العاملين في المستويات الدنيا للعمل أن يقوموا بأعمال كانت مقصورة من قبل على المديرين التنفيذيين . إنّنا نشهد فجاة، و صول المعلومات إلى الناس الذين يديرون الآلات، بما لا يجعلها حكرا على شخص أو شخصين عند قمّة تسلسل الرئاسات . و لم يقدّر الرؤساء عند القمّة قوّة هذه المعلومات، إلاّ عندما وصلت إلى أيدي العمّال .. و بعدها، بدأت مقاومتهم العنيفة " .
و يقول الخبير الياباني تيرويا ناجاو في هذا الصدد " هذه الفكرة تتجاوز الكثير من الافتراضات المثالية، لنموذج العلاقات البشرية داخل المؤسّسة، و التي كانت تحضّ القيادات على إشعار العاملين أهمّيتهم . الآن، تتمّ مطالبة العاملين ـ صدقا ـ بأن يكونوا مهمّين " .

قبل أن نضع الخطط

هذه هي بعض ملامح النظام الجديد للعمل و الإنتاج، فهل يا ترى ندخل هذا في اعتبارنا و نحن نضع خططنا، و نصدر قراراتنا ؟ .
التغيرات التي طرأت على مجال العمل في الدول المتطوّرة، قد لا نلمسها الآن عندنا بهذا الوضوح . لكن الذي لا شك فيه، أنّنا سنواجهها في القريب العاجل . هذه التغيّرات تمسّ علاقات القوّة داخل المؤسّسة و خارجها، و تحدث ثورة في توزيع المعلومات، التي هي الثروة الأهمّ في عصرنا . و هي تسقط النظم الإدارية التقليدية التي مازلنا نأخذ بها، أعني بذلك بيروقراطية التسلسل الهرمي، التي نعتمد عليها حاليا في كل شيء، في الحكومة و الوزارات و النقابات و الجيش و الشرطة، بل و في المؤسّسات الاجتماعية و الثقافية أيضا .

و في الرسالة القادمة، نرى أثر مبدأ التنوّع عل المجال الاقتصادي .

الثلاثاء، أكتوبر ٢٣، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد ... لمجتمع المعلومات


البضاعة التي فقدت قيمتها

الذين يتحكّمون في اقتصادنا، في الحكومة أو القطاع الخاص، هل يدركون أن ما يتكلّمون عنه كإنجازات اقتصادية، هو نوع من اللعب في الوقت الضائع ؟
و هل يدرك كبار خبراء الاقتصاد عندنا أن خبرتهم الطويلة قد تحوّلت إلى بضاعة فقدت قيمتها ؟
هل نعجز تماما عن النظر إلى ما هو أبعد من مواقع أقدامنا، لنتعرّف على الطبيعة الجديدة، و المنطق الجديد، لاقتصاد مجتمع المعلومات، الذي لا يشبه في شيء ذلك الاقتصاد الذي قامت عليه خبرتهم، و تدور حوله اليوم مناوراتهم ؟
الاقتصاد الجديد، ـكما هو حال الإدارة الجديدة و الممارسة السياسية الجديدة يتحوّل من المركزية و التحكّم المركزي، إلى أقصى حدود اللامركزية . و رغم أن هذا يكون في جانب أولئك الذين ينادون بتحويل القطاع الحكومي و العام إلى القطاع الخاص، فإنّ الفهم الشامل لعملية التحوّل الاقتصادي ضروري، للتعرّف على القيمة النسبية لعملية الخصخصة في النظام الاقتصادي الجديد ، و للتعرّف على أهمّية أن تتمّ هذه الخطوة ضمن تغيّرات جذرية أخرى، في النظام الاقتصادي و المالي و النقدي للدولة
التكنولوجيا الجديدة

سنحاول فيما يلي أن نعطي فكرة عامّة سريعة عن ركائز الاقتصاد الجديد، اقتصـاد مجتمع المعلومات
في زمن سيادة مجتمع المصانع ذلت المداخن، و تألّق أسواق المال، كان رمز العصر هو الإنتاج على نطاق واسع لملايين المنتجات المتطابقة . هذا الرمز يفقد حاليا مكانته كعمود فقري اقتصادي للنشاط الإنتاجي . السرّ في هذا، هو بزوغ التكنولوجيات الابتكارية الجديدة، المعتمدة على الكمبيوتر، و التي أتاحت إنتاج كمّيات صغيرة من بضائع حسب الطلب، وفقا لأمزجة المستهلكين، تتوجّه إلى أسواق صغيرة محدودة .. و كلّ هذا دون زيادة في تكلفة الإنتاج
نفس هذا التحوّل ينعكس على الخدمات المالية، حيث نشهد تنوّع خطوط إنتاج هذه الخدمات بشكل متزايد، مع انكماش زمن حياة المنتج الجديد، من منتجات الخدمة المالية
نحن نمضي إلى اقتصاد عالمي (جلوبال)، يعمل بسرعة فائقة للغاية، تضاهي سرعة انتقال النبضات الإلكترونية . كما يخضع لمبدأ الإنتاج حسب الطلب :مثال هذا تحوّل خدمات البنوك من ساعات العمل إلى خدمات على مدى 24 ساعة في اليوم

من الملموس، إلى الرمزي

إنّنا نمضي إلى اقتصاد فائق الرمزية، و لكي نفهم ذلك دعونا نتأمّل المسار التاريخي للثروة
في عصر الزراعة كانت الثروة ملموسة محسوسة، و محدودة الاستخدام ( بمعنى أن استخدامي للأرض يمنع استخدام الآخرين لها )، و كانت أكثر أشكال رأس المال أهمّية
في عصر الصناعة، كانت الثروة أيضا ملموسة و محسوسة و محدودة الاستخدام ( بمعنى أن استخدامي للآلة أو السلعة، يمنع استخدام الآخرين لها ) . و كانت الخامات و الآلات، بدلا من الأرض، أكثر أشكال رأس المال أهمّية . و رغم أن رأس المال كان مادّيا، فإنّ المستثمر لم يكن يتاح له أن يلمس تلك الآلات أو الخامات التي تقوم عليها ثروته، مكتفيا بلمس ورقة ( سهم أو سند )، أيّ كان مكتفيا برمز لثروته
و مع نمو قطاع المعلومات و الخدمات في الاقتصاد المتطوّر، و الاعتماد على الكمبيوتر في الصناعة ذاتها، أصبح من الضروري أن تتغيّر طبيعة الثروة . في القطاعات الإنتاجية المتطوّرة، لا يتطلّع المستثمر إلى "الأصول الثابتة" التقليدية، كالمصنع و المعدّات و الأرض و المخزون، بل يهتم بعناصر مختلفة من أجل تعظيم استثماره، كالعلاقات و قوّة نشاط التسويق، و مدى الكفاءة التنظيمية، و الأفكار التي تنبض في رؤوس العاملين
هذا التحوّل في رأس المال... ينسف الافتراضات التي قامت عليها الأيديولوجيات الرأسمالية و الاشتراكية،لأنّ كلّ منها قامت على العناصر المحدّدة لرأس المال التقليدي
هذا كلّه يعني أننا نحتاج إلى نظريات اقتصادية جديدة، تتعامل مع اقتصاد رمزي يقوم على المعرفة، التي تختلف عن رأس المال في أنّها : (1) بإمكان عدّة أفراد استخدامها في الوقت نفسه، بعكس الأرض أو الآلة، (2) لا يحدث استهلاك لها، بل تنمو مع زيادة المستهلكين، (3) لا تخضع للاحتكار.
معنى هذا، أن رأس المال يسير في رحلة من الملموس المحسوس، إلى ورقة ترمز إلى أصول ثابتة إلى ورقة ترمز إلى رموز دائمة التغيير، في رؤوس العاملين .. و أخيرا، إلى نبضات إلكترونية ترمز إلى الورق، و هذا هو الاقتصاد فائق الرمزية
و هذه الثورة، تحظى بالمساندة المتزايدة، نتيجة للتغيّرات الثورية في طبيعة النقود . لقد اختفت النقود المعدنية بعد ظهور النقود الورقية، و تحوّلت النقود الورقية بعد ذلك إلى نبضات تعتمد على لغة الكمبيوتر
عمالة جديدة، و بطالة جديدة

هذه هي بعض أوجه الخلاف، بين الاقتصاد الذي ما زلنا نتكلّم عنه جميعا، و بين الاقتصاد الجديد الزاحف، الذي لا بد أن نفهم أبعاده، و نتعرّف على حقائقه الجديدة، تمهيدا لأن نعيد بناء اقتصادنا على أساس هذه الحقائق، إذا رغبنا في أن تكون لنا مكانة في عالم الغد
إلاّ أنّ الأمر لا يقف عند حد هذه الاختلافات التي أوردناها
في عصر الصناعة، كان من الممكن تنشيط الاقتصاد، و خلق وظائف جديدة، لمواجهة البطالة، عن طريق حقن السوق بمزيد من رأس المال، أو بدعم القدرة الشرائية عند المستهلكين . كان هذا الحلّ لمشكلة البطالة ممكنا، لأنّ طبيعة العمل كانت محدودة و عضلية و روتينية، ممّا يسمح بإحلال عامل محل آخر، دون توقّف الإنتاج
أمّا الآن، و في إطار تنامي العمالة العقلية أو المعرفية، و بعد أن تكفّل الكمبيوتر و الروبوت بمعظم الأعمال الروتينية القابلة للبرمجة، في المصنع و المكتب، فإنّ الحلول التقليدية لمشكلة البطالة تبدو غير قابلة للتطبيق .. إلاّ إذا فهمنا الصورة الشاملة للتغيّر ، و نبعت حلولنا من الفهم الجديد لطبيعة الاقتصاد الزاحف
الاقتصاد فائق الرمزية

الاقتصاد الجديد، فائق الرمزية، يقتضي رؤية جديدة للعمالة و الطاقة، و يقتضي في ذات الوقت رؤية جديدة للتقسيم التقليدي للنشاط الاقتصادي، كقطاعات زراعية و صناعية و خدمات . التغيّرات المتسارعة التي نلمسها اليوم في جميع أنحاء العالم، تهزّ جوهر ذلك التقسيم الحاسم
إذا سألنا أنفسنا : ما الذي يقوم به هؤلاء الناس ـ فعلا ـ في هذه الشركات، لتحقيق القيمة المضافة ؟ . لاكتشفنا أن الأعمال في القطاعات الثلاثة تتضمّن المزيد و المزيد من العمليات الرمزية، أو : العمل العقلي
هذا هو مجرّد جانب صغير من ملامح الاقتصاد الجديد، و ما لم نسعى إلى استكمال الرؤية، فإنّنا نعرّض اقتصادنا لهزّات مفاجئة، لا تحمد عقباها
و إلى الرسالة القادمة، لنرى طبيعة عمالة عصر المعلومات

السبت، أكتوبر ١٣، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات



حتمية إعادة بناء اقتصاد الدول النامية


تحدثنا في الرسالة السابقة عن أول الضربات التي تنتظر الدول النامية، نتيجة لدخول البشر إلى عصر المعلومات، نعني بذلك انقضاء جدوى بيع أو تأجير القواعد العسكرية للدول الكبرى . و اليوم نتحدّث عن الضربتين الثانية و الثالثة، و نعني بها عدم جدوى إقامة اقتصاد هذه الدول على بيع المواد الخام أو الوقود، و انتهاء مورد العمالة الرخيصة الذي كانت تعتمد عليه الدول التي تقيم تنميتها الاقتصادية على أساس تصدير المواد الخام المستخرجة من باطن الأرض، مثل النحاس و البوكسيت و الفحم و البترول، عليها أن تفهم طبيعة التحوّلات الحالية، التي تفقد هذه المواد الخام قيمتها، و تضعف الطلب عليها، و تهبط بعائدها إلى حدّ أن تتبدّد جدواها الاقتصادية

نفايات اليوم، تصبح ثروة في الغد

الموارد التي تعتبر حيوية هذه الأيام، قد تصبح بلا قيمة غدا .. و على العكس من ذلك قد تصبح نفايات اليوم ـ فجأة ـ ذات قيمة عظمى، هذا ما يقوله ـ عن حقّ ـ آلفن توفلر
لقد نظر العالم إلى البترول باعتباره خامة غير ذات فائدة، إلى أن زحفت تكنولوجيات الصناعة، و بصفة خاصّة آلة الاحتراق الداخلي، فصار البترول من الخامات الحيوية . و ظل التيتانيوم مجرّد مسحوق أبيض لا قيمة له، إلى أن أصبحت له أهمّية كبرى في صناعة الطائرات و الغوّاصات
و اليوم، تفعل الموصّلات فائقة القدرة، "سوبر كونداكتورز"، مثل هذا الانقلاب، فهي تعمل على تخفيض الحاجة إلى الطاقة، و تحدّ من الفاقد في عمليات نقل الطاقة الكهربائية . و هذه الموصّلات فائقة القدرة، تعتمد في صناعتها على خامات جديدة
و يقول أمبرتو كولومبو، رئيس جمعية العلوم و التكنولوجيا في مجموعة الدول الأوروبية، " في مجتمعات اليوم المتقدّمة الغنية، كلّ زيادة في الدخل القومي للفرد، ترتبط بارتفاع أقلّ قي كميات المواد الخام و الطاقة المستخدمة " . هذا بالإضافة إلى أن المعلومات و المعارف العلمية تزيد من قدرتنا على خلق مواد بديلة للمواد التي كانت الدول الكبرى تستوردها

مواد مخلّقة حسب الطلب
تصبح الاقتصاديّات المتقدّمة قادرة ـ في وقت قريب ـ على خلق تنوّع كامل من المواد المخلّقة حسب الطلب، اعتمادا على بعض النفايات التي لا قيمة لها
و العلم الجديد، "علم النانو تكنولوجي"، يتيح بناء آلات أصغر آلاف المرّات من شريحة الكمبيوتر فائقة الصغر . هذه الآلات نقوم ببنائها ذرة بذرة، و جزيء بجزيء ! . و هذا يعني أنّنا نتحوّل من المواد الخام هائلة الحجم، التي تشغل أكبر الموانئ و المخازن، إلى التعامل مع الذرات التي يمكن الوصول إليها بسهولة من خامات لا قيمة لها في الطبيعة، تتوفّر في أراضي و بحار كلّ دولة
و هذا يعني أن القوّة تتحوّل من منتجي المواد الخام، ضخمة الحجم، إلى أولئك الذين يتحكّمون في المعارف اللازمة لتخليق المواد الجديدة، التي لم تكن معروفة من قبل
تصدير العمالة الرخيصة

بعد انقضاء القيمة الاستراتيجية للأرض و القواعد، و بعد تناقص قيمة تصدير المواد الخام المستخرجة من المناجم و الآبار، نأتي للضربة الثالثة التي يحتمل أن تتلقّاها الدول النامية، نعني بذلك اعتمادها على تصدير العمالة الرخيصة كمورد من مواردها
في أعقاب الثورة الصناعية، سعت الدول الصناعية إلى البحث عن عمالة رخيصة، تدعم بها موقفها التنافسي بالنسبة للدول الصناعة الأخرى . و من ثمّ أقامت العديد من الدول النامية مستقبلها الاقتصادي على وهم بيع العمالة الرخيصة، باعتبار أن هذا سيقود إلى التحديث و مواكبة العصر . و نتيجة للنجاح الذي حققته بعض هذه الدول، مثل كوريا الجنوبية و تايوان و هونج كونج و سنغافورة، شاع اعتقاد في جميع أنحاء العالم، أن التحوّل من تصدير المنتجات و المحاصيل الزراعية و المواد الخام إلى تصدير البضائع المصنّعة المعتمدة على العمالة الرخيصة، هو السبيل الأمثل ـ حاليا ـ إلى التنمية و التطوّر
العمالة الرخيصة أكثر تكلفة

و مع هذا، فإن واقع الأمر على المدى البعيد، يقول عكس هذا تماما، باعتبار أن هذا التوجّه يتناقض مع الأسس الجديدة لخلق الثروة، و مع النظام العالمي الجديد الذي يسود العالم بأكمله . نقول هذا رغم أن لعبة العمالة الرخيصة مازالت تمارس في جميع أنحاء العالم
و السرّ في هذا أنه في ظل الاقتصاد الجديد لعصر المعلومات تصبح العمالة الرخيصة أكثر تكلفة بشكل متزايد، كما تصبح أجور العمّالة ذاتها عنصرا أصغر في التكلفة الكلّية للإنتاج . و على العكس من هذا، فإن التكنولوجيات الجديدة، و التدفّق الأسرع و الأفضل للمعلومات، و نقص المخزون، يمكن أن تساعد على خفض التكلفة، أكثر بكثير ممّا يمكن أن يحقّقه خفض تكلفة ساعات العمل
و هذا هو السر في أنّه من الممكن أن تكون إقامة مصنع متطوّر في اليابان أو أمريكا أو ألمانيا، يعتمد على عدد محدود من الموظّفين أصحاب التعليم المرتفع و المرتّبات العالية، أكثر ربحية من إقامة مصنع متخلّف في الصين أو البرازيل أو كوريا الجنوبية، يعتمد على جماهير كبيرة من العمالة منخفضة التعليم و الأجور

الاقتصاد المتسارع هو الحلّ

إلاّ أن القصة أبعد من مجرّد انقضاء الاعتماد على القواعد و المواد الخام و العمالة الرخيصة . فالاقتصاد الجديد ـ كما قلنا من قبل ـ يصنّف الدول كدول اقتصاد سريع و دول اقتصاد بطيء . الاقتصاد السريع شرط تحقّقه توفّر البنية التحتية الإلكترونية، التي يتطلّبها القيام بعمليات الاقتصاد فائق السرعة . أي أن المطلوب، ليس هو توفّر الموقع العسكري الاستراتيجي، و ليس توفّر الخامات والوقود و العمالة الرخيصة، و لكنّه توفر البنية الإلكترونية اللازمة للقيام بالعمليات الاقتصادية السريعة، مع توفّر البشر المؤهّلون للتعامل مع تلك البنية، بمعارفهم و بالإيقاع المناسب لها
الخبر السعيد

الخبر السعيد، وسط هذه المخاوف، و الذي يجب أن تعيره الدول النامية اهتمامها الأكبر، هو أن النظام الجديد لخلق الثروة يجيء معه بإمكانات مستقبل أفضل جدّا، بالنسبة للتعداد الضخم الذي يضم فقراء العالم لكن هذا مشروط بالتالي
* إدراك قادة الدول النامية لجوهر التغيّرات الحادثة، و لأهمّية سرعة الاتّصال و الانتقال، و سرعة التعامل مع المعلومات و المعارف
* إدراك أن رأس الحربة في تجاوز التخلّف، و اللحاق بالمجتمعات المتقدّمة، هو إقامة بنية تحتية إلكترونية متكاملة

* إعادة بناء التعليم على أساس العلوم الجديدة و التكنولوجيات المتطوّرة، لإرساء أساس العمالة العقلية التي يفرضها مجتمع المعلومات، و وفقا لمطالب النظام الجديد لخلق الثروة .. ذلك النظام فائق الرمزية، فائق السرعة
و سنحاول في رسالة قادمة أن نوضّح تفاصيل ذلك النظام الاقتصادي الجديد الذي يجيء به مجتمع المعلومات

الأحد، أكتوبر ٠٧، ٢٠٠٧

إقتصاد جديد لمجتمع المعلومات



أخبار غير سارة للدول النامية
الموقع ــ الخامات ــ العمالة الرخيصة
في عالم اليوم، أصبحت المعلومات و المعارف المفتاح الرئيسي في صراع القوّة العالمي الدائر . فما هو مستقبل الدول النامية، و الدول العربية بالتحديد، في إطار هذا كلّه ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، يحضرني تعليق للكاتب المستقبلي آلفن توفلر حول تعبير الدول النامية، فهو لا يميل إلى تعبير " الدول منخفضة التنمية "، الشـائعة في أدبيات الغرب، و يفضّل عليه تعبير" الد ول منخفضة التنمية الاقتصادية "، باعتبار أن الكثير من هذه الدول تكون على درجة عالية من النمو الثقافي، أو النمو في مجالات أخرى أيّا كانت التسمية، فهذه الدول لم تعد تشكّل مجموعة واحدة . و بمثل ما يتنوّع كلّ شيء في حياتنا، نتيجة لثورة المعلومات، فقد انقسمت هذه الدول و تنوّعت و تمايزت، وفقا لمدى أخذها بأدوات مجتمع المعلومات، و من ثمّ وفقا لمكانتها في صراع القوّة العالمي الدائر

مجموعات الدول النامية

ما هو الوضع الحالي لما يطلق عليه تعبير الدول النامية؟
• هناك مجموعة من الدول شديدة الفقر، التي ما زالت تعتمد ـ في الأغلب ـ على العمالة الزراعية، بالطريقة التي شاعت خلال عصر الزراعة، و أمثلتها عديدة في آسيا و أفريقيا
• و مجموعة أخرى تحقّق لها وجود صناعي مؤثّر، و أخذت بالأسس و المبادئ الخاصّة بالمجتمع الصناعي، لكن الزيادة السكّانية بها جمّدت انطلاقها التنموي .. مثل مصر و البرازيل و الهند
• ثم هناك أخيرا، مجموعة دول جنوب شرق آسيا، التي استكملت تصنيعها، و بدأت تتحرّك بسرعة تجاه صناعات و خدمات عصر المعلومات.. مثل تايوان و كوريا الجنوبية و سنغافورة
داخل كل مجموعة من هذه المجموعات الرئيسية للدول النامية، يتزايد التمايز و الخلاف، وفقا للفهم و القدرة على التطبيق، فتنقسم كلّ منها إلى مجموعات فرعية
الدول السريعة و البطيئة

بعد الحرب العالمية الثانية، جرى تقسيم العالم إلى دول رأسمالية و دول اشتراكية، و إلى دول شمال و دول جنوب . إلاّ أن هذه التقسيمات تفقد دلالتها اليوم، مفسحة المجال لتقسيمات نابعة من طبيعة التحوّل العالمي، الذي تحدثه ثورة المعلومات، و تعجّل بإيقاعه
من بين أهمّ هذه التقسيمات الجديدة، تقسيم العالم إلى دول سريعة، و دول بطيئة .. أو بشكل أدقّ: دول الاقتصاد السريع، و دول الاقتصاد البطيء .. تماما كما يجري تقسيم أصناف الكائنات وفقا لسرعة نظامها العصبي .
يشرح توفلر هذا، فيشير إلى أن التكنولوجيا المتطوّرة تتيح زيادة سرعة الإنتاج، ثم يستدرك قائلا أن هذا هو أبسط ما في الأمر، ذلك لأن إيقاع الإنتاج يتحدّد بسرعة تبادل الاتّصالات، و بالوقت اللازم لاتّخاذ القرارات، خاصّة في مجال الاستثمار، و بالمعدّل الذي يصل فيه ذلك الإنتاج إلى السوق، و بسرعة تدفّق رأس المال .. و فوق هذا كلّه، بالسرعة التي تنبض بها البيانات و المعلومات و المعارف في النظام الاقتصادي .
خلاصة القول، أن الاقتصاديات السريعة تولّد الثروة و من ثمّ القوّة، بشكل أسرع ممّا يحدث في الاقتصاديات البطيئة
الضربات الثلاث المتوقّعة

النظام الجديد لخلق الثروة في العالم، يفرض على قادة الدول النامية أن يدركوا طبيعة هذا التحوّل، و أن يتّخذوا الخطوات اللازمة لإعادة البناء الاقتصادي لبلادهم، حتّى لا يتم إقصاء دولهم عن الأسواق العالمية، و عزلها عن الاقتصاد الديناميكي
لكي يدرك قادة الدول النامية أهمّية الإسراع بعملية إعادة البناء الاقتصادي لدولهم، نستعرض ثلاثة تحوّلات اقتصادية مهمّة تتعرّض لها الآن معظم الدول النامية، و هي تنبع بشكل مباشر، أو غير مباشر، من زحف النظام الجديد لخلق الثروة في عالمنا عند تحديد مدى قوّة الدولة أو ضعفها اقتصاديا، يثار سؤال أساسي ما الذي لدى هذه الدولة، ممّا يمكن أن تبيعه للعالم ؟ و يمكننا أن نحصر ما يمكن أن تبيعه الدول النامية، أو بشكل أصحّ ما كان ممكنا تقليديا، أمكننا أن نحصر ذلك في ثلاثة موارد أساسية، هي :
المواقع الاستراتيجية من الأرض
المواد الخام المستخرجة من باطن الأرض
العمالة الرخيصة
هذه الموارد ـ بالذات ـ تعرّض الدول النامية في المستقبل القريب لثلاث ضربات موجعة، تؤثّر على اقتصادها، نتيجة للتغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات
انقضاء العصر الذهبي للحرب الباردة
سنقصر الحديث اليوم على المورد الأوّل التقليدي الذي كان من الممكن لبعض الدول النامية أن تقدّمه لباقي العالم، لوقت ما، نعني بذلك الموقع الاستراتيجي . و رغم أن الاقتصاديين عادة ما يسقطون اعتبار الأرض ذات القيمة الاستراتيجية عسكريا من بين الموارد القابلة للبيع، إلاّ أن هذا المورد شكّل دخلا لا يستهان به، بالنسبة للعديد من دول آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية . لقد كانت الدول الكبرى تبحث عن دعم لقوّتها العسكرية و السياسية، و من ثمّ أبدت استعدادا دائما لأن تدفع في سبيل ذلك، و خاصّة خلال سنوات الحرب الباردة
ومع هبوط حدّة التوتّرات التي كانت قائمة بين الولايات المتّحدة و الاتّحاد السوفييتي، شعرت دول العالم الثالث أن العصر الذهبي للحرب الباردة قد انقضى
تحالفات قصيرة المدى

و يرجع تدهور سوق المواقع الاستراتيجية، و التسهيلات العسكرية إلى عدّة أسباب
• تطوّر قدرات النقل، و اتساع مدى رحلات الطائرات و الصواريخ، و تكاثر نشاط الغوّاصات الأعلى كفاءة، ممّا قاد إلى تناقص الحاجة إلى تسهيلات الصيانة و الإمدادات
• و حتى عندما تعمد القوى الكبرى مستقبلا إلى مواصلة البحث عن القواعد أو إنشاء مراكز تنصّت على الأقمار الاصطناعية، أو إلى بناء مطارات أو البحث عن تسهيلات للغوّاصات في أرض أجنبية، فإن "عقود الإيجار" ستكون لزمن قصير، فالتغيّرات المتسارعة الحالية تجعل التحالفات قصيرة العمر، و مؤقّتة
• و إذا كان صعود القوّة العسكرية لليابان في الباسفيكي ـ على سبيل المثال ـ يمكن أن يدفع الفليبين و غيرها من دول المنطقة إلى الترحيب بالولايات المتّحدة، أو غيرها من الدول العظمى، بهدف تحقيق التوازن في وجه أي تهديد ياباني محتمل، فإن هذه الدول النامية سيكون عليها أن تدفع ثمن حمايتها، لا أن تقبض
انتهاء عصر الاعتماد على بيع أو تأجير الأراضي ذات الموقع الاستراتيجي، سيخل بتوازن القوى المرهف بين الدول النامية، و يقود ـ مستقبلا ـ إلى عمليات تحوّل في القوّة داخلها، بشكل معقّد للغاية . هذا عن الضربة الأولى التي تنتظر الدول النامية .. أمّا الضربة الثانية فستأتي من إقامة تنميتها الاقتصادية على أساس تصدير المواد الخام و الوقود

و هذا هو موضوع الرسالة القادمة

الخميس، أكتوبر ٠٤، ٢٠٠٧

من المسئول عن غياب المشروع المستقبلي لمصر؟

مصري يفكّر في مصر من باريس
درويش الحلوجي .. مفاجأة سعيدة

كنت أفكّر في أن تكون رسالتي هذه حول " الأخبار غير السارّة الي تنتظر لدول النامية " و لكنّي آثرت أن أنشر هذه الرسالة، التي أرسلها مصري يفكر في مصر و هو على أرض فرنسا .. بعكس الطبقة الحاكمة و بعض القيادات الفكرية عندنا، التي تفكّر في الولايات المتحدة الأمريكية، و هي تمرح في خيرات مصر . ما علينا..دعوني أتدارك تقصيري في تأخّر نشر هذا الخطاب، و أفرد له هذه لرسالة بأكملها، لكي نرأها و نتدارس معا ما بها من أفكار إليكم خطاب المفكّر و الكاتب المصري درويش الحلوجي
عزيزي راجي عنايت
الآن يمكن ان اكتب اليك بعض الملاحظات على مقالك الاخير

اولا- كل الأفكار التى اوردتها فى مقالك تصب فعلا فى رؤية مستقبلية تأخذ بها دولا ومؤسسات عديدة ولا اعتقد ان فى مصر من يمتلك مثل هذه الرؤية التى هى فى الاساس منهج فى التفكير وما يحدث فى مصر الآن ونراه جميعا لا يدل على وجود شئ من ذلك.
ثانيا- مع اتفاقى الكامل للأفكار التى عرضتها اود ان اركز على ملاحظة تتعلق بمسألة نظام السوق او الاقتصاد الحر وهى كلمات قد تختلط عند البعض خصوصا لانها تستخدم فى غير موضعها، كيف؟ الاجابة تكمن فى الرد على تساؤل منطقي هو هل الاقتصاد فى خدمة البشر ام البشر فى خدمة الاقتصاد؟ الاجابة على هذا السؤال تحدد مدى جدية السياسات والاستراتجيات التى يتبعها بلد أو مجتمع ما. اذا استبدلنا كلمة اقتصاد السوق او الاقتصاد الحر بكلمة الحداثة ذلك ان هدف اى نظام اقتصادي او سياسي/اجتماعي هو تحديث المجتمع والوصول به الى حالة افضل فى كل المجالات، فإننا نلاحظ دون كثير من الجهد ان تحقيق المشروع الحداثي متعدد الطرق ولا يتبع نموذجا واحدا فقط. لكن من يتولون الأمور هنا فى مصر لا يرون طريقا لتحقيق تحديث مصر الا النموذج الغربي وتحديدا النموذج الامريكي وهو ما يفسر ذلك الخلط لدى هؤلاء بين العولمة والأمركة فالنموذج الاوروبي على سبيل المثال لا يتبع النموذج الامريكي بل يتصدى له فى مجالات كثيرة لعل اهمها مجالي الثقافة والمنتجات الزراعة (مؤتمرات منظمة التجارة العالمية والمؤتمر العام لليونسكو الاخيررفضا المقترحات الامريكية بتسليع الثقافة على سبيل المثال).
لقد حققت دولا كثيرة تتربع الآن على قمة الهرم الحداثي العالمي مشروعها الحداثي واندمجت فى نظام السوق العالمي دون ان تفرط فى هويتها او استمرارية نظامها الاجتماعي السياسي والتعليمي وربما مثال الصين لايحتاج الى تدليل على صحة هذه المقولة فالصين اليوم فى مقدمة الدول التى انجزت مشروعها الحداثي دون ان تتخلى عن هويتها الثقافية بل ونظامها السياسي الاجتماعي (لايزال الحزب الشيوعي هو الحزب الذي يقود هذا المشروع!) كما ان روسيا الحالية قد حققت نفس مشروعها الحداثي تحت راية الحزب الشيوعي السوفييتي (ذلك ان البنية الاساسية للمشروع الحداثي تمت فى الحقبة السوفيتية)، ولا يوجد فى كل من الصين وروسيا حاليا أي تهديد لكل من اللغتين الصينية والروسية كما هو الحال الذي تواجهه اللغة العربية فى مصر مع وجود نظم تعليمية متعددة الجنسيات وجامعات أجنبية كادت ان تصل الى جامعة لكل بلد أوروبي بالاضافة الى كندا ناهيك عن الجامعات الخاصة التى لانعلم كيف تعمل وماذا تقدم وأي نوعية من البشر تفرخ
بل يمكننا ان نذهب الى ما هو ابعد من الامثلة السابقة فنرى دولا شمولية حققت مشروعها الحداثي فى ظل نظام حكم دكتاتوري يقوده جنرالات كما هو الحال فى كوريا الجنوبية واخيرا ربما يكون المثال الياباني خير معبر عن صحة هذه المقولة فالنظام السياسي/الاجتماعي الياباني الذي انجز ما حققته اليابان هو نظام يمكن تصنيفه بالاقطاعي حيث الامبراطور هو رمز وتجسيد لعقيدة تتضمن الولاء والطاعة العمياء وتقديس لتعاليم ومبادئ فلسفات وعقائد والامثلة كثيرة من البرازيل الى الهند الخ.
ثالثا- اصل هنا الى نقطة اتفاق اخرى جاءت فى مقالك تتعلق بعدم وجود مشروع حداثي مستقبلي فى مصر. هنا يبرز سؤال او اكثر: لماذا؟ من المسؤول؟ هل تفتقد مصر العقول التى يمكنها صياغة مثل هذا المشروع؟ وما اسباب افتقاد الرؤية المستقبلية هذه؟ لماذا لم تستطع مصر انجاز مشروعها الحداثي بعد مرور أكثر من نصف قرن على محاولتها الأخيرة؟ هل يكمن السبب فى ضعف وهشاشة النخب السياسية والفكرية المصرية ام ان هناك تفسير آخر؟
هل الأليات التى تتشكل بها النخب المصرية حاليا من تعدد نظم التكوين والتعليم يمكن ان تؤدي الى تحقيق مثل هذا المشروع أم على العكس ستشكل عاملا هادما ومدمرا لتوازن البناء الاجتماعي وتوافق وتجانس المناخ الثقافي والفكري السائد فى المجتمع المصري؟
هذه الأسئلة وأسئلة اخرى كثيرة تحتاج الى تأمل جدي بعيدا عن تهريج المعالجات التلفزيونية او الصحفية السريعة. للإجابة على هذه الاسئلة المركبة والمتشعبة ربما يكون من المفيد القاء نظرة نقدية وتحليلية فى نفس الوقت على مسار المجتمع المصري خلال النصف قرن الاخير وتحديدا منذ قيام نظام يوليو عام 1952 وهنا نسجل ما يلي :
أحدث نظام يوليو قطيعة مع نظام استمر مايقرب من القرن ونصف القرن أى منذ اعتلاء محمد على السلطة وتولى اسلافه من بعده حكم مصر حتى قيام نظام يوليو
المسيرة المصرية الحديثة

بدأت مصر مسيرة جديدة تماما منذ عام 1952 فتم تغيير نظام الحكم الى نظام جمهوري وتداعت التغيرات وتم تبني سياسات تحمل ملامح مشروع لتحديث مصر انتهج سياسات التصنيع والاستقلال الوطني وانحياز اجتماعي واضح لطبقات اجتماعية على حساب طبقات طبقة او شرائح اجتماعية اخرى واستمرت هذه المرحلة من نظام يوليو حتى وفاة عبد الناصر فى سبتمبر عام 1970 ، ويمكن ان نعرف هذه المرحلة بمرحلة بناء الاشتراكية على الطريقة الناصرية مع ملاحظة ان هذه الاشتراكية كانت تفتقد الى الاشتراكيين وهو مايفسر ان القرارات والقوانين التى شكلت اساس هذه المرحلة كانت تتم بشكل فوقي يعتمد اساسا على كاريزمية الزعيم التاريخي لهذه المرحلة!
مع مجئ السادات حدث الانقطاع الثاني خلال اقل من عقدين لكن هذه المرة من داخل نفس النظام اى نظام يوليو مع دخول النظام الى مرحلة ثانية تمثلت فى التخلي عن المشروع الاساسي وتصفية رموزه ضمن عملية الصراع على مقاليد السلطة
بنجاح السادات فى القضاء على ما اطلق عليه مراكز القوى وهو تعبير عن رموز مشروع نظام يوليو فى مرحلته الناصرية فقدالنظام مضمونه الايديولوجي وحدث تفكك و فراغ عقائدي فى المشروع التحديثي الذي بدأ عام 52 ولم يجد السادات امامه الا ان يملأ هذا الفراغ بالايديولوجية الدينية فأعاد جماعة الاخوان وجريدتها الدعوة كما قام بخلق جماعات اسلامية باستخدام ادوات التنظيم السياسي الوحيد الذي كان قائما ختى ذلك الوقت وهو الاتحاد الاشتراكي العربي الذي تولى مسؤول التنظيم فيه محمد عثمان اسماعيل تمويل وتجهييز الجماعات الاسلامية التى اوكل اليها التصدى للحركات السياسية فى الجامعة بشكل اساسي فى ذلك الوقت (الحركات الطلابية 1972-1973). استمر محمد عثمان اسماعيل فى مهمته الخاصة بخلق وتجهييز الجماعات الاسلامية بعد ذلك من محافظة اسيوط التى عين محافظا لها وهذا عامل من بين عوامل اخرى لما تحتله هذه المحافظة من ثقل لنفوذ هذه الجماعات. بجانب ذلك كان عثمان احمد عثمان رجل الاقتصاد القوي وصهر السادات يقوم بنفس المهمة فى معسكرات التثقيف الديني التى كان يقيمها سنويا بمدينة الاسماعيلية لشباب الجماعات الدينية كل عام
استدار السادات دورة كاملة على المشروع الذي بدأ عام 52، وبعد استبدال الاشتراكية بأيديولوجية ذات مضمون ديني واضح مع تغير الخطاب السياسي واستبدال الشعارات السابقة بشعارات تعكس توجه المرحلة مثل دولة العلم والايمان واخلاق القرية واصدار قانون العيب بل ان الامر وصل الى حد الحديث عن امكانية عودة الخلافة ! لكن هذه المرحلة الثانية من نظام يوليو لم تستمر طويلا حتى تحقق اهدافها حيث شهدت اضطرابات اجتماعية وسياسية عديدة لعل اخطرها واشهرها انتفاضة يناير 1977 التى عكست مدى الازمة التى وصل اليها نظام السادات المتسرع الى إعادة النظام الرأسمالي لكن بلا راسماليين
حاول السادات خلق طبقة او شريحة راسمالية عن طريق سياسة الانفتاح الاقتصادي والقوانين التى سنت على عجل لتسهيل ظهور هذه الطبقة لكن النتيجة كانت مجموعات حققت ثروات مالية سريعة عن طريق الاتجار فى العملة وتهريب المخدرات وما عرف بعد ذلك بقضايا الفساد التى قدم بعضها للمحاكمات مع بداية حكم مبارك (رشاد عثمان وعصمت السادات شقيق الرئيس السابق نفسه). وانتهت هذه المرحلة ثانية من نظام يوليو كما نعرف جميعا بإغتيال السادات من قبل من خلقهم هو نفسه وذلك وسط جيشه واثناء العرض العسكري الذي يرمز الى اهم انجاز التصق باسمه اى حرب اكتوبر.
بإغتيال السادات انتهت المرحلة الثانية من نظام يوليو ومع مجئ مبارك كان الوضع المصري فى وضع سيريالي ! لقد هدم السادات مشروع ناصر الوطني ذو الابعاد أو الملامح الاشتراكية ولم ينجح السادات فى تحقيق حلمه او مشروعه بعودة الرأسمالية على الرغم من كل الشعارات والقوانين والتسهيلات وكم الفساد الذي ساد هذه المرحلة بهدف خلق طبقة راسمالية تتولى قيادة او تحقيق مشروع مصر وفقا لرؤيته
الأوضاع الحالية السيريالية

استمر الحال السيريالي مدة اكثر من عقد شهدت مصر خلالها حالة من الارتباك الايديولوجي وغياب المشروع المستقبلي ذلك ان من اغتالوا السادات كانوا هم ممثلوا الايديولوجية التى استعان بها السادات لمواجهة الايديولوجيات الاخرى المعارضة له سواء كانت وطنية ليبرالية او يسارية اشتراكية او ناصرية قومية (حملة الاعتقالات التى سبقت اغتيال السادات شملت جميع هؤلاء) كما تصاعدت اعمال العنف السياسي والمجتمعي بشدة كان ابرز تجسيد لها تمرد قوات الامن المركزي 1986 و وموجات العنف الديني المسلح فى التسعينيات.
بعد حالة التوهان الايديولوجي والسياسي التى استمرت اكثر من عقد ونصف العقد بدأ مبارك فى حسم توجهه فى الاستمرار فيما بدأه السادات مع استخدام لعبة التوازن مع التيارات السياسية الورقية التى تم خلقها على الخريطة الافتراضية للحياة السياسية المصرية بعد الغاء الاتحاد الاشتراكي وخلق المناير التى تحولت الى احزاب بقرارات رئاسية فوقية وهو العامل المشترك القوى الذي لم يتغير مع تغير المراحل المختلفة لنظام يوليو اى الاحتفاظ بهيمنة جكم الفرد مع اختلاف مشروعية كل من المراحل الثلاث. منذ اواسط التسعينيات بدأت سياسات دفع الاقتصاد المصري و محاولة الاسراع فى التحول الرأسمالي بمساعدة من ووفقا لسياسات وشروط البنك الدولي والمؤسسات الدولية الاخرى مثل صندوق النقد الدولي ومجموعة باريس الخ، وبسبب فرادة التجربة من الناحية الاقتصادية كانت قضايا الفساد التى شهدتها هذه السنوات ولا زالت شاهد على فشل هذا التحول بل وعلى مايحمله من افاق كارثية مستقبلية للمجتمع المصري بل وللنظام السياسي القائم ذاته. الفشل كان اكثر وضوحا فى فترتي عاطف عبيد والجنزوري وكان التداخل وازدواجية الخطاب الذي لايزال يستخدم مصطلحات المرحلة الاولى والثانية لنظام يوليو بالاضافة الى قاموس المصطلحات الجديدة المتضمن فى برامج البنك الدولي وبيوت الخبرة وهو ما نراه ونسمعه كلما تحدث احد من مسؤلي الحزب الوطني وخصوصا اعضاء لجنة السياسات والهيئات الملحقة به مثل دورات شباب رجال الاعمال وشباب الحزب والمرأة الخ, يكفي ان تستمع الى تلك الاسطوانات المشروخة عندما يتحدث واحد من هؤلاء عن تسويق المنتج وجودة المنتج والحديث عن الثقافة والتعليم كمنتج لتعلم انه يكرر ما تلقنه فى دورات هذا الكيان الحزبي
لكن المأساة بل الجريمة التى ترتكب فى حق مصر ان من يقوم على إعداد وهيكلة هذه الدورات وتفريخ هذه النوعية من الشباب هم أنفسهم الذين كانوا يقومون بهذه المهمة فى المرحلتين الاولى والثانية من نظام يوليو حيث كانوا يقومون بتكوين كوادر الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب الاشتراكي العربي فى المرحلة الناصرية من خلال محاضراتهم عن الاشتراكية والنظريات الاجتماعية والنظرية الماركسية الخ، وهم انفسهم الذين تولوا هذه المهمة فى المرحلة الثانية فى عهد السادات من خلال مواقعهم كوزراء للتعليم والاعلام وهاهم يمارسون نفس الدور فى هذه المرحلة الثالثة فى عهد مبارك بعد ان غيروا مضمون الخطاب الذي يشكلون به نخب الحزب والدولة للمرة الثالثة. لايحتاج الامر الى أى جهد لاستدعاء الأسماء فهم حاضرين دائما والدور الذي قاموا ولايزالوا يقومون به يشكل احد اهم العوامل التى ادت الى ما ألت اليه الاحوال المصرية. الاسماء ليست قليلة لكن هؤلاء المثقفوقراط والتكنوبيروقراط يجب محاسبتهم على ما الحقوه بمصر من ضرر طوال نصف قرن، يكفي ان نعلم ان ثلاثة من هؤلاء تولوا أمانة تنظيم الشباب الاشتراكي العربي وكانوا مسؤولين مباشرة عن برامج التثقيف وإعداد الكوادر لجيلين من شباب مصر: حسين كامل بهاء الدين واحمد ابو المجد ومفيد شهاب وبالطبع لايمكن نسيان على الدين هلال اما فى المجال التشريعي وشخصنة القوانين فإن اسم فتحي سرور واللجان التى تتبعه لا يحتاج الى تذكير
الآن، بعد هذا العرض الموجز لنصف قرن شهد ثلاث انقطاعات (الاشتراكي القومي- الشعبوي المتمسح بالدين- الرأسمالي المتعولم) هل يمكن لنا ان نستنتج ان الفشل فى تحقيق هذا المشروع يكمن فى هذا التخبط الذي تحلت به النخب المصرية التى تولت أمور حكم مصر خلال النصف قرن الاخير؟ ودون الدخول فى تحليل سوسيولوجي لطبيعة هذه النخب يكفي ان نرصد عامل مشترك يجمع بينها وهو الأصل والتكوين العسكري لرأس النظام، ونحن نعلم مدى خطورة واهمية الدور الذي يلعبه من يتربع على قمة نظام الحكم شديد المركزية فى مصر. لكن التحليل السوسيولوجي للتحولات البنيوية التى طرأت على المجتمع المصري خلال العقود الثلاث الاخيرة لابد ان يأخذ نصيبه من الاهتمام
الثقافة البدوية الوهابية
ان فهم ما يحدث فى مصر الآن لا يمكن ان يتم دون فهم الدور الذي لعبته موجات العمالة المصرية التى ذهبت بالملايين للعمل فى دول الخليج البترولية ثم عادت محملة ببعض المدخرات ولكن الاخطر انها حملت معها فكرا وثقافة بدوية نشهد مظاهرها بوضوح الآن. لكن حتى هذه الثقافة البدوية أو الوهابية لم تكن لتحقق مثل هذا الانتشار فى المجتمع المصري الذي يتميز تاريخيا بثقافة وبناء فكرى اكثر تقدما بلا ادنى شك، نقول ان ذلك لم يكن ليتحقق بدون تواطؤ داخلي عمل على اضعاف بل وتفكيك المكونات الثقافية والتراث الفكري الذي راكمه المجتمع المصري خلال القرن العشرين ونهايات القرن التاسع عشر، من هم المتواطئون؟ اين يوجد حصان طرواده الذي يسهل ويعمل على تمكين ثقافة وفكر اكثر تخلفا كي ينتشر ويهدد الفكر المستنير او الاكثر تطورا؟ علينا قبل ان يحدث الطوفان البحث عن حصان طرواده فالمعركة لازالت طويلة. حصان طرواده فى الاعلام وفى التعليم وفى الثقافة، هنا مربط الفرس

ملحوظة
بالنسبة لموضوع الدراسات المستقبلية سيكون لنا حوارات مفصلة وبهذه المناسبة يسعدني ان اخبرك بانني قد ترجمت مع بعض الزملاء كتابا هاما فى هذا الموضوع لمنظمة اليونسكو وهو كتاب مفاتيح القرن الحادي والعشرين
Keys to the 21st Century
ولأسباب ادارية ويونيسكوية كان هناك عقد آخر لترجمة نفس الكتاب مع مجموعة من اساتذة الجامعة فى تونس ولقد صدرت الطبعة الشمال افريقية ولم تصدر ترجمتى او الطبعة المصرية حتى الآن لكن هناك اتصالات وجهود لأخذ موافقة اليونسكو لإصدار هذه الترجمة فى مصر بسعر يكون فى متناول كل من يهتم بهذا الموضوع. الكتاب هو حصيلة حوارات وسيمينارات دارت طوال السنوات الاخيرة من القرن العشرين بين علماء واخصائيين ومفكرين وفلاسفة الخ. العديد منهم حاصلين على جوائز نوبل فى مجالات مختلفة من الفيزياء الى الكيمياء والاقتصاد والسلام الخ. والنسخة الانجليزية للكتاب تقع فى حوالي 400 صفحة من القطع الكبير والطبعة الفرنسية فى اكثر من خمسمائة صفخة. ويقع الكتاب فى خمسة اجزاء تغطي كل ما يمكن ان نتصوره من مجالات النشاط الانساني من طبيعة المستقبل ذاته فى ابعاده الفلسفية والابستمولوجية ومستقبل الانواع وكوكب الارض ثم مستقبل الثقافة والتعليم والتعددية فى هذين المجالين وبعد ذلك تناول لمستقبل العيش معا أو نحو عقد اجتماعي جديد واخيرا مستقبل العالم فى ظل العولمة أو نحو عقد اخلاقي جديد، ويحتوى كل قسم من هذه الاقسام على عشرات المداخلات او الدراسات التفصيلية
فى النهاية اعتقد ان حوارات كثيرة ستبدأ وآمل ان يكون هناك فى مصر الآن من يهتم بهذه القضايا المتعلقة بالروئ المستقبلية على اساس علمي حقيقي
تحياتي
درويش الحلوجي
باريس 29 مايو ‏2007‏

الثلاثاء، أكتوبر ٠٢، ٢٠٠٧

التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري

تفكير زمن التغيير الشامل

لا شك أن التصدّي لمهمة مواجهة أسس جديدة للحياة، تترتب عليها علاقات اجتماعية و اقتصادية و سياسية جديدة، كما كان لأمر عند الانتقال من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، و كما هو الحال ـ اليوم ـ مع انتقال البشرية ن عصر الصناة إلى عصر المعلومات ذلك النوع من التصدّي يحتاج إلى توفر مجموعة من المزايا العقلية، و الضوابط الأساسية في عمليات التحليل و التركيب الفكري، و من بين ذلك القدرة على ممارسة نوعين خاصين من التفكير، و ليس الوقوف عند حد التفكير المنطقي التقليدي هما : التفكير الناقد، والتفكير الابتكاري

التفكير الناقــد

في زمن التغيير الشديد المتلاحق الذي نعيشه، و الذي تحكم حياتنا فيه أسس و مبادئ و عقائد جديدة علينا، تختلف في معظم الأحيان مع ما كنا نأخذ به، بل و تتناقض مع في كثير منها . في هذا الزمن نحتاج إلى إبداء حرص شديد في تناولنا للأفكار و المعاني و الأوضاع السائدة،حتى لا نقع ـ شعوريا أو لاشعوريا ـ في أخطاء تفكير تعوق وضوح رؤيتنا
التفكير الناقد يمكن أن يكون خير معين لنا في هذا المجال، فهو يتيح أن ندرك تنوّع القيم و ضروب السلوك و أنماط البناء المجتمعي في العالم . و هو يستوجب امتحانا دائما للافتراضات التي نأخذ بها، والتعرف على السياق الذي تخرج منه أفكارنا و عقائدنا، لنتأمل إذا ما كان ذلك السياق يتفق مع سياق حياتنا الحالي و المستقبلي
و من مقومات التفكير الناقد
( 1 ) التعرّف على الافتراضات و تحدّيها
من أهم أسس التفكير الناقد، محاولة التعرف على الافتراضات التي يقوم عليها تفكيرنا و ضروب سلوكنا . ثم امتحان هذه الافتراضات، و التحقّق من مدى سلامتها و اتفاقها مع واقع الحياة التي يعيشها . علنا أن نتساءل بالنسبة لكل ما نأخذه مأخذ التسليم، و نعتبره من الأمور البديهية، سواء في تنظيم العمل، أو في العلاقة مع الآخرين، أو في الأساس الذي يقوم عيه التزامنا السياسي و العقائدي ( 2 ) الانتباه إلى السياق الذي تنبع منه الافتراضات
عندما نعي أهمية الافتراضات الخفية في تشكيل عاداتنا الإدراكية، و في فهمنا للأمور، و في تفسيرنا للعالم من حولنا، و في سلوكنا .. عندما يتحقق هذا، نصبح أكثر إدراكا لمدى تأثير السياق الذي تنبع منه تلك الافتراضات . ممارس التفكير الناقد، يعلم أن الممارسات و التصرفات و الترتيبات الاجتماعية لا تكون بلا سياق يحكمها
( 3 ) تصور و امتحان البدائل
من الأمور الأساسية في التفكير الناقد، القدرة على تخيّل و امتحان بدائل للطرق الحالية التي يلتزم بها الفرد في تفكيره و في حياته . ممارس التفكير الناقد، عندما يتحقّق من أن العديد من أفكاره و تصرفاته تنبع من افتراضات قد لا تكون مناسبة لحياته الراهنة، ينشغل دوما باكتشاف و امتحان طرق جديدة للتفكير و التصرف . و هو يعي دائما أثر السياق في تشكيل كل ما يعتبره عاديا و طبيعيا
( 4 ) التشكك التأمّـلي
عندما نكتشف بدائل جديدة لما كنّا نفترض رسوخه من نظم الاعتقاد و السلوك التي تعودنا عليها، نصبح أكثر تشككا فيما يمكن أن نسميه "الحقيقة النهائية"، أو " التفسير الكامل" الذي لا يمكن أن يلحق به الخلل من أي جانب، و هو ما نطلق عليه :التشكّك التأمّلي

الذين يمارسون التشكك التأملي، لا يأخذون الأمور على علتها . و هم يدركون أن التمسك بممارسة ما أو الاعتماد على بنية ما لزمن طويل، لا يعني أنها الأنسب لجميع الأزمان، و بالتحديد للحظة الراهنة. كما أن مجرّد قبول الفكرة من الجميع، لا يعفينا من امتحانها على أرض الواقع الراهن، ثم نقبلها أو نرفضها وفقا لما نتوصل إليه

التفكير الابتــكاري

التفكير الابتكاري، هو الذي يتيح لنا الوصول إلى البدائل الجديدة التي يدعو التفكير الناقد إلى البحث عنها . و الابتكار الذي نتحـدّث عنه، يتسع عن مجال الابتـكار الذي يمارسه المخترعـون و الفنانون و الأدباء . إنّه الأداة الضرورية للعامل العقلي الذي يسود مجال العمل في عصر المعلومات . و هو الابتكار المنظّم الذي يمكن للفرد العادي أن يتدرّب عليه
المشكلة هي أن التعامل مع التغيّرات الحالية، و مع المجتمع الجديد الذي تقود إليه، لا يجدي فيه الاعتماد على الأفكار أو الخبرات أو النظريات أو العقائد أو الأيديولوجيات النابعة من عصور سابقة، كعصر الزراعة أو عصر الصناعة . نحن في حاجة دائمة إلى تفكير ابتكاري، يفتح لنا سبلا جديدة لم نكن نعرفها من قبل، و يوفّر لنا بدائل متعددة جديدة لحل مشاكلنا، و تجويد عملنا، و إعادة بناء واقعنا وفقا لاحتياجات المجتمع الجديد، مجتمع المعلومات
التفكير الابتكاري، هو طوق النجاة، عندما نفشل في الوصول إلى حلول نعتمد فيها على جمع المعلومات و معالجتها، و تسليط المنطق التقليدي عليها . فالابتكار يتيح لنا الخروج من قبضة الخريطة المحفورة في مخّ كل واحد منّا، و يفتح الباب أمام الحلول الجديدة غير المسبوقة، التي تنسجم مع ما تقتضيه احتياجات المجتمع الجديد
و إذا كان استشراف المستقبل هو موضوعنا الأساسي، فالتفكير الابتكاري هو وسيلتنا لاستشراف المستقبل . قد نستطيع أن نحصل على بيانات كاملة عن الماضي أو الحاضر، لكن من المستحيل أن نصل إلى بيانات كاملة عن المستقبل.. بإمكاننا أن نصل إلى جانب من صورة المستقبل، بدراسة مؤشّرات التغيير الأساسية الراهنة، على صورة سيناريوهات مستقبلية
هذه فكر عاجلة عن هذين النوعين منن التفكير: التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري
و لمن يريد التوسّع في معرفة شاملة في هذا الموضوع، أحيله لى الموقع الخاص بالابتكار، عنوانه

و إلى رسالة قادمة .. راجي