الأربعاء، ديسمبر ١٧، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل


لقاء ساليزبورج..

ماسودا .. و التجربة اليابانية

كنت مقتنعا بالأثر المحوري لتدفّق المعلومات و المعارف في تحوّلنا إلى مجتمع المعلومات . و مع ذلك، لم أكن أفهم كيف يمكن أن تنقلنا تكنولوجيا معيّنة من مجتمع إلى آخر يختلف تماما في طبيعته . و تشاء الصدفـة أن أعثر على إجابة لهذا التساؤل في مدينة سالزبورج الجميلة بالنمسا ! .
سافرت إلى هناك في بداية التسعينيات، لكي أشارك في أحد مؤتمرات " جمعية مستقبل العالم " التي أنتمي إليها . و أيضا لتقديم ورقة حول " الدول النامية، و مشاكل العبور إلى المستقبل " . كان الموضوع يشغل بالي، و يحظى بتفكير متواصل عندي : ما الذي تفعله مصر، و غيرها من الدول النامية، التي أخذت بجانب من التنمية الصناعة، و إن كانت لم تستكملها بعد، عندما تتصدّى لدخول مجتمع المعلومات ؟ .
كانت لدي بعض الأفكار، ناقشت فيها ـ من بين من ناقشتهم ـ الراحل دكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن . كان يقول أن علينا أن نستكمل تنميتنا الصناعية، لكي يتأسس مجتمع الصناعة على أرضنا، قبل أن نفكّر في الدخول إلى مجتمع المعلومات، كما حدث الأمر بالنسبة لمعظم الدول الصناعية . و كنت أقول له، أننا سنمضي سنوات في استكمال تنميتنا الصناعية، نكون قد تخلّفنا فيها كثيرا عن الدول التي تدخل حاليا إلى مجتمع المعلومات . فضحك، رحمه الله قائلا " تريد أن ندخل في (تخريمة ) حضارية ؟ ! " . قلت " نحن الآن ما زلنا نعيش ـ إلى حدّ بعيد ـ وفق قيم المجتمع الزراعي، و قد بدأنا جهدا متواضعا لإشاعة قيم المجتمع الصناعي، و لا معنى لأن نواصل ترسيخ قيم المجتمع الصناعي التي مضى زمنها، ثم نبدأ في تغييرها للأخذ بقيم مجتمع المعلومات" . و الحق، أنه لم تكن قد استكملت بعد معرفة الطرق العملية لتحقيق تلك ( التخريمـة ) .

المعجزة اليابانية

عندما انتهيت من طرح ورقتي في مؤتمر سالزبورج، و هممت بالانصراف من القاعة، اقترب منّي رجل ياباني مسنّ، يسير بحرص في خطوات بطيئة، و اقترح عليّ أن نجلس معا في بهو الفندق الذي عقد فيه المؤتمر، لأنّه يريد أن يناقشني فيما قلته . رحّبت بذلك، و مضينا معـا بنفـس الخطوات البطيئة إلى البهو، و جلسنا في ركن منعزل .
قدّم نفسه قائلا " إسمي يونيجي ماسـودا، من المفكّرين المسـتقبليين باليابان .. و قد أعجـبتني تساؤلاتك في الورقة التي قدّمتها، و أريد أن أستفهم منك عن بعض الأوضاع في مصر، بالنسبة لمدى تأثير المجتمع الزراعي و المجتمع الصناعي على حياتكم .." .
تكلّمنا طويلا، إلى أن قال لي آخر الأمر " أقترح عليك أن تقرأ أحد كتبي الذي تناولت في أحد فصوله هذه المسألة.."، قلت مبتسما " و اللغة ؟! ". قال إنه بالانجليزية، و ستجده في مكتبة جمعية مستقبل العالم ..تحت إسم ( مجتمع المعلومات، باعتباره مجتمع ما بعد الصناعة ) .." .
عندما حصلت على نسخة من الكتاب، و بدأت القراءة، اكتشفت أنني كنت أجلس إلى أحد صنّاع التحوّل المعلوماتي في اليابان ..
قبل أن أورد شيئا ممّا جاء بالكتاب، في الفصل الذي يتحدّث فيه عن أفكاره في تجاوز الفجوة الصناعية و المعلوماتية آنيا، بالنسبة للدول النامية، أحب أن أتكلّم عن التجربة اليابانية لاقتحام مجتمع المعلومات، و التي شارك فيها ماسودا .
ماذا فعلت الحكومة اليابانية ؟
يبدأ الكتاب بفصل عنوانه " مجتمع المعلومات البازغ في اليابان "، و فيه يحكي جانبا من دوره، هو و مجموعة من المفكّرين اليابانيين، من خلال تنظيمهم، " الجمعية اليابانية لتطوير استخدام الكمبيوتر "، و هي جمعية أهلية لا تستهدف الربح . في عام 1972، تقدّمت تلك الجمعية إلى الحكومة اليابانية بدراسة تحمل اسم " خطّة لمجتمع المعلومات : هدف قومي لعام 2000 " . كانت هذه الخطّة تقدّم السبيل إلى إدخال مجتمع المعلومات إلى اليابان، و هي ترسم صورة لمجتمع معلومات مرغوب فيه، يمكن تحقيقه عند عام 1985 . و قد جرى تعيين ماسودا كمدير مشروع، لتلك الخطّة الطموحة .
كانت الخطّة تتضمّن " خطة مضغوطة على المدى الأوسط "، و كانت تحتاج إلى استثمارات تبلغ 3 ملايين دولار، بين 1972 و 1977 . ثم " الخطّة الأساسية طويلة المدى "، التي تحتاج إلى استثمارات تبلغ 65 بليون دولار، ما بين 1972، و 1985 . و يوضّح كتاب ماسودا توزيع تلك الاستثمارات على الخطط المختلفة، لا مجال هنا لتفصيلها .
المهم أن الحكومة اهتمت بخطّة الجمعية، و راجعتها مع مختلف المصادر الداخلية و الخارجية، ثمّ رصدت الأموال الضرورية للبدء في التنفيذ .. و بهذا بدأ دخول اليابان إلى مجتمع المعلومات .
بعد هذا، أعود إلى التساؤل الذي قادني إلى الحديث عن المفكر الياباني الذي رحل عن عالمنا يونيجي ماسودا : كيف تغيّر بعض التكنولوجيات نسق حياتنا و مجموعة قيمنا ؟ . لقد وجدت إجابة عليه في كتاب ماسودا، تحت عنوان " التأثير المجتمعي لعصر المعلومات " ..

و إلى الرسالة التالية لنرى ماذا يقول ماسودا .

الأربعاء، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

أسرار شفرة

المجتمع الصناعي المنصرم

كان فهم جوهر المجتمع الصناعي، سبيلي للتعرّف على جوهر مجتمع المعلومات الذي يحل محلّه . لقد توصّل توفلر إلى أسرار الشـفرة الخفية للمجتمع الصناعي، التي قامت عليها الحياة في عصر الصناعة، و من ثمّ أمكن أن نفهم الإطار العام الذي قامت عليه أوجه النشاط البشري طوال سيادة ذلك المجتمع . و في هذا يقول " عندما اجتاحت الصناعة كوكبنا، أصبح تصميمها الفريد الخفي ظاهرا لنا . و هو يتكوّن من ستّة مبادئ، متبادلة التأثير، التي برمجت سلوك الملايين . هذه المبادئ التي نمت بشكل طبيعي من الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك، أثّرت على كل وجه من أوجه الحياة، من الجنس إلى الرياضة إلى العمل إلى الحرب .." .
هذه المبادئ الستة هي :
النمطية أو التوحيد القياسي. الإنتاج الصناعي على نطاق واسع، اقتضى الأخذ القوي بالتوحيد القياسي، لتصنيع المنتجات التي على نفس النمط، و بأقلّ تكلفة . و نتيجة لنجاح هذا التوجّه في التصنيع، عمد المجتمع الصناعي إلى تعميمه على كل شيء : نظم العمل، المدارس، المستشفيات، القطارات، محطات البنزين، الملابس . و لعبت وسائل الإعلام الجماهيري دورا هاما في تكريس النمطية، و صورة التوحيد القياسي، عندما يرى البشر نفس الصور و يطالعون نفس الكلام . بل لقد مضى المجتمع الصناعي فى هذا، إلى حد محاولة التوحيد القياسي للإنسان، رغم تنافي هذا مع الطبيعة البشرية .
التخصّص الممعن . مع تزايد تقسيم مراحل العمل، استبدل المجتمع الصناعي العامل الزراعي القادر على القيام بعدد من الأعمال، بالعامل الصناعي صاحب الاختصاص الضيّق، الذي يؤدّي عملية واحدة محدودة، و يظل يكررها طوال حياته، دون ما حاجة إلى إعمال العقل .
التزامن، أو ضبط توقيت الأشياء . الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك، قاد إلى فرض التغيير على الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع الزمن . فالنظام الاجتماعي المعتمد على السوق، يصبح فيه الزمن معادلا للمال . و الآلات الغالية لا يمكن أن تترك خامدة، و يجب أن تعمل وفقا لإيقاعها الخاص.. و هكذا تبلور مبدأ التزامن . أصبح من الضروري حساب التزامن بين العمليات المختلفة، و ظهرت أهمّية الضبط الدقيق للوقت باستخدام الساعة، استجابة لصفارة المصنع، أو لجرس المدرسة .
التركيـــز . مع الإنتاج على نطاق واسع، و الاستهلاك على نطاق واسع، كانت هناك ضرورة لظهور السوق كوسيط، و قاد هذا بدوره إلى الأخذ بمبدأ التركيز . تركيز السكن في مدن كبيرة حول مراكز النشاطين الصناعي و التجاري . و تركيز التلاميذ في المدارس، و المرضى في المستشفيات، و العجزة في الملاجئ، و المجرمين في السجون . . و أيضا تركـيز رؤوس الأموال في شركات كبرى، و احتكارات عظيمة، باعتبار أن تركيز الإنتاج يضاعف من كفاءته .
عشق الضخامة . كما خلق الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك حالة من عشق الضخامة، و السعي إلى النهايات القصوى . و ساد زعم بأن الضخامة مكافئة للكفاءة . فارتفعت ناطحات السحاب، و أقيمت أضخم السدود، و شيّدت أوسع الملاعب .. و اندمجت الشركات الصغيرة في شركات كبيرة، حتّى تتاح لها قدرة أكبر على المنافسة الداخلية و الخارجية .
المركـــزية . لقد سعت جميع الدول الصناعية إلى تطوير المركزية . فمن أجل مواجهة التوحيد القياسي للعمليات الإنتاجية و الأجور و برامج العمل، و تزامن العمليات التي تجري على بعد مئات الكيلومترات، و مع خلق التخصصات اللازمة للعمليات و الأقسام الجديدة، و مع تركيز رأس المال و الطاقة و البشر من العاملين، و مع السعي للوصول بحجم شبكة العمل إلى الحدّ الأقصى من الضخامة .. من أجل هذا كلّه كان من الضروري خلق أشكال جديدة من التنظيم، مبنيّة على مركزية المعلومات و القرارات .
و في هذا يقول آلفين توفلر أن عملية التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية، دفعت النظام السياسي نحو المزيد من المركزية، فوضعت واشنطن في يديها عددا متزايدا من مفاتيح القوّة و المسئوليات، و احتكرت يوما بعد يوم سـلطة اتخاذ القرار المركـزي، فانتقلت السـلطة فعلا من الكونجرس و القضاء إلى أكثر السلطات الثلاث مركزية : الأجهزة التنفيذية

هذه المبادئ تفقد صلاحيتها

كلّما تأمّلت أوضاع البشر في عصر الصناعة، وجدت هذه المبادئ الستّة وراء كل نشاط من النشاطات البشرية . و ساعدني هذا على تكوين رؤية شاملة للمجتمع الصناعي . و عندما بدأت هذه المبادئ تهتزّ و تتهاوى، في أواخر القرن الماضي، أدركت معنى التغيرات التي نمر بها . لم تعد مجرّد تغيير هنا و تغيير هناك، بل اكتسبت الإطار العام الضروري، الذي يربط بينها .
من واقع دراستي لمرحلة التحوّل من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، و من خلال تعرّفي على المبادئ الأساسية التي قام عليها لمجتمع الصناعي، بدأت أفهم طبيعة مرحلة التحوّل التي يمر بها البشر حاليا . كما استطعت أن أميّز بين الظواهر الناتجة عن مقاومة أصحاب المصلحة في بقاء نظم المجتمع الصناعي، و محاولة استنزاف آخر مكاسبه، و إطالة عمره، و بين الظواهر الصحّية الناتجة عن مقدم المجتمع الجديد، مجتمع المعلومات .
و بقي سـؤال مهم، كيف فقدت تلك المبادئ الراسخة صلاحيتها ؟، كيف انهار النظام الصناعي
الذي دام في أوج قوّته لما يزيد عن قرنين ؟ . كان من المهم أن نجد إجابة على هذا السؤال، قبل أن نبدأ التفكير في طبيعة النظام الجديد الذي يحلّ محل النظام الصناعي، و قبل أن نسعى إلى التعرّف على المبادئ الجديدة، التي ستحل محل المبادئ الستّة للمجتمع الصناعي .
البشـر .. و المعلومات
رغم اقتناعي بأن التحوّلات الكبرى في حياة البشر، لا يمكن إرجاعها إلى عامل واحد أو عاملين، بل إلى العديد من العوامل المرصودة و غير المرصودة، التي تتبادل التأثير فيما بينها، غير أنني اكتشفت أن العلاقة بين البشر و المعلومات هي حجر الزاوية في تحولنا من المجتمع الصناعي إلى المجتمع الجديد .
و كان من الواضح أن التكنولوجيات المتطوّرة في مجالي الاتصال و الكمبيوتر، هي التي قادت إلى تغيير علاقة الإنسان بالمعلومات، و خلقت ما نطلق عليه " ثورة المعلومات " .
· لقد أتاحت تكنولوجيا المعلومات و الاتصال المتطوّرة حصول البشر على قدر من المعلومات، لم يكن يتيسّر لهم من قبل .
· و مع استقبال الإنسان لهذا التدفّق من المعلومات، يختار منها ما يتّفق مع أهدافه و استعداده، و من ثمّ يتباين الأفراد في أفكارهم و مواقفهم، و هذا يقود إلى تباين أساليب حياتهم .
· هذا التباين بين الأفراد، يخلق بطبيعته المزيد من المعلومات و المعارف .
· و مع المزيد من التطوّر التكنولوجي في مجال المعلومات ( كمبيوتر ـ اتصالات )، يتم استيعاب المعلومات المتدفّقة، و تتولّد عنها معلومات و معارف جديدة .
· و هذا يقود بدوره إلى المزيد من تباين البشر، و من ثمّ المزيد من المعلومات ..

ثم كان لقاء ساليزبورج مع المفكر المستقبلي الياباني ماسودا .

السبت، أكتوبر ٢٥، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل


توفلر.. و صدمة المستقبل

كنت في حاجة إلى فهم آليات التغيّر، التي تنقل البشر من طريقة حياة، إلى طريقة أخرى تختلف في كلّ شيء عن سابقتها . و فهم لمسببات التغيّرات الكبرى، التي تنقل البشر من نمط مجتمعي إلى نمط آخر . كانت لديّ بعض الأفكار المتناثرة، لكنّها كانت تفتقر إلى الإطار العام الذي يجمعها، و يتيح للرؤية المستقبلية أن تكون واضحة، تسمح بأن نستنبط منها مستقبل أي ظاهرة، أو نشاط بشري .. و لم يحدث ذلك قبل أن ألتقي بصاحب " الموجة الثالثة "، المفكّر المستقبلي الملهم آلفن توفلر .
و الحق، أنني قرأت توفلر قبل ذلك بسنوات عديدة، في كتابه الشهير " صدمة المستقبل " . و رغم إعجابي بالموضوع و الكتاب و الكاتب، إلاّ أنني لم أكن قد بدأت اهتمامي المنظّم بالمستقبل، و هكذا واصلت قراءاتي في موضوعات اهتمامي السابقة . و فيما بعد، أدركت أن ذلك الكتاب بقي كامنا في لاشعوري، مستقرّا في ذاكرتي، يفعل فعله دون أن أشعر .

الموجـة الثالثـة

في بداية الثمانينيات، من القرن الماضي، قرأت كتاب " الموجـة الثالثـة "، للمفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر، ففتح أمامي باب فهم المسيرة الحقيقية للتاريخ البشري واسعا .عندما كنت أطرح رؤيتي لمجتمع الغد في الاجتماعات و اللقاءات، كنت أجد من يقول لي مستنكرا " من أين جئت بتشخيصك لمجتمع الغد، أو مجتمع المعلومات كما تسمّيه ؟، أذكر لنا دولة واحدة أو مجتمعا واحدا تنطبق عليه مواصفات المجتمع الذي تتحدّث عنه .." . كان من الصعب أن أقدّم إجابة عن ذلك التساؤل، و نحن في وسط دوامة التحوّل، من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . من كتاب " الموجة الثالثة "، وضعت يدي على المنهج السليم، الذي يدعم تصوّراتي لمجتمع المعلومات، و القوانين التي تحكمه . و بفضل ذلك الكتاب، بدأت دراسـة أقرب مراحل التطورات الكبرى، في حياة البشر : التحوّل من حياة الزراعة إلى حياة الصناعة .
تعبير "الموجة "، الذي اختاره توفلر، يعفيه من تعبير " حضارة "، أو " عصر "، سعيا إلى الوضوح الذي قد تؤثّر عليه الارتباطات التاريخية و الإقليمية و القاموسية للتعبيرات الأخرى . في كتابه هذا، يتحدّث عن موجات تحوّل كبرى يمر بها البشر على سطح الأرض، تحدث تغييرات جذرية في كل شيء، في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و تقوم على ابتكار تكنولوجيات كبرى عميقة التأثير . الموجة الأولي صنعت الحياة الزراعية، و الموجة الثانية صنعت الحياة الصناعية، أمّا الموجة الثالثة فهي التي تصنع حياة المعارف و المعلومات .

ثوابت المجتمعات البشرية

بدأت أركّز على دراسة المجتمع الزراعي، و نمط الحياة الذي يتأسّس في أيّ مجتمع زراعي مستقرّ على سطح الأرض، في أي مكان من العالم . و رغم خصوصية المجتمعات الزراعية في مختلف بقاع الأرض، فقد استطعت أن أصل إلى الثوابت المشتركة بين هذه المجتمعات، الثوابت التي ترسي أعمق الخصائص في المجتمع .. إيقاع حياة الفرد، و طبيعة عمله و حدود الاقتصاد السائد، و العلاقات التي بين أفراد ذلك المجتمع، و نوع الأسرة و تركيبها الخاص، و حدود مسئولية اتخاذ القرار، و القيم و المبادئ و العقائد التي تحكم حياة الأفراد في المجتمع الزراعي، و التي تكون واحدة، سواء كان ذلك في جنوب آسيا أو وسط أفريقيا، أو في بلدان أوروبا و أمريكا . لقد دامت هذه الثوابت على مدى العمر الطويل للمجتمعات الزراعية، و الذي بلغ ما يقرب من عشرة آلاف سنة .

مرحلة التحوّلات العظمى

ثم انتقلت إلى دراسة أقرب مراحل التحوّل العظمى، مرحلة التحوّل من الزراعة إلى الصناعة . و سعيت إلى فهم التكنولوجيات الأساسية التي فجّرت ذلك التحوّل،و آثارها على حياة البشر في المجتمعات الصناعية، أيّا كان مكانها، في الغرب أم الشرق، في الشمال أم الجنوب . آثارها على الإنتاج و طبيعة العمل، و على الاقتصاد و العلاقة بين الإنتاج و الاستهلاك . و على حياة الأسرة التي تحوّلت من أسرة كبيرة ممتدّة إلى أسرة صغيرة قادرة على الحركة . و على أساليب التعليم التي شـاعت في عصر الزراعة، و التي تحوّلت إلى نظـام تعليمي محدّد الأهـداف، يخدم إنتاج و اقتصاد الحياة الصناعية
كما حرصت على الرصد الدقيق للتحوّلات التي طرأت على نسق حياة الفرد، و على المبادئ و الأسس و العقائد التي كانت شائعة في عصر الزراعة . ثم رصد المبادئ و الأسس و العقائد الجديدة التي فرضها المجتمع الصناعي لخدمة مصالحه .

منطق التغيّرات

دراسة مرحلة التحوّل العظمى هذه، كانت السبيل لفهم مرحلة التحوّل الحالية، من الصناعة إلى المعلومات، و كانت السبيل إلى وضوح الرؤية المستقبلية، التي تسمح باستشراف المستقبل، و التعرّف على دقائق مجتمع المعلومات، و هو ما زال في طور التشكّل .
هذه الرؤية المستقبلية، أتاحت لي أن أنتقل من مجرّد رصد التغيّرات الحالية، و طرح التصورات الانتقائية، إلى فهم المنطق الذي تخضع له التغيرات في كل مجال، وفقا لمبادئ و سس و عقائد مجتمع المعلومات .
استطعت أن أفهم : لماذا كانت الأشياء على صورتها التي عرفناها طوال سنوات سيادة عصر الصناعة . و تعرّفت على الشفرة الخاصّة لعصر الصناعة، و على مكوّناتها، التي فرضت شكلا خاص للعمل و العمالة، و البناء الاقتصادي، و التعليم الذي جرى تصميمه لصالح الاقتصاد الصناعي، و الإدارة التي نجحت في ضبط العمل لحساب المؤسّسات الكبرى . عرفت السرّ في شيوع ما أطلقنا عليه الإعلام الجماهيري، في الصحافة و الإذاعة و التلفزيون، و طبيعة الثقافة الجماهيرية التي تواكبه . عرفت لماذا كان الاستعمار و الحروب الاستعمارية، توجها ضروريا للدول الصناعية الكبرى .. عرفت الكثير الذي ساعدني على فهم طبيعة الحياة القادمة .

و إلى الرسالة التالية، لنسترض معا أسرار شفرة المجتمع الصناعي المنصرم .

الخميس، أكتوبر ٠٢، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

مؤشّـرات التغييـر

التي تعيد بناء حياتنا

أفادني – بداية - قراءة كتاب " المؤشرات العظمى "، للكاتب المستقبلي مارفن سيترون . أعجبني المنهج الذي يلتزم به، و تصورت وقتها أنّه المنهج العلمي السليم للنظر في التغيرات التي تمر على حياة البشر .
ظهر الكتاب عام 1982، و قد تضمّنت طبعة عام 1984، التي قرأتها، مقدمة تشرح المنهج الذي التزم به ناسبيت في رصد المؤشّرات الكبرى التي يمر بها المجتمع، و بالتحديد المجتمع الأمـريكي . و هو يقول أن الطريقة التي يمكن أن نعتمـد عليها أكثر من غيرها، في استشـراف المستقبل، تكون بفهم الحاضر .
تحليل المضمـون
يقول ناسبيت في مقدمته " ما تعلّمناه عن مجتمعنا، كان من خلال المنهـج الذي يطلـق عليه ( تحليل المضمون )، الذي يضرب بجذوره إلى الحرب العالمية الثانية . فخلال تلك الحرب، سعى خبراء المخابرات للحصول على نوع المعلومات، عن دول الأعداء، التي عادة ما توفّرها استطلاعات الرأي العام .. " . لقد توصّل خبراء المخابرات إلى اكتشاف التوتّر في الشعب الألماني، و في صناعته، و في اقتصاده، من واقع دراسة المضمون للصحف و المجلات الألمانية .
و يشير ناسبيت إلى أن المنهج الذي يلتزم به، مع باقي العاملين معه، يخلو من التقارير المغرضة، لأنّهم يهتمون فقط بالأحداث أو بالسلوك ذاته . و مجموعة ناسبيت تجمع المعلومات حول ما يجري محلّيا عبر البلاد، ثم يبدأ البحث عن النسق الذي يجمعها .
و هو يقول " بعد 12 سنة من الرصد الدقيق للأحداث المحلية، بهذه الطريقة، تطوّر لدي بالتدريج ما يبدو لي رؤية واضحة، للاتجاهات التي نلتزم بها في إعادة بناء الولايات المتحدة الأمريكية .."، إلى أن يقول " وأنا أخاطر بعد رضا الخبراء، و المحللين، الذين يمكنهم القول بأن القيام بهذه القفزة، لوصف العالم بمصطلحات عشرة متغيّرات، يعتبر تبسيطا مخلاّ . و قد يكونون على حق في تفكيرهم، و مع ذلك أعتقد أن الأمر يستحقّ هذه المخاطرة .. " .

التوجّهات العشرة

لقد أفادني الكتاب فائـدة كبـرى، و جعلني أكثر قـدرة على اقتحـام مجالات أبعد من العلوم و التكنولوجيا . أمّا المؤشّرات أو التوجهات العشرة لناسبيت فقد كانت :
• التحوّل من المجتمع الصناعي، إلى مجتمع المعلومات .
• من تكنولوجيا القوّة، إلى التكنولوجيا العالية ذات اللمسة البشرية .
• من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي .
• من التخطيط قصير المدى، إلى التخطيط طويل المدى .
• من المركزية، إلى اللامركزية .
• من الاعتماد على المؤسّسات و الدولة، إلى الاعتماد على الذات .
• من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى ديموقراطية المشاركة .
• من نظام تسلسل الرئاسات، إلى التنظيم الشبكي .
• النمو و الرواج من الشمال، إلى الجنوب . ( وهذا مؤشّر خاص بالولايات المتحدة، لكن من الممكن أن نطبقه على مناطق أخرى من العالم ) .
• من منطق : إمّا \ أو، إلى الفرص المتعدّدة .

إيجابيات هذا المنهج

بالنسبة لي، كان الاطّلاع على مؤشّرات ناسبيت فتحا كبيرا . لقد ساعدني ذلك على الربط بين التكنولوجيات الجديدة، و بين الإنتاج و الاقتصاد و الإدارة و التخطيط والممارسة الديموقراطية . كما فهمت منه أن القصة ليست تكنولوجيات مبهرة، و لكنها تحوّل أساسي من نمط الحياة الصناعية التي عرفها البشر لما يزيد عن قرنين، إلى نمط حياة جديدة أطلق عليها اسم " مجتمع المعلومات " .
و الأهم في هذا كلّه، التزامه بأسلوب علمي أمين، في السعي إلى النتائج . لم يعتمد على أفكاره، أو على أفكار الآخرين، أو على ما تصدره الحكومة من إحصاءات و ما تستنبطه من نتائج، بل اعتمد على استمداد الوقائع من القواعد و المحلّيات، معتمدا على عشرات الآلاف من المصادر، من صحف و مجلات و برامج تلفزيونية، بالإضافة إلى المقابلات الموجّهة، ثم إخضاع ذلك ـ مستعينا بالكمبيوتر ـ لعملية تحليل المضمون .
إنها عملية رصد واعية و دقيقة . و هذا هو الذي أكسبها مصداقيتها . فالمؤشّرات التي طرحها ناسبيت منذ أكثر من ثلاثين سنة، ما زالت تحتفظ بقوّتها، و التطورات التي يمر بها البشر عاما بعد عاما تزيد من مصداقيتها .
و مع ذلك، بقيت لدي الكثير من التساؤلات، التي أثارتها هذه المؤشرات و لم تقدّم إجابة شافية لها . لماذا يحدث هذا التحوّل الكبير في حياة البشر؟، و ما هي الآلية التي تجعل ظهور تكنولوجيا كبيرة جديدة، سبيلا لتغيير أحوال البشر و قيمهم ؟، و ما هو التأثير المتبادل بين هذه المؤشّـرات ؟، و ما هي الرؤية الشاملة لمستقبل العالم على ضوء هذه التغيّرات ؟ .

آفاق جديدة مع دانييل بل

كلما سافرت إلى لندن، كنت أحرص على القيام بمسح للمكتبات، بحثا عن الكتب التي تهتم بالمستقبل، و كنت أقتني كل ما أستطيع أن أقتنيه . و كان الجهد شاقا بعض الشيء . فحتّى في مكتبات لندن، لم أكن أجد قسما خاصا بالدراسات و الكتابات المستقبلية . كان عليّ أن أمسـح جميع الأقسام لأجد الكتب التي تتصل بالمستقبل، في أقسام العلوم و الاقتصاد و الاجتماع، إلى آخر ذلك . و عندما أعود إلى القاهرة، و أبدأ في قراءة ما جمعت، لم تكن النتائج دائما مرضية، أو مفيدة لي ـ على الأقل ـ في الوصول إلى إجابات عن تساؤلاتي .
و كانت المفاجأة الأولي، عندما التقيت بالأستاذ دانييل بل، أستاذ الاجتماع في جامعة هارفارد، في كتابه الهام " مقدم مجتمع ما بعد الصناعة ـ مغامرة في التنبؤ الاجتماعي " .
في هذا الكتاب، قرأت عن التحوّل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع ما بعد الصناعة، من خلال نظريات التطوّر الاجتماعي . و عن التحوّل من السلع إلى الخدمات و أثره على الاقتصاد . و عن آفاق المعرفة و التكنولوجيا، و البناء الطبقي الجديد لمجتمع ما بعد الصناعة . و عن مدى صلاحية مفاهيمنا و أدوات تفكيرنا . ثم عن من الذي سيحكم المجتمع الجديد، و دور الساسة و التكنوقراطيين في المجتمع الجديد .

وجدت هنا العديد من الإجابات عن تساؤلاتي الرئيسية . لكن بقيت لدي حاجة إلى فهم قانون تغيّر المجتمعات عبر التاريخ، لمقارنة ما حدث من تحوّلات بالتحوّل الحالي .

الاثنين، سبتمبر ١٥، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

( 1 ) بداية الحكايـة ..

بين التفكير المستقبلي، و الخيال العلمي

التفكير المستقبلي ليس نوعا من التنجيم و قراءة الطالع .. إنّه جهد عقلاني منطقي ابتكاري للتعرّف على مسار حركة حياة البشر بين الماضي و الحاضر و المستقبل . و عملية التعرّف هذه لا تكون قطعية أو حاسمة، و هي تتوقّف على المنهج الذي يلتزم به المفكّر . بدون الالتزام بمنهج سليم واضح، يمكن أن نصل إلى توقعات خاطئة .
مثال ذلك ما حدث في "نادي روما "، عندما استند إلى منهج رصد التطور، و مدّ الخطوط على استقامتها، بالاعتماد على الكمبيوتر، للتعرّف على مسـتقبل الأوضاع، ممّا تضمنه تقريـره الشهير " حدود للنمو "، الذي ظهر عام 1972 . و قاد هذا إلى توقّعات غير صحيحة، ممّا اضطر النادي إلى الرجوع عن ذلك المنهج . و مد الخطوط على استقامتها، يعني تصوّر إنّ الآتي بالنسبة لظاهرة ما، سيمضي بنفس معدّل نمو تلك الظاهرة في الماضي . و نحن بهذا نتناسى علاقة تلك الظاهرة بغيرها من الظواهر المتغيّرة، كما نتناسى عنصر الصدفة في الحياة .

من أين جاء الخلط ؟

في بدايات اهتمامي بالتفكير المستقبلي، و الكتابة عن المستقبل، وخلال لقاءاتي مع الجمهور، كان يتكرر سؤال من بعض الحاضرين، يسبّب لي انزعاجا : " أليس الحديث عن المستقبل، نوعا من الخيال العلمي ؟ " . و كنت عادة ما أصرّ على توضيح الفرق، و أقول أن الخيال العلمي ينطلق من حقيقة علمية، ثمّ يضخّم من آثارها، ساعيا إلى تجسيد عنصر المفاجأة و الإثارة التي تكسب ذلك النوع من الكتابة جاذبيته .
كنت أتصور أنّني ـ شخصيا ـ السبب في هذا الخلط . فقبل أن هتم بالتفكر المستقبلي، كنت أتابع إنتاج قصص الخيال العلمي، و أستمتع به، و أجمع أحدث ما يظهر من كتب و قصص و روايات في مجال الخيال العلمي، حتّى تأسّست لدي مكتبة كبيرة في هذا المجال . و لعل مرجع هذا إلى دراستي العلمية، و إلى تقديري للعقلية الابتكارية التي يعتمد عليها كاتب هذا النوع من الأدب .
و لعل الخلط قد جاء نتيجة لنشـري ترجمات و ملخّصات، لأهمّ قصـص الخـيال العلمي في الصحف و المجلاّت، ثم إصداري لثلاث كتب تتضمّن مجموعات من أنجح قصص الخيال العلمي، لأهمّ الكتّاب المعاصرين في هذا المجال، مثل إيزاك آزيموف، و آرثر كلارك، و راي برادبوري، و برترام شاندلر .
نتيجة لنقص هذا النوع من الكتب في مكتباتنا، كنت أنتهز فرصة سفري إلى بيروت، و بعد ذلك إلى لندن، لأقتني أحدث ما ظهر من كتب الخيال العلمي . و كما قلت من قبل، لم أكن حتّى ذلك الوقت قد انشغلت بالتفكير المستقبلي .. حتى حدثت المصادفة، عن طريق الخطأ ! .

آرثــر كلارك، و الكوكب الثالث !

في عام 1974، وجدت في إحدى مكتبات بيروت كتابا جديدا لآرثر كلارك، بعنوان " تقريرعن الكوكب الثالث، و تأمّلات أخرى "، فاشتريته باعتباره كتابا من كتب الخيال العلمي .
و كانت المفاجأة الرائعة، أن أجد في كلمات كلارك مدخلا مبهرا للتفكير المستقبلي . الكتاب لا يخلو من حديث عن كتاباته في مجال الخيال العلمي، و عن جهده في فيلم "أوديسا الفضاء 2001 "، لكنه حرص على طرح ما تحقق من أشياء أوردها في قصصه و مقالاته .
مقاله عن " رجال فوق القمر " الذي نشرته مجلة (هوليداي ) عام 1958، و قبل أن يستطيع الإنسان إطلاق أي جسم إلى الفضاء الخارجي، جاءت الأحداث التي تضمنّها مطابقة لما تحقّق بعد ذلك . بل إن المجموعة الأولى من مقالاته التأمّلية بعنوان " تحديات أمام سفينة الفضاء "، التي نشرت عام 1959، قبل عشر سنوات من وضع نيل آرمسترونج قدمه على القمر، تضمنت من التوقعات العلمية الدقيقة ما أثبتته الأيام بعد ذلك .
التكنولوجيا و المستقبل
لكن أكثر ما بهرني في ذلك الكتاب، هو ما جاء في نصفه الثاني من حديث عن الآلة المفكّرة، و عن عصر آلات الإدارة الذاتية، أي التي تدير نفسها، و أثر ذلك على العمل و العمالة، و على انقضاء مصطلحات ذلك الوقت الاجتماعية و السياسية . و كلام كثير ملفت، كقوله أن الألعاب هي البديل الضروري لدوافع القنص و الصيد عند الإنسان، و أن التعليم هو هدف الوجود في المستقبل، و أن الفن هو التعويض عن تشوّهات الواقع، و أن هدفنا في المستقبل لن يكون أن نستكشف، بل أن نفهم و نستمتع .
و في فصل التكنولوجيا و المستقبل يقول " بديهي أنه من المستحيل إن نتنبّأ بالمسـتقبل، , أنا لم يحدث أن عمدت إلى فعل هذا . الذي حاولت أن أفعله، في كتابات الخيال العلمي و غيرها من الكتابات، هو أن أرسم إطارا لمساحات لا بد أن يقع المستبقل داخلها .." .
و كمرشد للمستقبلات المحتملة، يضع آرثر كلارك ثلاثة قوانينن وجدها مفيدة :
القانون الأوّل لكلارك : عندما يقرر عالم متميّز و مسنّ أن شيئا ما يكون ممكنا، فهو يكون في الأغلب على حق بالتأكيد . و عندما يقول أن شيئا ما مستحيل، فالأرجح أنّه مخطئ .
القانون الثاني لكلارك : الوسيلة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن، هي أن تمضي عبرها إلى ما هو مستحيل .
القانون الثالث لكلارك : أي تكنولوجيا متقدّمة بشكل كاف، لا يمكن التفريق بينها و بين السحر .

الباب الواسع للتفكير المستقبلي

كان كتاب " تقرير عن الكوكب الثالث، و تأمّلات أخرى "، بابا واسعا عبرت منه لأوّل مرّة إلى عالم التفكير المستقبلي . لقد فهمت منه كيف يمكن أن يكون الاتصال و الانتقال بديلان، كلما كان أحدهما أكثر تطوّرا قلّت حاجتنا إلى الآخر . قرأت فيه عن قرن أقمار الاتصال، قبل أن يطلق العالم أول واحد منها، و عن أنواع الأقمار الاصطناعية التي سيطلقها البشر، و أثر ذلك على البيت و المدينة و العالم بأكمله .
سعيت بعد ذلك إلى اقتناء كل ما تقع عليه عيني من الكتب التي تتحدّث عن المستقبل و التفكير المستقبلي . و كان أكثر ما أعجبني كتاب " صدمة المستقبل " للكاتب و المفكّر المستقبلي الكبير آلفين توفلر . لقد رسم لي ذلك الكتاب جانبا من الأبعاد النفسية و الاجتماعية و السياسية للتطور التكنولوجي . و مع ذلك، فقد تهيبت الخوض في آفاق المستقبل، من النواحي الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، لنقص خبرتي في تلك المجالات . و آثرت أن التزم جانب الحذر في سعيي، مقتصرا على دراسة المستقبل من الجانبين العلمي و التكنولوجي، مما تؤهّلني له دراستي و تخصّصي .
تركّزت قراءاتي على الكتب و المراجع التي تتناول مستقبل العلوم و التكنولوجيا . و من هنا كان أول كتبي عن المستقبل يدور في ذلك الإطار . كتاب " هذا الغد العجيب " .

الذي لم أكـن أعــرفه ..

في أوّل الأمر، ظهرت مادة كتاب " هذا الغد العجيب " كمقالات في مجلة " المصوّر "، و عندما لاحظت مدى اهتمام القارئ بها، قررت أن أعتمد عليها في إعداد مادة الكتاب، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1984 . طرح ذلك الكتاب استشراف لمستقبل أهم المجالات التي تؤثّر على حياة الأفراد و المجتمعات، على المدى القريب و البعيد .. في مجالات الانتقال و الاتصال و الطاقة و الصناعة و التعليم و هندسة الجينات .
في مجال الانتقال و النقل نجد حديثا عن مستقبل الشوارع المتحرّكة و السيارة الكهربائية . كما نكتشف كيف سينتهي عصر العجلة و الميناء و المطار، و كيف تضع ثورة المستقبل في المواصلات و النقل خاتمة لحياة القطار، الذي عرفته البشرية لحوالي قرن و نصف . و ما يراه بعض علماء المستقبل، من أن القطار سيعرف عصره الذهبي، عندما يبدأ الإنسان في استعمار الكواكب الأخرى التي يسعى إلى استغلال ما بها من ثروات معدنية، يفتقر إليها على الأرض .
و في مجال الطيران، كيف سيستهدف التطور القادم تحقيق سرعة أكبر، و المزيد من الاعتماد على طائرات الإقلاع و الهبوط العمودي، التي يطلق عليها الفرتولات، و التي تحل محل طائرات الهيليكوبتر الحالية . و يقول الكتاب أن العالم قد تحرّك على عجلات لمدة ستة آلاف سنة، غير أن حركة التطـور توحي بأن العجـلات قـد آن لها أن تسـقط عن عرشها، مفسـحة المجال لعصر الحوّامات، التي تسير على حشيّة من الهواء، فوق الماء و اليابسة .
و يمضي الكتاب في تسجيل الأحلام العلمية الأبعد لمستقبل الانتقال، فيطرح أفكار الاعتماد على الجاذبية المضادة .

مستقبل الطاقة و المادة و الاتصال

يتناول الكتاب مخاطر الاعتماد على طاقة الحفريات، و طاقة الانشطار النووي . و كيف أن ما توصلنا إليه بالفعل ـ معمليا ـ من إطلاق طاقة الاندماج النووي، سيتيح لنا في المستقبل ما لا حدّ له من الطاقة، اعتمادا على مياه المحيطات ! . هذا بالإضافة إلى ما حققته البحوث العلمية في مجال استنباط مصادر جديدة للطاقة، كالطاقة الشمسية، و الجوفية، وطاقة الرياح و الأمواج .
و هنا أيضا، يمضي الكتاب إلى استكشاف أفاق أبعد من المستقبل، فيتحدّث عن حلم إرسال الطاقة لاسلكيا، بالضبط كما يحدث مع موجات اللاسلكي و التلفزيون . ثم يمضي إلى الحديث عن استغلال الأشعة الكونية، و المجال المغناطيسي كمصدر محتمل للطاقة .
و بالنسبة لمستقبل الوصول إلى المواد الخام المطلوبة، يود الكتاب عمليات التعدين في الأرض و البحر و الجو . ثم يمضي لما هو أبعد مستقبليا، ليطرح فكرة، أو مغامرة، سحب النيازك والكويكبات، و الاستفادة ممّا بها من ثروة معدنية . كما يورد أحلام " التحوّل العنصري " التي تراود العلماء، أي تحويل عنصر يشيع وجوده إلى عنصر آخر تشتد الحاجة إليه، التي يمكن أن تتحقّق مع تطور علم المستقبل، الذي يمكن أن نطلق عليه اسم "الكيمياء النووية " .
في الفصل الخاص بمسـتقبل الاتصـال، يطرح الكتاب عرضا سريعا لوسـائل الاتصال عبر التاريخ، ابتداء من الحركات و الأصوات، إلى اللغة، و حتّى أقمار الاتصال الاصطناعية . ثم يتحدّث عن انفجار المعلومات الذي تولّد عن ارتباط تلك الأقمار بالكمبيوتر، و حيرة الإنسان في متابعة التضاعف الهائل في حجم المعلومات يوما بعد يوم، التي لم يضع حدّ لها سوى ظهور الكمبيوتر فائق السرعة .
العديد من التطورات التي تحدّث عنها الكتاب في بدايات الثمانينيات، قد تحقّقت اليوم، لكنها كانت تبدو كالعجائب في ذلك الحين، مثال ذلك التليفون التلفزيوني، الذي يتيح رؤية من تتحدّث إليه، و الذي يستخدم حاليا في إجراء اللقاء بين أطراف في أنحاء مختلفة من العالم .

التسيير الذاتي .. و العمالة

يقول الكتاب أن الإنتاج الذي نعرفه اليوم، قد تطوّر فوق التربة الخصبة التي وفّرتها له العلوم الهندسية و التكنولوجية التي وصلتنا من الماضي . و من هنا، يكون علي كل من يسعى إلى تحديد شكل الإنتاج في المستقبل أن يكون قادرا على رؤية كل ما هو جديد، و استشراف ما هو في سبيله إلى التخلّق داخل المعامل و مراكز البحث العلمي .
و يرى الكتاب أن الأوتوماتية، أو التسيير الذاتي للمصانع، هو القطب الذي تنجذب إليه جهود التطوير . فجوهر الإنتاج الصناعي الكبير، هو صناعة الأدوات أو الأجهزة الصناعية، التي تمكّن الإنسان من إنتاج السلع .
و يشرح الكتاب، كيف أن المستقبل سيشهد قفزة هائلة في إنتاج الآلات ذات التحكّم العددي، لتصبح الآلة الواحـدة قادرة على القيام بعشرات الأعمال . و هـذا يقود بدوره إلى سـيادة العقـل الإلكتروني، ليقتصر دور الإنسان على تحديد هدف تلك الآلة .

القنبلة الموقوتــة !

في فصل بهذا العنوان، يتحدّث الكتاب عن عالم غريب في ذلك الوقت، هو عالم هندسة الجينات، و عن جهود العلماء في حلّ شفرة الحياة و الوراثة . و يورد تاريخ تطوّر هذا العلم العجيب، منذ عام 1953، منذ أعلن العالمان واتسون و كريك اكتشافهما لسلّم الحياة الحلزوني، إلى أن عرفنا كيف تعيد مادة (د ن آ) إنتاج نفسها، و حللنا شفرتها، و تعرّفنا على وظائف الجينات المختلفة، و تمكّنا من عزل جينات بشرية نقية، و رسمنا خريطة الجينات، بل و تمكّننا من بناء الجينات اصطناعيا، و تغيير الخصائص الوراثية للخلية الحيّة .
و منذ ذلك الحين، بقيت هذه الكشوف أشبه بالقنبـلة الموقوتة، كلما مضينا في تطبيقاتها، أو في مجرّد التفكير في مستقبلها . و منذ ذلك الحين، اشتدّ الجدل حول مزايا و عواقب هذا الإنجاز العلمي، و بخاصة في مجال الاستنساخ . و منذ ذلك الحين، تحدّث العلماء عن مخاطر تكنولوجيا الاستنساخ، لو وقعت في يد المغامرين أو الطغاة .. و ما زال الجدل قائما ..

مـاذا بعــد ؟

لقي كتاب " هذا الغد العجيب " إقبالا واسعا من القرّاء، و أعيد طبعه أربع مرّات . و كتب الراحل أحمد بهاء الدين في جريدة الأهرام، يلفت النظر إلى أهمية الكتاب في إعداد عقول الأجيال للغد، و اقترح على وزارة التربية و التعليم أن تعمّمه على تلاميذ المدارس .
و حتّى يومنا هذا، كلما التقيت بالشباب العامل في مجال المعلومات و الكمبيوتر، في المؤسّسات أو في جهاز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، راحوا يحكون لي عن أثر قراءة ذلك الكتاب على تفكيرهم، و على تحديد مستقبل دراستهم .
لقد أشرت من قبل أنّني في ذلك الوقت، اقتصرت على تناول أبعاد المستقبل، في الحدود العلمية و التكنولوجية، تهيبا من الخوض فيما هو أوسع من ذلك من مجالات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية . لكنّى، مع مواصلة القراءة و البحث و التفكير، اكتشفت عدم جدوى الإحجام عن فهم الارتباطات القوية بين مختلف جوانب الحياة . و فهمت الذي لم أكن أعرفه، و هو ضرورة التعرّف على العلاقات متبادلة التأثير بين مختلف مؤشّرات التغيير .. و بدأت صفحة جديدة من حكايتي الطويلة مع المستقبل .

* * *

لقد اكتشفت أن مجرّد رصد المستقبل العلمي و التكنولوجي، مع ما فيه من فائدة، لا يفيد في فهم أبعاد التغيير السريع المتلاحق الذي تمر به حياة البشر . كان السؤال الذي يلحّ على عقلي هو : ما هي نتائج التغييرات الحادثة ؟، و إلى أين تمضي بنا ؟ .. و إلى رسالة تالية .

السبت، أغسطس ٣٠، ٢٠٠٨

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات

الديموقراطية المطلوبة لمصر

ثالثا : المجتــمع المدنــــي

لكي يصبح المواطن قادرا على اتخاذ القرار السليم في أمور حياته، و مجتمعه، يحتاج إلى :
أولا : تعليم يقوم على المعرفة الشاملة، و الابتكار و الإبداع، و يسقط ما اعتدنا عليه من قبول للتلقين، و تعجيز للعقل ..
ثانيا : كما يحتاج ذلك المواطن إلى إعلام يتميّز بالشفافية، يتيح له الوصول إلى كل ما يحتاجه من معلومات و معارف، تفيده في تكوين رأيه على أساس سليم .. إعلام قادر على طرح ما يعتمل في القواعد من أفكار و توجّهات، و ردود أفعال، و أحلام و أماني، حتّى يتاح للقيادات أن تتخذ القرارات السليمة في الوقت السليم ..
ثالثا : ثم يأتي دور العنصر الثالث في طرف المعادلة، أعني بذلك المجتمع المدني القوي النشيط، الذي يعتبر حقل التجارب الصحّي لممارسة ديموقراطية المشاركة .

السبيل إلى المواطنة

يقول أستاذ العلوم السياسية، بنجامين باربر " بدون مجتمع مدني قوي و عفيّ، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع، أو ضحايا لقهر الدول .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية .. " .
و يتساءل الكاتب الاسكتلندي، دافيد ماكليتشي " متى تنقل حكومتنا المسئولية و السلطة إلى الأفراد ؟"، ثم يستطرد قائلا " نحن أفراد مسئولون، قادرون على اتّخاذ قراراتنا الخاصّة، و صياغة مستقبلاتنا الخاصة .. لسنا مجرّد تروس في ماكينة الدولة، و لكن عن طريق قبولنا الطوعي المتبادل للقوانين، و المؤسسات التي تتضمّن المجتمع المدني، مدركون أن هذه المساواة في ظل القانون توفّر لنا أفضل الفرص لتحقيق أهدافنا الشخصية و الجماعية .." . أفكار هذا الكاتب تعكس فهما عميقا لجوهر الممارسة الديموقراطية في مجتمع المعلومات، و هو يرى أن دور الحكومة ضروري، و لكنه محدود . و الحكومة لم تقم لكي توجّه حياة الناس، بحيث تتفق مع أهدافها السياسية ـ كما يعتقد المسئولين عنها ـ بما تتضمنه تلك الأهداف من خليط الاستراتيجيات و الخطط . فالحكومة موجودة أساسا لتوفير الظروف التي تسمح لأفراد الشعب أن يتحكّموا في حياتهم الخاصّة، و أن يختاروا أهدافهم الخاصة .
و يشير ماكليتشي إلى مسألة محورية، عندما يقول أن القوّة العظمى لمثل هذا المجتمع تنبع من تنوّعه و تباينه . التوجيه من أعلى إلى أسفل، يخلق النمطية و القولبة و السطحية، بينما نحن نبحث عن التقدّم، و الابتكار، و المستويات العالية التي تنبع من الجمع بين : التنافس، و التعاون، ممّا يميّز المجتمع الحرّ في أحسن أحواله .

من التوكيل إلى المشاركة

المجتمع المدني هو التمهيد الطبيعي للتحوّل من الديموقراطية النيابية، إلى ديموقراطية المشاركة .
و دعونا نعود إلى الاقتباس من الدراسة الهامة التي قامت بها مجموعة المفكرين الآسيويين، و التي طرحت الجانب الأكبر منها فيماسبق .. يقول أصحاب الدراسة ، التالي يعكس ما نؤمن به، نحن أصحاب هذه الورقة، من بزوغ لقيم المجتمع المدني العالمي، و رؤيته العالمية :
الغرض : الغرض الحقيقي للمجتمع المني العالمي، ليس هو الاستيلاء على السلطة، لاستبدال السلطة القابضة الحالية، بنظامها الموروث غير العادل، و القائم على العنف . و ليس هو أيضا فرض برنامج أيديولوجي . إنّه من أجل إحلال الثقافات الأصيلة البازغة، و علاقات المشاركة في السلطة داخل المجتمع، محل الثقافة المصنوعة للإمبراطورية ( تقصد
بالإمبراطورية القوى الإمبريالية العالمية المعاصرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية )، و علاقات السيطرة النابعة منها ، باعتبار عملية الإحلال هذه هي الأساس لحضارة بشرية جديدة .
العقائد و رؤية العالم : نحن ـ جمهور المجتمع المدني العالمي ـ نؤمن بوحدة الحياة الكلية المقدّسة، و بمشاعر الخير الأصيلة، و بإمكانات كل فرد في يعمل كمواطن مسئول، يدرك احتياجات الكل .
القيم : نحن ـ جمهور المجتمع المدني العالمي ـ نقيّم الحياة، و الديموقراطية، و الحرّية، و العدالة، و التعاون، و المواطنة النشطة، و الروح، و الحلول السلمية للتناقضات . إننا نبحث عن المجتمع الذي يأخذ بهذه القيم، و يحترمها، كما نؤمن بأن الوسائل التي سنتّبعها يجب أن تكون متوافقة مع هذه القيم .
الثقافة : المجتمعات تعرّف بنفسها و بأهدافها، من خلال القيم المشتركة بالنسبة لثقافتها، و لرموزها، و لرؤيتها المشتركة للعالم . و سلطة تعريف الثقافة بشكل صحيح، تخص البشر، و المجتمع المدني . القوّة الأخلاقية للثقافة الأصيلة، التي تنبع من الخبرات الروحية و الاجتماعية الأصيلة للبشر، هي القوة الاجتماعية العظمى ـ قوّة البشر ـ لأنّها القوّة التي يحق لها أن تستردّها شرعا من المؤسسات الحاكمة، في المجالات السياسية و الاقتصادية .
تكمن أهمية المجتمع المدني ـ بمعناه الصحيح ـ أنه المجال الطبيعي لتدريب المواطنين على ممارسة ديموقراطية المشاركة التي تنبع من احتياجات مجتمع المعلومات، أو ما تطلق عليه الدراسة التي أشرنا إليها " علاقات المشاركة في السلطة داخل المجتمع " .

مصر .. و المجتمع المدني

في الفترة الأخيرة، ظهرت العديد من الكتب و الدراسات عن المجتمع المدني في مصر، نتيجة للموقف السلبي ـ غير الذكي ـ من جانب النظام الحاكم المصري، الذي لم يدرك بعد ما حدث من تغيرات في حياة البشر. و هكذا تواضع دور المجتمع المدني في مصر لأن النظام الحاكم لم يدرك ـ ضمن أشياء كثيرة أخرى ـ أهمية تشكيلات المجتمع المدني، في التقريب بينه و بين الشعب، و تيسير هدف التراضي المفترض أن يكون قائما بينهما . لم يدرك النظام الحاكم أن جماعات المجتمع المدني، هي النتيجة الطبيعية للتنوّع و التعدّد الذي أفرزته ثورة المعلومات، و الأقليات البازغة التي أتاحها دخول البشر إلى مجتمع المعلومات ..

* * *

الإعلام المتّسم بالشفافية، و الذي يتيح للفرد الوصول إلى المعلومات و المعارف التي يريدها، في الوقت الذي يريدها فيه، هو الذي يسمح له أن يعلم .. و التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري في مكان التلقين، هو الذي يتيح له أن يستخدم معلوماته و معارفه في التفكير و الابتكار و حل المشاكل .. و المجتمع المدني القوي و النشط، هو الذي يخلق البيئة المناسبة لبزوغ المواطن القادر على الاستفادة من ذلك التعليم و الإعلام في المشاركة السياسية، و ممارسة الشكل الجديد من الديموقراطية، النابعة من مقتضيات عصر المعلومات .

صدّقوني .. هذا هو السبيل العملي لإنقاذ مصر من جميع المشاكل التي تغرق فيها ..من أزمة رغيف العيش، إلى محنة شيوع السيطرة الأمنية، إلى الفساد الضارب في مصر من قمّتها إلى قواعدها ..

الاثنين، أغسطس ١٨، ٢٠٠٨

الديموقراطية .. و الإعلام

حقيقــة الذي حـــدث

ديموقراطية سبيلها الإعلام

لم يعد ممكنا أن نستمر في وصايتنا على المعلومات و المعارف التي يسعى إليها الفرد، و التي يحتاجها في فهم ما يجري، و في الحكم على أداء المؤسّسات التي تدير حياته . لم يعد ممكنا أن تخفي الإذاعة خبرا، أو يمنع التلفزيون صورة، فموجات الأثير تطن بجميع الأخبار و الصور الحقيقية بلا تزيين أو تزييف . علينا أن نجعل إذاعتنا و تليفزيوننا أكثر صدقا و أقل تعبيرا عن إرادة القيادات الحاكمة .
لم يعد ممكنا أن تفرض الصحف و المجلات الحكومية ( التي نسمّيها كذبا بالقومية ) خبرا أو رأيا، و إذا كانت قوانين النشر تمنع ظهور الأكثر من الصحافة الخاصة، المعبرة عن توجّه الفئات و المجموعات الأقل عددا، و إذا كانت بعض المنشورات الخاصّة تمارس نفس التلاعب الذي تعمد إليه الصحف الحكومية، فبعد هذا و ذاك، هناك مواقع الإنترنيت على شاشة الكمبيوتر، التي أصبحت اللعبة المفضلة لجيل كامل متمرّد، لا نعلم شيئا عن توجّهاته و عقائده . و إذا كان رؤساء تحرير الصحف الحكومية ما زالوا يتحدّثون عن الديموقراطية، و يمارسون السيطرة على أجهزتهم و قرّائهم، إرضاء للحكومة، فالتغيّرات و التحوّلات نحو مبادئ عصر المعلومات، و ما تقتضيه ديموقراطية هذا العصر، لن تسمح باستمرار هذا الوضع غير الديموقراطي .

هواية مهاويس الكمبيوتر !

عندما أقول أن التكنولوجيات المعرفية تغيّر نظم حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، يتصوّر البعض أن هذا نوع من المبالغة .. و لكي أثبت هذا لهؤلاء المتشكّكين، سأطرح واقعة معاصرة، تحدث حاليا في أكثر الدول تباهيا بالحرّية، و بالتحديد بحريّة إعلامها، أقصد الولايات المتحدة الأمريكية .
دراسة هامّة في موقع على الإنترنيت، اسمه " حقيقة الذي حدث " . و كان عنوان الدراسة الطويل يقول " الخطأ الذي وقع فيه بوش، حول فهمه لتأثير الإنترنيت " . و تقول الدراسة، أن التاريخ سيسجّل، على الأرجح، أن الخطأ الأكبر الوحيد الذي وقعت فيه آلة الحرب التابعة لبوش، كان إقلالها من شأن الإنترنيت . إنّهم لم يفهموا الإنترنيت، أو ثقافة الإنترنيت، أو بعدها الاجتماعي .. و الأهم من هذا، لم يفهموا كيف أن استخدام الإنترنيت قد حوّل الأمريكيين، من مجرّد مستقبلين للمعلومات الإذاعية، إلى مشاركين نشطين و ناقدين في العملية الإعلامية .
كان الاعتقاد السائد، هو أن أخبار الإنترنيت هي مجرّد هواية، يمارسها (مهاويس) الكمبيوتر، ليستقبلها (مهاويس) آخرون، و هو أمر لا أهمية له . لم يعرف بوش و لا صحبته من الرجعيين الجدد ماذا يفعلون فيما يتّصل بالأنترنيت، و هكذا قادتهم تمنياتهم إلى اعتبارها غير مهمة . لكنّهم كانوا مخطئين .

قرضاي ..و زالماي !

بينما كانت قياسات الرأي العام تفيد أن العدد الأكبر من الجمهور ما زال يستمد أخباره من أجهزة التلفزيون، بأكثر ممّا يستمدّها من الإنترنيت، إلاّ أن الهامش أخذ في التناقص . و لم تشر قياسات الرأي تلك إلى أن أولئك الذين يشاهدون التلفزيون، لم يعودوا يرتبطون عقليا بفيض الأخبار المطروحة عليهم، و يستسلمون لها. هذا بالإضافة إلى أن جمهور الإنترنيت كان نشطا في نقل الأخبار إلى أولئك الذين ليست لهم علاقة بالإنترنيت .
و قد حدث بعد سقوط أفغانستان، أن قام هواة الإنترنيت بنقل أخبار تفيد أن الرئيس الأفغاني ( اللعبة ) الجديد، حامد قرضاي، و المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان زالماي خليل زاد ( الذي خلف بريمر في العراق)، شكّلا معا جانبا من مجموعة العمل الخاصّة بإحدى شركات البترول، و التي أوصت الكونجرس عام 1998 بإجراء تغيير في نظام الحكم الأفغاني، من أجل تسهيل إنشاء خط أنابيب بترول . وسائل الإعلام الرئيسية لم تشر أبدا إلى هذه الحقيقة، بينما فعل ذلك أصحاب المواقع على الإنترنيت . و عندما شعر المواطن الأمريكي أن هناك من الأشياء التي تحدث في العالم، ما لا ينبئه به التلفزيون، بدأ في هجر التلفزيون و الاعتماد على الإنترنيت كمصدر للأخبار .

الحكومة تفقد احتكارها

عندما بدأ ظهور الخطر، شمّرت الحكومة و وسائل الإعلام التابعة (مثل فوكس ) عن ساعدها، و راحت تحذّر الأباء من أن الإنترنيت هو أداة إفساد الأبناء، و جرى دفع الأموال لمؤسسات العلاقات العامة، لتغطية و تكذيب أخبار الإنترنيت. و تقول الدراسة " لقد حدث شيء غريب .. فبعكس ما يحدث في التلفزيون أتاح الإنترنيت للأفراد الذين عاشوا على المعلومات الخاطئة ، وصولهم إلى المعلومات الحقيقية .. لهم .. و للعالم أجمع .. و فورا " .
فجأة، سقطت القاعدة القديمة التي تقول " ما تقوله الحكومة، يصدّقه الجمهور " . لقد فقدت شبكات التلفزيون الرئيسية احتكارها، وتحكّمها فيما يتدفق من معلومات . أصبح الجمهور قادرا على أن يقرر بنفسه ما الذي يستحق التصديق .
و عندنا .. مع كلّ هامش الحرية، الذي يتكرّر الحديث عنه، في اللقاءات الرسمية للحكومة و الحزب الوطني، ما زال إعلامنا يمضي وفق قواعد إعلام حكومي معدوم الشفافية.. فاقدا مصداقيته، بعد وصول التكنولوجيات المعرفية إلى أيدي أعداد متزايدة نشطة من الشباب المتعلّم . . و خير دليل على ذلك ما حدث في إضـراب 6 إبريل 2008، و الذي فضح موقف النظام المصري و سنده الوحيد الباقي، قوات الأمن المركزي، بعد فشل إعلامه الرسمي .

* * *

الإعلام المتّسم بالشفافية، و الذي يتيح للفرد الوصول إلى المعلومات و المعارف التي يريدها، في الوقت الذي يريدها فيه، هو الذي يسمح له أن يعلم .. و التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري في مكان التلقين، هو الذي يتيح له أن يفكّر و يختار، و يمارس الأشكال الديموقراطية النابعة من طبيعة مجتمع المعلومات .

و إلى الرسالة التالية، لنرى الأهمية الكبرى للمجتمع المدني، كأداة لتحقيق الديموقراطية .

الاثنين، أغسطس ٠٤، ٢٠٠٨

إعلام عصر المعلومات

ثانيا : الإعــــلام

و الديموقراطية المطلوبة لمصر


بعد التعليم، ننتقل إلى الشق الثاني من دعامات الديموقراطية الجديدة، أعني الإعلام .. كيف يتحوّل إعلامنا إلى أداة لديموقراطية عصر المعلومات ؟ .
في المعادلة التي طرحتها، كان من الضروري أن يتقدّم التعليم باقي عناصر المعادلة، باعتباره الأداة الأكثر أهمّية في تكوين الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، و القادر على ممارسة الديموقراطية الجديدة التي يفرضها عصر المعلومات . فالطفـل الذي يسـتفيد من النظام التعليمي الجديـد، يخرج إلى معترك الحياة بعد عقد أو عقد و نصف من الزمان، بينما لا تستغرق عمليات إعادة البناء في المجالات الأخرى من حياتنا بعض ذلك الوقت . و إذا كان التعليم هو الصناعة الثقيلة في مجال إعداد البشر لعصر المعلومات، فالإعلام هو الصناعة الاستهلاكية، التي لا غنى عنها .
إعلام عصر الصناعة ـ و الذي ما زلنا نأخذ به ـ كان إعلاما جماهيريا، يقـوم على مبدأ النمطية و التوحيد القياسي الذي ساد كلّ شيء في عصر الصناعة . كانت وظيفته الأساسية، نقل أفكار و توجيهات النخبة الرابضة عند القمّة إلى القواعد العريضة عند قاعدة الهرم . كان إعلاما يمضي دائما في اتّجاه واحد، من أعلى إلى أسفل . كانت الأنظمة الحاكمة ـ و ما زالت ـ ما أن تتسلّم الحكم، حتّى تندفع إلى تكوين جيش قوي يحميها من القوى الخارجية، و شرطة قادرة تحكم الداخل، و تضمن استمرار النظام الحاكم .. و في نفس الوقت كانت تحرص على إرساء إعلام مقروء و مسموع و منظور، تتحكّم فيه من خلال رجال إعلام محترفين، يعرفون جيّدا نوايا النظام الحاكم قبل أن ينطق بها، و يبادرون إلى تعميمها، و الدعاية لها . لهذا كانت وسائل الإعلام الجماهيرية تضم أقدر الخبرات في تزوير الحقائق و تلوينها بألف لون، وفقا لرغبات النظام الحاكم، و لعل خير مثال على هذا، تجربة جوبلز في الحقبة النازية بألمانيا.
البشر يتمرّدون على القولبة
ثورة المعلومات، التي ضاعفت التكنولوجيات المعلوماتية من اندفاعها، أتاحت للأفراد مساحة واسعة من المعلومات و المعارف، ليأخذ كل فرد منها ما يميل إليه، و يكون لكل فرد فهمه الخاص لما توصّل إليه من معلومات و معارف .. و هكذا، اختلف الأفراد و تباينوا و تنوّعت معارفهم و أمزجتهم، فخرجوا من قوقعة النمطية و التوحيد القياسي، و غير ذلك ممّا قام عليه المجتمع الصناعي و فرضه على البشر . لقد تمرّد البشر على محاولات القولبة غير الإنسانية التي مارسها عصر الصناعة . فانقضى كل ما يحمل صفة الجماهيرية، التعليم الجماهيري، و الأحزاب الجماهيرية، و أيضا الإعلام الجماهيري .
و عندنا .. مع كلّ هامش الحرية، الذي يتكرّر الحديث عنه، في اللقاءات الرسمية .. ما زال إعلامنا يمضي وفق قواعد الإعلام الجماهيري الذي ساد عصر الصناعة، و الذي فقد مصداقيته، بعد قيام ثورة المعلومات ..

من أجل الحكومة و الشعب معا

في صيف عام 1990، كتبت مقالا في مجلة ( المصوّر )، بعنوان " إعلام جديد لحساب الحكومة و الشعب معا " . قلت فيه، أن العاملين في وزارة الإعلام ما زالوا يتمسّكون بالفهم القديم، الذي يعتبر أن جهد وزارة الإعلام يجب أن يكون لحساب الحكومة، و ينحصر في نقل رؤيتها و قراراتها و توجيهاتها و أخبارها إلى أفراد الشعب . أي أن وظيفتها الأساسية هي أن تعمل من أعلى إلى أسفل فقط .
و قلت فيه " وظيفة وزارة الإعلام يجب أن تكون التخفيف من التناقض الحادث بين الحكومة و الشعب . و هذا التناقض موجود، و سيوجد، ما بقيت مركزية الحكومة على حالها . هذا التناقض، لا ينبع بالضرورة من سوء نيّة الحكومة، أو إهمالها و عدم مبالاتها، و لكنّه النتيجة الطبيعية لعدم قدرة الحكومة .." .
و شرحت هذا قائلا أن النظام البيروقراطي المركزي، يحرم الحكومة ـ أيّ حكومة، و ليس حكومة مصر فقط ـ من التغذية المرتدّة التي تحتاجها من القواعد الشعبية . و للعلم، هذه أزمة مستجدّة لم تواجه حكومات عصر الصناعة بالشكل الحالي . و السرّ في هذا أن الجمهور قد تحوّل ـ و يتحوّل كل يوم ـ إلى جماهير عديدة متباينة التوجّه و المطالب من الحياة، نتيجة لثورة المعلومات . و قلت أن وزارة الإعلام بأجهزتها كالإذاعة و التليفزيون، قادرة ـ بالإضافة إلى الصحافة ـ على تقديم عون جزئي للحكومة في هذا المجال، عندما يعكس لها صورة الواقع المتغيّر على أرض مصر .
الإعلام، نقطة البدء العملية
قلت أن التخطيط لمستقبل مصر على المدى البعيد، لا بد أن يمرّ من خلال ثورة إعادة بناء في مجال النظم التعليمية الحالية . لكن، نقطة البدء لإعادة بناء مصر ـ و الديموقراطية أساسا، و التعليم ضمنا ـ هي ضمان شفافية أجهزة الإعلام من صحافة و إذاعة و تليفزيون، و قدرتها على العمل كموصّل جيد بين مختلف مستويات المجتمع .
كما قلت أن الذي يزيد وضع التناقض بين الحكومة و الشعب سوءا، أن الأحزاب عندنا ـ وطني و معارضة ـ تعاني هي الأخرى من نفس القصور . لو أن هذه الأحزاب كانت أحزابا حقيقية، نابعة من إرادة جماعية لفئات و طبقات، لها قواعدها المحسوسة في الشارع المصري، لكانت قادرة على مساعدة الحكومة في تفهّم طبيعة التغيّرات في خريطة الشارع المصري .. و بديهي أن ما نقوله عن قصور الأحزاب الحالية،ينسحب أيضا على المجالس النيابية التي تتشكّل أساسا من هذه الأحزاب .

الحوار، و دور الإعلام

و أشرت إلى أننا في أشد الحاجة إلى التفكير و الفهم، لأن التفكير القائم على فهم الحقائق هو الذي يقود إلى إمكان رسم إطار رؤية مستقبلية شاملة لمصر، على أساس التغيّرات المستجدة للتحوّل من عصر الصناعة إلى المعلومات .
و قلت أن التفكير الذي أدعو إليه، لا يتبلور إلاّ من خلال الحوار الحرّ الصادق، بين أطراف يتوافر لها الحدّ الأدنى من المعلومات و المعارف المعاصرة . و هو حوار لا يمكن أن يدور في حجرات مغلقة، و ندوات خاصّة، بل لا بد أن يتم بصوت مرتفع، يسمعه جميع الناس، من القيادة إلى القواعد، فيفهّموه، و يدركوا من خلاله بدائل الأفكار، فينحازوا إلى الأفكار التي تجمع بين مصالحهم القريبة، و مصالحهم البعيدة .و أفضل وسيلة متاحة حاليا لتحقيق هذا الهدف، هو أن يتم الحوار على موجات الإذاعة، و قنوات التلفزيون، بالإضافة إلى الجرائد و المجلات .
و لن يصبح هذا مجديا إلاّ إذا تغيّرت العقلية السائدة في وسائل الإعلام، و فهم العاملون فيها طبيعة المهمة الجديدة الملقاة على عاتقهم، و فهموا أن مهمّتهم الحقيقية هي تفجير الأفكار، و ليس قتلها بتسليط قواعد الرقابة العامة و الذاتية عليها .

أقوى من حماس الوزير

تحمّس الوزير صفوت الشريف، فطبع صورا من المقال وزّعها على قيادات الإعلام في الوزارة طالبا منها أن تفكـّر
في طريقة الاستفادة من ذلك الكلام . و يبدو أن النتائج كانت مخيّبة، فاستدعاني مستشار الوزير، و سأل : ماذا نفعل ؟ . قلت نتكلّم، و تتكلّم قيادات الإعلام، لنرى ما الذي يمكن أن يتمخّض عنه هذا الحوار المبدئي . و بالفعل، تم تنظيم مؤتمـر في أحد الفنادق الكبرى، افتتحه الوزير صفوت الشريف، و دعيت إليه قيادات الإعلام .
كانت نتيجة ذلك الجهد، موقف سلبي من قيادات الإعلام، فانتصرت بيروقراطية قيادات الإعلام على حماس الوزير . لقد كان الصمت و الحذر هو الموقف السائد، و يبدو أن قيادات الإعلام تصوّرت أن الوزير ينصب لها فخّا، ليعرف مدى إخلاصها للنظام، فآثرت الصمت ! .. أضف إلى هذا أن رد الفعل الذي أشرت إليه يتكرر كثيرا، بين أفراد من خيرة الناس و صفوة المجتمع، الذين يحتلون المراكز العالية و القيادية، فهم يحجمون عن محاولة الفهم لما يترتب على ذلك من مراجعة أفكار قديمة .. نتيجة لعدم القدرة على متابعة و فهم المستجدات المتلاحقة، و عدم قدرة القيادات الواصلة على الاعتراف بأن فهمها ناقص .. بل و اقتناعها العميق أن ذلك الفهم الذي تتمسّك به، هو الذي خدمها، و أوصلها إلى المركز الذي تجد نفسها فيه ! .

الأربعاء، يوليو ١٦، ٢٠٠٨

ديموقراطية عصر المعلومات


الديموقراطية المطلوبة لمصر =
تعليم + إعلام + مجتمع مدني


ماذا عن مستقبل الممارسة الديموقراطية في مصر، و المطلوبة لصالح شعبها ؟ . من أين نبدأ المسيرة، وسط ركام التخلّف و الفشل و الفساد الذي يرتفع حولنا ؟ ..
الواجب العاجل الذي يدعونا أن نتجّه إليه، لمساعدتنا في التخلّص من الأفكار البالية، و الأوهام التي ما زلنا نتمسّك بها، و طرق الحياة الأثرية التي نعتقد في صلاحيتها .. هذا الواجب ينحصر في ثلاثة أركان رئيسية، يمكن أن يصلح جهدنا فيها كرأس حربة في اقتحامنا لعصر المعلومات، و مساعدتنا في تصميم الممارسة الديموقراطية التي تناسب واقعنا الحالي ..
الرؤية المستقبلية لمصر، التي يمكن أن تساعدنا في إعادة بناء كل شيء في حياتنا، بطريقة تنقذنا من الأخطاء التي أدمنّاها، و ترشدنا إلى كل ما يأخذ بيدنا لدخول عصر المعلومات . هذه الرؤية المستقبلية تقوم على أمرين :
أولا : وضوح الرؤية المستقبلية لمسار الجنس البشري في انتقاله من حياة المجتمع الصناعي، إلى حياة مجتمع المعلومات ( باعتبار أن هذا هو الهدف ) .
ثانيا : وضوح الخريطة الحضارية الراهنة لمصر، التي تكشف لنا بأمانة ( أين نقف ؟ ) .. و أعني بالخريطة الحضارية لمصر : إلى أي مدى ما زالت تسود حياتنا عقلية و ممارسات المجتمع الزراعي ؟، و ما حجم انتقالنا إلى الأخذ بعقلية المجتمع الصناعي ؟، و ما هو مدى اقترابنا من تخوم حياة مجتمع المعلومات ...
المحاور الأساسية للحركة :
المحاور الأساسية للحركة، التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق سليمة، في عملية إعادة بناء حياتنا السياسية، أي إعادة بناء نظام ممارستنا السياسية، أي ديموقراطيتنا . هذه المحاور هي :
• التعليم .
• الإعلام .
• المجتمع المدني .

سنحاول فيما يلي أن نشرح هذه المعادلة التي طرحناها، و التي نعتقد أنها ستساعدنا في عبورنا إلى المستقبل .. بشكل سليم و آمن .. و قائم على الفهم المتكامل لحقيقة الحياة الجديدة التي يمضي إليها الجنس البشري .

أولا : التعليــــم

و لكي نتعرّف على النظم التعليمية الجديدة في مجتمع المعلومات، يجب أن نستفيد ممّا فعله بعض المفكرين لفهم تعليم عصر الصناعة .. أي أن نحدد مواصفات الإنسان المنسجم مع الحياة في عصر المعلومات، و الذي يستطيع الاستفادة من كلّ ما تتيحه الحياة في مجتمع المعلومات، ثم نبني على ذلك الأسس الجديدة للنظم التعليمية .
إنسان عصر المعلومات
إنسان عصر المعلومات ـ دون الدخول في الشروح المطوّلة ـ له صفاته المحددة التي تختلف عن صفات إنسان عصر الصناعة، أو الزراعة، و التي من أهمّها أنّه :
متفرّد، و غير نمطي :
بعد انقضاء جدوى النمطية التي أشاعها عصر الصناعة، و نتيجة لتدفّق المعلومات و المعارف، يصبح إنسان مجتمع المعلومات أكثر حرصا على تفرّده و ذاتيته، و لا يرضى أن يكون صورة مكرّرة للآخرين، قادرا على التعامل مع التكنولوجيات المعلوماتية التي تساعده على الاستفادة من تدفّق المعلومات، و الاستفادة منها .
قادر على تحصيل المعارف ذاتيا، و بشكل دائم :
مع تسارع المعلومات، و التغيرات التي تطرأ على المعارف، يستحيل أن يكتفي الفرد بتحصيل معارفه عند عمر معيّن، أو عند انتقاله من الدراسة إلى العمل، الأمر الذي كان سائدا في عصر الصناعة، لذلك فإن إنسان المستقبل يؤمن بأن الحياة عبارة عن سلسلة متعاقبة من التعليم و التدريب و العمل، ثم المزيد من التعليم، و إعادة التدريب . و هذا يقتضي أن يكون إنسان المستقبل مستعدا ـ في نفس الوقت ـ للاعتماد على نفسه، في ملاحقة المعلومات المستجدة، و ما يطرأ على العلوم و المعارف من تغيّرات، مستخدما التكنولوجيات المعلوماتية التي أصبحت متاحة للجميع .
ممارس للتفكير الناقد، قادر على الابتكار :
مع تغيّر أسس الحياة جذريا، لا يبقى شيء على حاله، و يكون على إنسان مجتمع المعلومات أن يعيد النظرـ دائما ـ في كل ما استقرّ عليه الرأي من قبل . و التفكير الناقد، يتيح التعرّف على الافتراضات التي قامت عليها الأفكار و النظريات و العقائد، لامتحان مدى استمرار صلاحيتها .. كما أنه يتيح الانتباه إلى السياق الذي نبعت من الأفكار المتداولة، لمعرفة مدى استمرار صلاحية ذلك السياق .
و نتيجة للتحوّل إلى العمل العقلي، أصبح على العامل أن يكون قادرا على : رصد المشكلة في عمله، و التفكير في حلول لها، و انتقاء الحل الأنسب و الأوفق، ثم تطبيق ذلك الحل، و التثبّت من صلاحيته .. هذا يعني أن الابتكار و التفكير الابتكاري أصبح سمة أساسية في نشاط إنسان مجتمع المعلومات .
إيجابي، و متعاون :
التنظيم الهرمي لتسلسـل الرئاسـات، الذي هو العمود الفقري للبيروقراطية .. هذا التنظيم الذي ما زلنا نأخذ به، رغم تناقضه مع احتياجات عصر المعلومات، كان يفرض على الفرد أن ينفّذ التعليمات الصادرة إليه من المستويات الأعلى منفردا ..لكن التنظيمات الإدارية الجديدة للعمل، على امتداد العالم المتطور، تحوّلت إلى تنظيمات جديدة، تعتمد على هبوط نسبة كبيرة من مسئولية اتخاذ القرار، التي كانت تنفرد بها القيادة، إلى الوحدات القاعـدية، متكاملة الخبرات، شبه مستقلة الأداء، حرّة الحركة تجرى اتصالاتها في جميع الاتجاهات . لهذا يجب أن يكون إنسان المستقبل إيجابيا، قادرا على المبادرة و على التفكير الخلاّق عند اتخاذ القرارات المتصلة بعمله، ناجحا في التعاون مع غيره من أفراد مجموعته، و مع المجموعات الأخرى، داخل مؤسسته و خارجها .
معتزّ بعقيدته، محترم لعقائد الآخرين :
مع اندفاع ثورة المعلومات، و التنوّع الكبير الذي سيطال البشر، إنسان مجتمع المعلومات لا يخجل من أفكاره و عقائده، الناتجة عن جهده في التفكير الناقد، معتزّا باختلافه عن الآخرين، و هو في نفس الوقت يحترم عقائد الآخرين، و لا يحاول أن يفرض عليهم عقيدته .
إذا كانت هذه هي خصائص إنسان عصر المعلومات، فما هو نوع التعليم الذي يصلح له، و لمجتمعه أيضا؟

تعليم عصر المعلومات

وفقا لخصائص إنسان عصر المعلومات التي أوردناها ،يمكننا أن نستنبط طبيعة التعليم التي تناسب هذا العصر،و هذا الإنسان .. و التي تشير إلى:
• تعليم يساعد على التفرّد، و يناهض القولبة، و محاولة جعل الأفراد آحادا متراصة متشابهة .
• تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير و الابتكار، و يحارب التبعية النمطية و التلقين .
• تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات و المعارف، بلا قيود أو وصاية .
• تعليم يناهض كل ما هو جماهيري، من رواسب نظم عصر الصناعة، و يحترم الفروق بين الأفراد .
• تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، و يحترم التنوّع الشديد الذي استحدثه تدفّق المعلومات و المعارف في عقائد البشر و توجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له و للآخرين .

نظم تعليمية جديدة

مع دخول الكمبيوتر، و الإدارة الرقمية، و الروبوت، إلى المصنع و المكتب، يقتضي الأمر الاعتماد على نظام تعليمية جديدة، تختلف كثيرا عمّا نأخذ به، من بينها التالي .
أولا : من التلقين، إلى التفكير و الابتكار
الكمبيوتر و الروبوت نجح في تولّي معظم الأعمال الروتينية في المصنع و المكتب، و بشكل متفوّق عن الأداء البشري، فلم يبق للبشر سوى العمل العقـلي أو المعـرفي، الذي يقتضي التفكـير، و القدرة على حلّ المشاكل، بالبحث عن بدائل الحلول، و اختيار الحل الأوفق للظروف، ثم تطبيقه و متابعة أدائه . و هذا هو التحوّل الأساسي في النظام التعليمي المناسب لعصر المعلومات . من تعليم يقف عند حد تلقين المعلومات المحدودة، إلى تعليم يشجّع على التفكير، و البحث عن الحلول، و يحض على الابتكار و الإبداع . نحن ننتقل من تعليم عصر الصناعة الذي كان يعمد إلى تلقين التلاميذ، و حشو رؤوسهم بشتات المعلومات، و بعض التقنيات، إلى تعليم يستهدف خلق المعارف و التدريب المتواصل .
ثانيا : بيئة تعليمية مفتوحة
ستتحوّل البيئة التعليمية المغلقة الحالية، إلى بيئة تعليمية مفتوحة، تعتمد على شبكات المعرفة الإلكترونية، التي تعطي أهمية أكبر للقـدرات الشـخصية . البيئة التعليمية الجديدة، تنهي احتـكار المدرسة للعملية التعليمية، و تفتح الباب أمام
ممارسة التعليم في البيوت، و في المؤسسات الاقتصادية التي ستتكفّل بجانب منه .
ثالثا : من التعليم النمطي، إلى الشخصي
النظام التقليدي النمطي الجماهيري، النابع من عقلية و احتياجات عصر الصناعة، يحل محلّه نظام جديد يقوم على أساس اعتبار قدرة الفرد و اختياراته . و هذا يعني أنّه في مكان نظام التعليم الحالي، الذي يجري تقسيمه على أساس الأعمار، يقوم نظام جديد يسمح لقدرات الأفراد بالتقدّم إلى مستويات متقدّمة، بصرف النظر عن العمر .
رابعا : التعليم على مدى الحياة
التعـليم العام لعصر الصناعة يقوم على تعليم إجباري، بالإضافة إلى فرص قليلة للتعليم الأعلى و الحرفي . و كان التعليم ينتهي عادة بالحصول على شهادة إتمام الدراسة، التي تؤهّل لدخول الوظائف و مجالات العمل .
مع تسارع المعلومات و المعارف، و تغيّر النظريات، و هبوط علوم و صعود علوم جديدة، تنشأ ضرورة اعتماد الدارس، أيا كان عمره، على التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة، لمتابعة ما يحدث بشكل عام، و في فرع تخصّصه بشكل خاص . و هذا يجعل تعليم عصر المعلومات عملية ممتدة على مدى حياة الفرد .
خامسا : التعليم الذاتي
يساعد على التعليم الدائم المتواصل، مبدأ التعليم الذاتي الذي يأخذ به عصر المعلومات، و الذي يراعي و يحترم الفروق الشخصية بين الأفراد . و التعليم الذاتي يصبح ممكنا بفضل الكمبيوتر، و غير ذلك من التكنولوجيات الإلكترونية . لقد أصبح بإمكان الفرد أن يعلّم نفسه، على مدى مراحل عمره، اعتمادا على البرامج التعليمية الخاصّة بالكمبيوتر، الذي يقوم باختبار الدارس، عند مراحل معينة، للتثبّت من استيعابه، تمهيدا لإعادة الدرس، أو الانتقال إلى الدرس التالي، وفقا لإيقاعه الخاص .

* * *

هذا التعليم الذي أوضحنا خصائصه، هو الذي يساعد الفرد على ممارسة أنماط الممارسات الديموقراطية الجديدة، التي تنبع من احتياجات عصر المعلومات . لقد كان تعليم عصر الصناعة، الذي يوصف بالتعليم الجماهيري، هو أنسب ما يفيد الفرد في تعامله مع الديموقراطية الجماهيرية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتدعها عصر الصناعة، و التي تقتصر على اختيار الفرد ـ بنفسه أو من خلال حزبه ـ للشخص الذي سيتّخذ قرارات حياته نيابة عنه ..
و هذا هو السرّ في أن تعليم عصر المعلومات يحتل الأولوية الأولى في بناء الديموقراطية جديدة المطلوبة لمصر .

و في الرسالة التالية، عن الدعامة التالية، أعني الإعلام

الأربعاء، يوليو ٠٢، ٢٠٠٨

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات


اليـد الخفــية ..

هل تصلح بديلا للسلطة البنيوية ؟

أحد بدائل السلطة البنيوية، هو النظام الذي فيه " يتولّى الناس أمورهم "، و يتصرفون وفق المعنى الضيّق للمصلحة الشخصية، ذلك النمط الذي يمكن أن نقتفي أصوله عند آدم سميث اقتصاديا، و جيرمي بينتام فلسفيا .. ذلك النمط الذي غالبا ما يطلق عليه تعبير " اليد الخفية " .
يقول الكاتب المستقبلي روبيرت ثيوبالد " هذا النمط يفيد أن الأفراد إذا ما اتّبعوا مصالحهم الخاصة، سيزدهر الاقتصاد و المجتمع .." . و هذا النموذج الفكري، يتضمّن الإيمان بأن العالم يمضي وفق ساعة كونية، من الحكمة عدم التدخّل في عملها . و لكن عند نهاية القرن التاسع عشر، تزايد وضوح نقائص ذلك النموذج . و في ستينيات القرن الماضي كان ( الهيبيز ) من أشد أنصار فكرة اليد الخفية هذه .
الحقيقة الخالصة، هي أنه ليس في إمكاننا أن نخلق ديموقراطية توقّعية حقيقية، دون تحوّل هائل في فهمنا حول عمل الاقتصاديات الاجتماعية، و في هذا يقول ثيوبالد " الطريقة التي نفهم بها العالم حاليا، و الطريقة التي نفكّر بها في هذا الأمر، لن توفّر لنا تناولا لمسألة اتخاذ القرار، يكون في نفس الوقت ديموقراطيا، و مستوعبا حقائق المستقبل .." .
يميل بعض المتحمسين لمشاركة المواطنين، و للديموقراطية التوقّعية، إلى المبالغة الضارّة، بتصوّرهم أن مشاركة المواطنين في صنع القرار، و الديموقراطية التوقعية، يقودان إلى مدينة فاضلة مثالية . و هذا يثقل على الجهد المبذول في هذا السبيل بتوقّعات لا يمكن تحقيقها . و يقول ثيوبالد " هذا الشكل المناسب لاتخاذ القرار، قد يجعل من الممكن ( إدارة أمور العالم )، و من خلاله يمكن الوصول إلى مستوى جديد من الكفاءة، تساعد على تحقيقه المستويات العالية من التكنولوجيا حاليا .." .

الكفاءة .. و اتخاذ القرار

يقول ثيوبالد أن هناك بديلا لنموذجي السلطة البنيوية، و اليد الخفية .. و وجهة النظر الجديدة هذه، تفيد أن الناس عليهم أن يتخذوا القرارات في المجالات التي تكشف عن كفاءتهم، و أن يحققوا الاتصال بين مجالات الكفاءة التي لا يوجد اتصال بينها، و أن يعملوا معا،مجتمعين، خلال كامل عملية التفكير في اتخاذ القرار .
و عادة ما تظهر ردود فعل مضادة، في مواجهة هذه الدعوة . أوّلها، أن ما يقول به البعض من أن الأخذ بهذا سيقود إلى عدم حدوث تغيير في المجتمع الحالي، أي أن تظل النخبة الحالية محتفظة بالسلطة . رغم أن ثيوبالد يعتقد أن النخبة التي بيدها السلطة حاليا لا تعكس ـ بالضرورة ـ الكفاءة في المجال الذي تسيطر عليه . و ثانـي ردود الفعل المضادة
يصدر عن جماعات تؤمن بعدم وجود اختبارات يمكن بها تحديد الكفاءة بشكل دقيق . و يرد على هذا بأن التجربة العملية في مواجهة المشاكل تكشف للجمهور مدى الكفاءة التي يتمتع بها القائد . و أن السر في صعوبة تولّي أصحاب الكفاءات لمواقع صنع القرار، المقاومة التي يبديها عدم الأكفاء الممسكين بالسلطة حاليا . و الاعتراض الثالث يصدر عن أفراد يخافون من أن تولي الأكفاء للسلطة يجعل من الصعب تغييرهم، إذا استجد أمر .

الانتماء إلى الحياة الجديدة

تصبح مشاركة المواطنين في صناعة القرار ممكنة و مطلوبة، إذا كان بالإمكان إحلال قيم و رؤى عصر المعلومات و الاتصالات، محل قيم و رؤى عصر الصناعة . و هو ما حدث عند انتقالنا من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة .
التحوّل السابق تم عبر أجيال، مع اختلاف رؤية كلّ جيل عن الذي سبقه، و ممّا خلق نوعا من التوتّر بين الأجيال . المشكلة حاليا، هو أنه ليس لدينا الوقت الكافي لانتظار حدوث التغيير عبر أجيال، و أن كلّ واحد منا مطالب بأن يعيد اختبار أفكاره عن الحياة و النجاح، على ضوء التغيرات العريضة التي تتعرّض لها حضارتنا . و يقول ثيوبالد " معظمنا يجد هذا الواجب شاقا بشكل غير عادي، لغياب النماذج التي نهتدي بها . لكننا سنكتشف بعد قليل بأن القيم المطلوب منّا تبنيها أكثر إنسانية، و أكثر قبولا من التي يطلب منّا التخلّي عنها ..و مع ذلك لن يكون التغيير سهلا .." .

السلطة الحكيمة

ما نحتاجه، هو الفهم السليم للسلوك البشري . فلا صحة للقول الذي يتردد كثيرا حول أن الناس يتصرفون بما يتّفق مع مصالحهم، في لحظة إقدامهم على التصرّف . فلم يثبت من التجارب العملية أن الناس عرفوا أين تقع مصلحتهم، أو عرفوا التصرف الأسلم لبلوغ الهدف، أو التزموا بهذا في تصرفهم، انهم قد يسعون إلى هدف في وقت ما، ثم إلى هدف آخر في الوقت التالي . و يقول ثيوبالد " الحقيقة ببساطة هي أن الناس يختلف تعريفهم للنجاح.. و أن تعريف الفرد يتأسس
وفقا لمداركه، و لماضيه، و لخبرته الشخصية، و احتمالاته الوراثية .." . و هو يقول أن السعي لتغيير سلوك البشر يتضمّن التالي :
أولا : مساعدتهم على إعادة تقييم معنى خبراتهم السابقة .
ثانيا : تمكينهم من اكتشاف رؤى المستقبل، التي ستغيّر أهدافهم، إلى اتجاهات يرغبون فيها أكثر .
ثالثا : تعليمهم المهارات التي تساعد على جعل أقوالهم و تصرفاتهم تيسّر وصولهم إلى الأهداف المنشودة .
كأفراد، عليهم تعلّم ممارسة إعادة تقييم ماضيهم، و تصوّر مستقبلهم الجديد، و لا مناص من أن البدء في تعلّم محاولة التأثير على المجتمع الذي يعيشون فيه .. وهذا هو الذي سيقود إلى تحقيق ديموقراطية توقّعية فعّالة .. و مع كلّ هذا، فطبيعة الأمور تقول أن هذا سيقتضي بعض الوقت لظهور التغيير المنشود، بحكم القصور الذاتي الهائل للمجتمع، و مقاومة البنية البيروقراطية لأي تغيير .

طرق التحكّم في الذات

المشاركة الصادقة من جانب المواطنين، تحتاج إلى تحوّلات عميقة في الطرق التي نحكم بها أنفسنا :
أوّلا : نحن نحتاج معرفة أن هناك عدد قليل من الصراعات التي يكون فيها أحد الطرفين محقّا بالكامل، و الآخر مخطئا بالكامل . العيب في نظامنا القانوني هو سعيه لتخريب و إخفاء الظلال الرمادية، و اختزال الأمر إلى أسود و أبيـض
ثانيا : نحن في حاجة إلى تطوير هياكل جديدة تسمح للناس بتطوير أفكارهم و التعبير عنها، بأكبر قدر من الوضوح . في المستقبل، سنحتاج إلى البحث عن المدهش و غير المتوقّع . و القدرة على تقبّل ما هو مستجد، قبل أن يكتمل نضجه، يعتبر من أندر المهارات و أكثر ما نحتاجه منها، في حياتنا الجديدة .
نحن في حاجة إلى خلق آلية جديدة، تساعدنا في توضيح الخلافات و الفرص . و هذه العملية في شكلها الأمثل تتكوّن من أربعة جوانب :
الأول : جانب ينصب على توصيف عناصر الاتفاق القائم حول موضوع معيّن، و بخاصة العوامل التي تقود الناس إلى الإيمان بأن هذا الموضوع يستحق الاهتمام .
الثاني : و جانب يصف عناصر عدم الاتفاق القائمة حول الموضوع، و أسباب عدم الاتفاق، و نوع المعارف المطلوبة للمساعدة على الوصول إلى اتفاق .
الثالث : و جانب يستكشف نطاق السيناريوهات التي تفرضها التصورات المختلفة للموضوع الذي نتناوله، و اقتراح المعايير المختلفة للسياسات التي نحتاجها لنستوعب وجهات النظر المختلفة .
الرابع : و جانب يقرر الموارد المتاحة للمزيد من الدراسة ( مطبوعات، أوديو، فيديو، كمبيوتر .. إلى آخره ).
و الهدف من هذا المنهج ـ كما يقول الكاتب روبرت ثيوبالد ـ هو زيادة مساحة ما هو متّفق عليه، و الحدّ ممّا هو موضع خلاف، بالنسبة لموضوع ما، حتّى يكون لدى أولئك الذين يضعون السياسات أفضل المؤشرات، لفهم العالم الذي يعملون في حدوده .

و إلى الرسالة التالية، لنرى أثر هذا كلّه على الديموقراطية المطلوبة لمصر .

الجمعة، يونيو ٢٠، ٢٠٠٨

الأحد، يونيو ٠٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية مجتمع المعلومات

مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار

.... و آثـــارها العميقــــة

نحن نمضي الآن عبر ما يمكن أن نطلق عليه " الثورة الكوبيرنيكية الثانية " . هذا هو ما يقوله الكاتب المستقبلي روبرت ثيوبالد، في دراسة له حول الديموقراطية التوقّعية . و هو يستطرد قائلا أتاح لنا كوبيرنيكوس أن نرى الأرض، برؤية بعيدة عن الرؤية الشائعة في وقته، باعتبارها مركز الكون، فأثبت أنها تدور حول الشمس .. و كذلك علّمنا عصر الاتصالات أن كل إنسان هو ـ بالتأكيد ـ مركز كونه الخاص .. و أننا نستقبل العالم من خلال مناظيرنا الخاصّة الفريدة، و التي تتحدد بالتركيب الجيني الخاص بنا، بالإضافة إلى خبراتنا . و يضيف أن الفرق الأساسي بين عصر الصناعة و عصر المعلومات و الاتصالات، هو المدركات الخاصة بكل منهما .
خلال عصر الصناعة كنّا نؤمن بوجود حقيقة موضوعية، يمكن الوصول إليها و اكتشافها إذا ما كافحنا بشكل جاد من أجل ذلك . و كان السبيل الأساسي لذلك هو أن نجزّئ الواقع إلى شظايا أصغر فأصغر، لاعتقادنا أن هذا سيقودنا إلى مجموعة من الحقائق الخالصة . و المشكلة هي أننا وجدنا القليل من تلك الحقائق، و أن الحقائق التي وصلنا إليها بدت بلا نفع في وجه المشاكل التي نصادفها .
عصر المعلومات و الاتصالات ينطلق من إدراك جديد، هو أن كلّ شيء متبادل الاتصال .. هذا التناول يقتضي مجموعة مختلفة جدا من الأدوات، و أنماط السلوك، و النماذج . يقول ثيوبالد " علينا أن نتعلّم كيف نعمل من خلال نظام اتصالات، في مكان نظام التحكم، لكي نشجّع التنوع في مكان التشابه و النمطية، و أن نستقر عند " ما يكفي " بدلا من السعي إلى ما هو أكثر، و أن نتعلّم أيضا كيف نعمل من خلال نسق القيم الذي أطلقنا عليه في الماضي اسم النسق الديني : مثال ذلك الأمانة، و المسئولية، و التواضع، و الحب، و احترام الأسرار العقائدية .." .
و عصر المعلومات و الاتصالات ليس مجموعة من التجريدات . و في جميع الأحوال، على الذين يريدون أن يفهموا هذا العصر أن يلتزموا بالعيش فيه، بالضبط كما فعل أولئك الذين أوجدوا عصر الصناعة، عندما تنازلوا عن قيم عصر الزراعة ..
أي مناقشة ذات دلالة، لموضوع مشاركة المواطنين، أو مساهمة المواطنين، أو الديموقراطية التوقّعية، يجب أن تتضمّن بالضرورة مناقشة مصادر السلطة في الجماعات، و المؤسسات، و الثقافات . و معظم الأمريكيين لا يبدون ارتياحا حيال هذا الموضوع . و نتيجة لهذا، تظهر سلسلة من العقائد الجـامدة، التي لا تتوافق مع هذا الموضوع .
لهذا، يكون من المهم أن نختبر الافتراضات السائدة، و أن نضع المعالم العامة للرؤية البديلة للمجتمع .

السلطة البنيوية

يقول روبرت ثيوبالد أن ثقافـة عصر الصناعة التي نعيشها، تقوم على افتراض أن السلطة ( أي حق اتخاذ القرارات و تطبيقها )، تتوقّف على المركز الذي يسيطر عليه الفرد . و موقع القوّة يمكن الوصول إليه بعدة طرق : بالترقّي في سلم البيروقراطية، أو بالتعيين ( كما في الوظائف المدنية العليا أو في بعض جوانب من النظام القضائي )، أو من خلال الانتخاب على أساس العملية الديموقراطية الحالية . ويضيف، لأننا نخشى استغلال السلطة، فإن حق القيادة و التحكّم غالبا ما تكبّله مجموعة من القيود، التي يقصد بها منع استغلال السلطة بشكل غير سليم . و مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية، يسيطر على مجمل النظام الأمريكي .
و درجة التوتّر التي تقوم بين أولئك الذين يمسكون بالسلطة، و أولئك الذين تمارس عليهم، تتوقّف أساسا على درجة الثقة بين الأطراف . و في السنوات الأخيرة، كشفت قياسات الرأي العام عن تدهور متواصل في الثقة الشعبية تجاه كل الجماعات التي تمسك بالسلطة : الحكومة، و رجال الأعمال، و السلطات العمالية، و وسائل الإعلام . و كان رد الفعل الذي لا مفـرّ منه، هو أن يمضي القابضون على السـلطة المزيد من الوقت في تجمـيل مواقفهم، على حسـاب الوقت المفترض لاتخاذ القرارات الضرورية .

السلطة تعبث بالمعلومات

يقول روبرت ثيوبالد " لسوء الحظ، تنشأ علاقة مباشرة، بين السلطة البنيوية، من النوع الذي أوردناه، و بين تزايد الإحساس بفقدان الثقة . . فالسلطة البنيوية تقود حتما إلى تخريب المعلومات، و إفساد الحقائق .. و على حد قول لورد آكتون : السلطة تميل إلى العبث بالمعلومات، و السلطة المطلقة تعبث بالمعلومات بشكل مطلق .." .
و يشرح ثيوبالد هذا قائلا : على سبيل المثال، عندما نعمل مع أفراد أو جماعات، تكون لديهم القدرة على التحكّم في حياتنا، إلى الأفضل أو الأسوأ، تكون النتيجة الطبيعية هو أن نتقدّم إليهم بالمعلومات التي ترضيهم . و كلّما كانت سلطتهم على حياتنا أكثر مباشرة و قوّة، كلّما زاد تبريرنا لتلاعبنا بالمعلومات، باعتبار أننا نضطر إلى ذلك، خوفا على عملنا أو على نمط حياتنا .
و طالما أننا ما زلنا متمسّكين بالنظام الحالي، فإن تركيز السلطة في أيدي قليلة، يستتبع بالضرورة أن يتعرّض هؤلاء الأقوياء إلى فيض من قذائف المعلومات التي يحمي أصحابها مصالحهم بعدم صحتها .

بين الديموقراطية و السلطة البنيوية

كيف يمكن للديموقراطية التوقّعية أن تعمل من خلال هذا النوع من بنية السلطة ؟ .. يقول ثيوبالد أن موضوع الطاقة النووية، كان أحد أسخن الموضوعات في انتخابات 1976، و هو يقدّم مثالا قويا لمدى التدهور في المعلومات الذي يمكن أن يحدث . في العديد من الولايات، اقترح الذين يخافون الآثار بعيدة المدى للإنتاج النووي على نوع الحياة و البيئة، أن يتم استفتاء عام حول الطاقة النووية . أما الذين كانوا مقتنعين بأن إنتاج طاقة إضافية يعتبر ضروريا من أجل رفاهية الولايات المتحدة، فقد عارضوا المجموعات صاحبة الرأي الآخر .
و الاستفتاء العام في الولايات المتحدة تكون له قوّة القانون، و هذا يعني أن الجمهور العام يمتلك سلطة مطلقة في ذلك المجال . لقد شعر أصحاب المصـالح في كلّ من الفريقين أن من حقهم "تحـريف" الحقيقـة، باعتبار أن القرار "الخـطأ" من جانب الجمهور يشكّل كارثة .
و كانات المحصلة النهائية تشويها ملفتا للمعلومات من الجانبين، نتيجة لاعتبار كل جانب أن موقفه هو الحـقّ الخالص . و أصبح من الأكثر صعوبة على المواطنين اتخاذ قرار قائم على المعلومات الصحيحة، حول التوجّه السليم الذي يجب أن يسلكه المجتمع في هذا الأمر .

تغيير بنية السلطة .. أوّلا

طالما تمسّكنا بنموذج بنية السلطة الذي نمضي بموجبه، تصبح فكرة دخول المواطن الذكي في ديموقراطية المشاركة أو الديموقراطية التوقّعية، من الأفكار الساذجة و الخاطئة . و في نفس الوقت، يمكن أن يقود دفع المواطنين إلى المشاركة، إلى الهبوط في معدلات الإنتاج . و مرجع ذلك إلى سببين :
أولا : كلما زادت القوّة التي يمارسها المواطنون من خلال الاستفتاء العام و غيره من الممارسات، كلما تعاظمت عملية تخريب المعلومات المتضمنّة .
ثانيا : جماعة المواطنين، هي واحدة من عدد كبير من الجماعات، و هي غالبا ما تكون الأضعف .
و يخرج روبرت ثيوبالد من هذا، بأن معظم مشاركة المواطنين الحالية، تثير المزيد من الإحباط و الغضب . . و بعض جماعات المواطنين تصبح " ناجحـة " بأن تصبح قوية بدرجة كافية، لكي تخضع أنماط بنية السلطة الأخرى لإرادتها . فإذا نظرنا إلى النتيجة النهائية، نجد أن كل الذي تغيّر هو تسلسل مواقع القوّة، أو تسلسل مراتب العذاب و المعاناة في حضارتنا .
يقول ثيوبالد " مشـاركة المواطنين، و الديموقراطية التوقّعـية، ممكنة فقـط بعد حـدوث تغـيير في أنماط بنية السلطة .. فما هي النماذج الأخرى لاتخاذ القرار التي يمكن أن نعتمد عليها ؟ " . هذا هو موضوع رسالتنا التالية

الثلاثاء، مايو ٢٧، ٢٠٠٨

في الديموقراطية التوقعية

في مواجهة الانهيار المتواصل

عند مركز عملية اتّخاذ القرار

في مواجهة الانهيار المتواصل عند مركز عملية اتخاذ القرار، يمكننا أن نسلك أحد طريقين :
الطريق الأوّل، هو محاولة المضي قدما في تقوية السلطة الحكومية، بالاعتماد على المزيد من السياسيين الإضافيين، و البيروقراطيين، و المستشارين ذوي الخبرة، مع التركيز على العقول الإلكترونية، على أمل اجتياز محنة التسارع و التعقيد و التركيب في الأحداث، المحلية و العالمية .
و الطريق الثاني، هو البدء في تخفيض عبء اتخاذ القرار، بتوسيع قاعدة المشاركين في ذلك العبء، و السماح بمزيد من القرارات التي يتم اتخاذها في القواعد و الأقاليم، أو في مراكز النشاط الفئوي، عوضا عن التركيز على قيادة صنع القرار المتخمة في المركز .
الطريق الأول يقود إلى المزيد من المركزية و التكنوقراطية و الشمولية، بينما يقود الطريق الثاني إلى ديموقراطية جديدة، ذات مستوى أكثر تطوّرا . و لا توجد أسباب تحضّ على سلوك الطريق الأول، فالقول بأن المركزية و الشمولية في اتخاذ القرار هما السبيل إلى " الكفاءة "، و أن الديموقراطية تقود إلى التشويش و الإخفاق .. هذا القول ليس سوى خرافة زائلة . فالنظر الأمين إلى الديموقراطية، بشيء من التعقّل، على ضوء نظرية المعلومات و اتخاذ القرار، بعيدا عن النظريات السياسية البالية، يفيد أنها تحقّق من الفضائل ما تفتقده المركزية و الشمولية .

مستقبل الدكتاتور

ما يحدث اليوم في مختلف المجتمعات من تغيير متلاحق متسـارع، يجعل مهمة الطاغية أو الدكتاتور محفوفة بالمخاطر . و إذا كان الدكتاتور قادرا على الحركة السريعة، نتيجة لعدم اضطراره لسماع و مواجهة الرأي الآخر، فإن هذا يعتبر ميزة في حالة كون ذلك الدكتاتور حكيما و ذكيا، و أيضا في حالة كون مجتمعه نمطيا، يتمتّع بثبات نسبي . و قد أثبتت التجارب السياسية، في مختلف أنحاء العالم، أنه في حالة تحقّق ذلك، فأن العائد الذي يصل إليه هذا النظام يكون مقترنا بمخاطر هائلة .
يقول توفلر " تصرفات الحاكم الأوحد تصبح بشكل متزايد عرضة للخطأ، و متسمة بالخطورة . و هي و إن كانت تستهدف تضخيم الذات، إلاّ أنها ـ في أغلب الأحيان ـ تقود إلى تحطيم الذات، إذا لم تتم مراجعتها عن طريق معارضة ديموقراطية، و إذا لم يجر تصحيحها و تقويمها على ضوء الأفكار المتغيرة القادمة من ( أسفل ) ..".
و يستطرد قائلا أنّه على العكس من هذا، يقود تضاعف قنوات التغذية المرتدة القائمة بين المواطنين، و بين صنّاع القرار في الحكومة، و خاصّة التغذية المرتدة السلبية، إلى المحافظة على استقرار المجتمع .. فهي تعمل عمل (الترموستات) في الأنظمة الحرارية، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض مخاطر الخطأ . كما يعني أيضا أن ارتكاب الخطأ يكون من الممكن تصحيحه بأقل الخسائر ..
كلما ضعفت التغذية، و التغذية المرتدة، في العملية الديموقراطية، زادت الفجوة بين القرارات و الواقع، و زاد خطر بقاء الأخطاء بدون تصحيح، حتى يتضخّم أثرها، و تتحوّل إلى أزمات .

الزمن كعامل مؤثّر

يمكن أن يصبح الحديث عن ديموقراطية المشاركة ناقصا ـ بشكل ما ـ إذا أهملنا النظر إلى الزمن كعامل مؤثّر في سلامة القرار . و لكي تكون مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار فعّالة، لا بد أن يتجاوز اهتمامهم ما هو " هنا و الآن"، عند اتخاذهم للقرار . و أن يدخلوا في اعتبارهم الأوضاع الأكثر أهمية، و التي تؤثّر على المستقبل البعيد
إن ترك المواضيع طويلة المدى زمنيا للآخرين، على سبيل الإهمال أو عدم الاهتمام، ينتهي بالمواطنين ـ على أحسـن الفروض ـ إلى التورّط في اتخاذ قرارات قاصرة، ثم إلى الدخول في معارك، عند التصـدّي للتصوّرات بعيدة المدى، التي يكون غيرهم قد وضعها . و هذا هو السـرّ في أن الديموقراطية التوقّعية تصرّ على دمج التغـذية المرتدة للمواطنين بتوفّر الوعي المستقبلي لديهم .
المراقب المتأمّل للتجارب الأولى، في حقل الديموقراطية التوقّعية، في المجتمعات التي شرعت في الأخذ بها، سيلاحظ توتّرا متناميا بين أولئك الذين يؤمنون أساسا بالمشاركة، مع عدم اقتناعهم القوي بالتوجّه المستقبلي، و بين أصحاب الفكر المستقبلي الذين لا يضعون ثقلا مناسبا للمشاركة .

معالجة جديدة لعملية اتخاذ القرار

من المهم أن نتّفق على أن هذا التركيز على المستقبل بين الجماهير، ليس له علاقة بما عرفناه من جهود المخططين التكنوقراطيين .. الذين يتصوّرون أننا نحتـاج إلى : " خطة شاملة " لربع القرن القادم مثلا . أو بمن يتحمّسون للوصول إلى إجماع حول قضية ما، بما يعني أن نمضي جميعا وراء رؤية واحدة .. كلّ من هذين الموقفين يعتبر من مخلّفات المجتمع النمطي المنصرم .
أهم ما يناط بأولئك الذين يلتزمون بالديموقراطية التوقّعية، ليس السعي إلى استنباط أهداف محددة للحي أو المدينة أو المحافظة أو الدولة، و لكنه السعي إلى خلق و استنباط معالجة جديدة لعملية اتخاذ القرار، تتم فيها بصفة مستمرة إعادة تقييم الأهداف، بصرف النظر عن كونها أهداف هذا أو ذاك، و بأن يتم ذلك على ضوء التغيير المتسارع الذي نعيشه .
و على هذا، فالديموقراطية التوقّعية لا تعد بسلامة القرار الذي يتخذه عامة المواطنين ( حتّى عندما يتم ذلك بمساعدة الخبراء، كما هو الحال دائما )، كما أنها لا تفترض قدرة المواطن على فهم الأمور التقنية دون تعليم أو مساعدة من الخبراء، و هي لا تسعى ـ بالضرورة ـ للوصول إلى إجماع، دعك من فرضه .. إن ما تفعله هو بناء جمهور للمستقبل، و ليس هناك ما هو أهم من ذلك .. إنّها توفّر عددا كبيرا من المواطنين النشطين، الذين ـ بصرف النظر عمّا يمكن أن يكون بينهم من اختلافات ـ يتّفقون في اعتقادهم بأن خط النهاية للحياة السياسية يجب أن لا يقف عند حد الانتخابات التالية .

الفرص و البدائل الخلاّقة

هذا الجمهور المستقبلي، إذا جاز التعبير، يساعد على تحرير الساسة الأذكياء، و موظفو الدولة، من قيودهم الحالية، ممّا يتيح لهم القيام بعملهم بطريقة أفضل، حتّى في ظل أدوات اتخاذ القرار الحالية غير المناسبة ..و تحررهم بما يتيح لهم التحدّث بصراحة و ذكاء عن الاحتياجات بعيدة المدى، دون أن يظهروا بمظهر البلهاء أو المخرّفين ! .
و هكذا، توفّر الديموقراطية التوقّعية دعما للسياسات بعيدة النظر،و تضاعف من تقديرنا للفرص و البدائل الخلاّقة، بما في ذلك الرؤى المستقبلية، التي عادة ما يتم استبعادها بتأثير الاستقطاب السياسي .
خارج المجال السياسي الشكلي، تثير الديموقراطية التوقّعية العديد من الأسئلة الخصبة :
أولا : إلى أي مدى يمكن إعادة التوافق بين "الخبراء " و " المواطنين " ؟
ثانيا : و ما هي العلاقة بين الديموقراطية و التعليم ؟
ثالثا : و هل يمكن أن تساعدنا في وضع استراتيجيات عريضة للتطور التكنولوجي تحظى بتأييد المواطنين ؟ .
يقول توفلر " إذا نظرنا إلى الديموقراطية التوقّعية، على ضوء ضخامة المخاطر التي تواجهها، فقد نراها مجرّد استجابة متواضعة .. فهي لا تتضمّن حدثا درامـيا، و هي لا تقتـل و لا تخطـف خصومها، كما أنها لا تهدد بقلب نظام الحكم بشكل تآمري .. إنها في جوهرها أداة تهذيب ديموقراطية . و مع ذلك، فإننا نرتكب خطأ كبيرا عندما نقلل من قدر القوّة التي تولّدها، أو من دلالة هذه الطاقة السياسية الجديدة .." .

الأحد، مايو ١٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات


الديموقراطية التوقّعية ..
مزاوجة بين المشاركة و الوعي المستقبلي

من أهم الكتب التي تناولت موضوع الديموقراطية التوقّعية، كتاب " الديموقراطية التوقّعية .. البشر في سياسة المستقبل "، لمؤلفه كليمنت بيزولد . الكتاب يتضمّن سبعة فصول تناول علاقة الديموقراطية التوقّعية بالمدن و الدول و الأقاليم، و علاقتها بالتشريع، و بالسياسات و البرامج، و ممارساتها في مجال العمل، و في حركات المواطنين .. و يختتم بيزولد كتابه بالحديث عن مستقبل الديموقراطية التوقّعية .
و لم يكن أحق من ألفن توفلر بكتابة مقدمة الكتاب، فهو أوّل من نحت اسمها، و تكلّم عن مضمونها، ، عندما قال في أوّل و أشهر كتبه، صدمة المستقبل " في عالم تحكمه العقائد السياسية العتيقة، و تجتمع فيه اصطلاحات .. الجناح اليساري .. الجناح اليميني .. الليبراليون .. المحافظون ..كما لو كانت هذه الاصطلاحات ما زالت غنية بالمعاني . في مثل هذا العالم، من المفيد الوصول إلى فكرة جديدة، لا يمكن حشرها في خانة أيديولوجية مناسبة، و فكرة ( الديموقراطية التوقّعية ) هي واحدة من هذه الأفكار .." .

ما وراء السياسة

في مقدمة الكتاب يقول توفلر أن الديموقراطية التوقّعية يمكن أن يستجيب لها الناس في أي موقع على الخريطة السياسية . ليس لأنّها تقدّم كلّ شيء لكل إنسان ـ كما يدّعي الساسة اليائسون ـ و لكن لأنها تتعامل مع طبيعة " العملية " السياسية كشيء متميّز عن " البرنامج " السياسي . و هي لا تطلق دعايات من نمط رفع الحد الأدنى للأجور، أو تحقيق التشغيل الكامل للعاملين، أو التحكّم في البيئة، أو خفض ميزانيات التسلّح، الأمر الذي عادة ما تتضمنه البرامج السياسية .. إنّها ـ في مكان هذا ـ تحضّنا على التمعّن في ذات العملية التي نبعت من خلالها اختياراتنا السياسية، أيا كانت تلك الاختيارات .
بهذا، يمكننا القول بأن الديموقراطية التوقّعية لا تتعامل مع السياسة، و لكن مع ما وراء السياسية .
لقد استعار عصر الصناعة فكرة التمثيل النيابي من أصول تاريخية سابقة، و روّج لها على اتّساع سطح الأرض باعتبارها الشكل الأحدث، و الأكثر كفاءة، و الأكثر إنسانية، و الذي يتسق مع تصوّر الحكومة في المجتمع الصناعي .
و يقول توفلر أن عصر الصناعة يمضي إلى نهايته، مفسحا المجال لعصر جديد يختلف جدا عن سابقه، يجيء معه بنمط جديد للطاقة، و ترتيبات جديدة للسياسة الطبيعية، و مؤسسات اجتماعية جديدة، و شبكات جديدة للاتصال، ، و نظام جديد للعقائد .. و هذا كلّه يدفعنا إلى التفكير في ضرورة وجود هياكل و عمليات سياسية جديدة تماما .. و إلاّ، كيف تكون لدينا ثورة تكنولوجية، و ثورة اجتماعية، و ثورة معلوماتية، و ثورة أخلاقية و عرقية .. و لا تكون لنا بالمثل ثورة سياسية ؟!

أسباب الانهيار الحالي

عندما نفكّر في الانهيار السياسي ـ أو أزمة الكفاءة الحكومية ـ الذي نشهده من حولنا : شلل المجالس النيابية، و سخافة البيروقراطيات الحكومية العملاقة، و التذبذب الجنوني في بؤر الاهتمام السياسي، و التركيز على هذا ثم على ذاك،
دون أن نصل إلى فهم سليم لأي مشكلة، فضلا عن حلّها .
و يقول توفلر أن هذا السلوك المتردد، غير الكفء، من جانب الحكومات في العالم الصناعي، لا يمكن تفسره اعتمادا على الاصطلاحات التقليدية .. فالذي يحدث ليس بسبب أن السياسيين و البيروقراطيين المعاصرين أغبياء، كما أنه لا يرجع إلى آمر ما يسمّونه باليمين أو اليسار،و هو ليس لأن الأغنياء الجشعين يفسدون مؤسساتنا السياسية و يتحكّمون فيها، و إن كانوا ـ يعلم الله ـ يريدون ذلك من كلّ قلوبهم ! . كما أنه ليس صحيحا أن أزمة عدم توفّر الكفاءات ترجع إلى أن الفقراء الطماعين يطالبون بصلاحيات ضخمة جدا من النظام، و كذلك ليس لأننا نشهد ( الأزمـة العالمية للرأسمالية ) كما تنبّأ ماركس ..
إن هذا كلّه يعود ـ في حقيقة الأمر ـ إلى انتهاء المراحـل الأولى لما يمكن أن نطلق عليه ( الأزمـة العامة للصناعة )، التي تعتبر الرأسمالية و الاشتراكية ـ معا ـ فرعين منها .

المضي عكس الاتجاه

لقد أفرز عصر الصناعة بيئة محددة لاتّخاذ القرار، تقوم على أساس التجانس الاجتماعي . كما ولّدت الثورة الصناعية ضغوطا هائلة ـ ثقافية و سياسية و تكنولوجية ـ تدور كلّها حول خلق نمطية و توحيد قياسي في اللغة و القيم و الآلات و طرق العمل و المعمار و وجهات النظر السياسية، و في أسلوب الحياة بشكل عام .. إلاّ أن الثورة، التي تستجمع قواها اليوم، تحملنا بالتحديد إلى الاتجاه المضاد . إننا نمضي بسرعة نحو المزيد منم التنوّع، اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا، بشكل لم يحدث من قبل .. لهذا تتزايد صعوبة الوصول إلى الإجماع .
و إذا كانت الصناعة قد استجابت لتنوّع المستهلكين، في العقود الأخيرة، من خلال ما يطلق عليه الإداريون " تنويع السلع "، و إذا كانت الشركات قد تنافست في تقديم مختلف الطرز و النظم و الأحجام، فإن " مصانع الخدمات" في الحكومات الكبرى ـ بسبب تحجّر التنظيمات و جمودها، و فقدان حافز المنافسة ـ ما زالت تضخّ خدمات نمطية لجمهور تتعاظم لانمطيته و يتزايد تنوّعه و تباينه . فلا عجب إذن أن نرى هذه الهوّة بين احتياجات الناس و مطالبهم، و بين ما يحصلون عليه من الحكومة .. لا عجب أن نرى هذه الهوّة تتسع كل يوم، بشكل مخيف .

عدم الكفاءة الحكومية

النتيجة الحتمية لهذا، هو أن الكثير مما تقوم به الحكومة يجيء خاطئا، أو متأخّرا جدا عن وقته .. الناس لا يتلقون المساعدات عندما يكونون في أشد الحاجة إليها، و الذين ليسوا في حاجة لشيء تنهال عليهم المكاسب الوفيرة .. البرامج الموضوعة في العاصمة، لا تتفق ـ بالدرجة المناسبة ـ مع احتياجات الأقاليم و المحليات .. برامج العمل القديمة ـ التي كان من الواجب صرف النظر عنها منذ سنوات ـ ما زلنا نسمع قعقعتها المستمرّة، دون اعتبار لما تطحـنه أو تجرشه، و مدى ما يمكن أن نستفيد منها .. و البرامج الجديدة تتكاثر، متجاوزة قدرة أي شخص على إدارتها.. و بدلا من تقديم خدمات تستهدف الأفراد الحقيقيين، تهتزّ المصانع الحكومية بعنف، لتتمخّض عن إنتاج نمطي لزبائن غير موجودين ! ..
و هذا هو جوهر عدم الكفاءة الحكومية .

عندما تنصهر الأكباس

أزمة عدم الكفاءة الحكومية ـ باختصار ـ نوعية و كمّية في نفس الوقت ..
و التصادم الحتمي بين مؤسسات إصدار القرار، المصممة على أساس المجتمع النمطي القديم، و بين الحضارة الجديدة التي تندفع بسرعة نحو اللانمطية و التنوّع و التباين و الاختلاف، هذا التصادم الحتمي يمكننا أن نرى نماذج له في الأجهزة البيروقراطية، و في الهياكل التشريعية و التنفيذية، المقامة وفق مبادئ و نظريات عصر الصناعة .
و المعروف، أن أي نظام من نظم اتخاذ القرار، له حدّه الأقصى من القدرة على معالجة قدر معين من مسئولية اتخاذ القرار المطلوبة .
و نتيجة للتغيرات التي تسارعت في حياتنا، مع قيام ثورة المعلومات، و بدايات تشكّل مجتمع المعلومات، زاد الموقف تعقدا في مجال اتخاذ القرار، و ضاعف من تعقيده تصاعد السرعة المطلوبة في هذا المجال .. هكذا أصبح عبء اتخاذ القرار ـ في بعض الأحيان ـ أكبر ممّا يحتمل النظام .. عند هذه النقطة، تنصهر الأكباس، و ينقطع التيار ! ..
هذا هو،بالتحديد، ما يحدث لنظم اتخاذ القرار، في جميع الدول المتطوّرة تكنولوجيا، و التي قطعت شوطا أكبر في التحوّل من الحياة الصناعية إلى الحياة المعلوماتية ..
يقول ألفن توفلر " إنّها صدمة المستقبل السياسية .. " .. اتخاذ القرار السياسي يجب أن يتجاوز ما هو : "هنـا" و"الآن" .. فالثابت، أننا في أشد الحاجة إلى تصميم عمليات سياسية مناسبة لاتخاذ القرارات الجماعية، عمليات تكون على مستوى البيئة المستجدة لاتخاذ القرار و هو يستطرد قائلا أن تصميم نماذج عمليات اتخاذ القرار الجديدة، لن تقفز إلى أيدينا فجأة من فوق لوحات التصميم الخاصة بالمهندسين الاجتماعيين و السياسيين .. فهي لا تتكامل إلاّ بعد عمليات متكررة من المحاولة و الخطأ و التجريب، و استفادة من التجارب المبتكرة التي يقودها الناشطين من السياسيين و أصحاب الاهتمام العام .

و إلى الرسالةالتالية لنتعرّف على مضمون الديموقراطية التوقعية

الأحد، مايو ٠٤، ٢٠٠٨

ديموقراطية عصر المعلومات

من كتاب لي تحت الطبع يحمل عنوان :
سقوط صندوق الانتخابات عن عرشه
ــ

تسويق الديموقراطية ! ..

لماذا تفشل أمريكا في تصدير أكثر منتجاتها أهمية ؟


تحت هذا العنوان كتب المفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر أخيرا، متحدّثا عن وهم تسويق الديموقراطية الذي يسود أوساط الإدارة الأمريكية حاليا .. فماذا يقول توفلر ؟ :
قليلة هي الكلمات التي تستخدم في لغة الخطاب اليومي، و التي توقع الولايات المتحدة في المزيد من المتاعب، في أنحاء العالم، أكثر من كلمة " ديموقراطية " ـ إلاّ إذا كانت الكلمة هي " بوش " . خطابات البيت الأبيض تفترض أن الديموقراطية فضيلة يشتد الطلب عليها عالميا في باقي دول العالم، و أن غيابها في أي دولة، في أي وقت، لا يكون إلاّ بسبب القهر .
و لا شك أن الكلمة قد اكتسبت قوّة، و أصبحت شائعة، إلى حدّ أننا نجد اليوم أن العديد من الدول الأكثر فسـادا، و فردية، و عنصرية، و بؤسا، و الأقل ديموقراطية على الأرض، تحمل كلمة الديموقراطية ضمن اسمها ! .

مجموعة مغالطات

أولا : هنا نجد المغالطة رقم واحد بالنسبة للديموقراطية : فكرة إمكان زرعها حرفيا من الخارج، في أي مكان، أو أي وقت، داخل أي ثقافة أو دولة .
ثانيا : و المغالطة الثانية، هي أن الدول التي تنظم عمليات انتخاب، تكون بالضرورة "ديموقراطية" أو " حرّة" .
ثالثا : و أخيرا، المغالطة الأكبر من غيرها : أن تعريف الديموقراطية ـ و ما تتضمنه ـ يبقى على حاله من عصر لآخر .
و دعونا نبدأ بالمغالطة الأولي:
إمكان زرعها من الخارج
أصر البيت الأبيض دائما في عهد بوش، أن الولايات المتحدة، ستجلب الديموقراطية للعراق . و لكي تثبت أنها فعلت ذلك، تشير إلى الانتخابات التي تمت بعد 32 شهر من إسقاط نظام صدّام .
و في مواجهة الذين أبدوا اعتراضاتهم، قائلين بأن الديموقراطية لا يمكن فرضها على دولة من الخارج، أشار البيت الأبيض إلى ألمانيا و اليابان . فقبل هزيمتهما في الحـرب العالمية الثانية، كانتا تقادان بنظام شرير معاد للديموقراطية، النازية، و نظام أشبه بالفاشية، و قد تحولتا إلى نظامين ديموقراطيين ناجحين، بعد هزيمتهما في الحرب .
لكن المقارنة مع العراق تكون هنا خارجة عن القياس . فبداية، كانت ألمانيا المنهزمة منقسمة إلى قسمين، قسم واحد منهما ـ الغربية ـ كان وصفه بالديموقراطية أمر نقاشي . فهذه الديموقراطية الوليدة، تواصل تمويلها بكثافة لعدة سنوات من جانب الولايات المتحدة، وفق مشروع مارشـال . و كانت في نفس الوقت مرعوبة من أن تهزم على يد السوفييت، الذين كانوا يتحكمون في ألمانيا الشرقية . أضف إلى ذلك، أنه قبل أن تستولي النازية الهتلرية عليها عام 1933، كانت لدى ألمانيا خبرات سابقة بالحكم الديموقراطي .. و لا ينطبق على العراق أي من هذه العوامل .
أمّا بالنسبة لليابان، فقد كانت هي الأخرى خائفة من استيلاء الروس عليها، و الذين كانت قد دخلت في حرب معهم
فيما بين 1904 و 1905 . من ناحية، كان استخدام الأمريكان للأسلحة النووية في هوريشيما و ناجازاكي قد جعل اليابان خاضعة للغاية . و من ناحية أخرى، اتفاقية السلام الأمريكية قد أتاحت للإمبراطور هيرهيتو أن يحتفظ بعرش اليابان .. و هو لم يلاحق و يقبض عليه في حفرة تحت الأرض، ثم يشنق .
و الأكثر أهمية من هذا و ذاك، أنه لا اليابان و لا ألمانيا قد جرى تخريبهما و تدميرهما داخليا، مثل مع حدث في أفغانستان بسبب الصراعات الدينية الدموية، و التصادمات القبلية المحلية.. أو ما حدث في العراق نتيجة لكبت الخلافات العقائدية و العرقية . و من هذا تكون :
القاعدة 1 : الديموقراطية لا يمكن تصديرها و إقامتها في أي دولة، في أي مكان، و أي وقت، كما يزعم المتحمسون للديموقراطية .
التسمية الخاطئة للديموقراطية
و هذا ينقلنا إلى المغالطة الثانية : و هي أن جميع الدول التي نطلق عليها وصف ديموقراطية، هي في حقيقتها غير ديموقراطية فعلا . تعريف الديموقراطية، غالبا ما يبدأ بالإشارة إلى الانتخابات و الأغلبيات .. و من بين الدول التي يجري تصنيفها باعتبارها ديموقراطية، من تحظر حرية الحديث، و تسجن الخصوم السياسيين، و تغض الطرف عن الفساد الشامل الشائع . و من هذا تكون :
القاعدة 2 : تنظيم الانتخابات، و تجميع الأعداد الضخمة من الأصوات، لا يجعل الدولة ديمقراطية، إذا كانت تسيء معاملة المرأة، و الأقليات العرقية، و أتباع دين معين، و غيرهم من الذين لا يدخلون في تلك الأغلبية .
تغيّر معنى الديموقراطية
على مدى التاريخ، خضع تعريف الديموقراطية لمراجعات هائلة . كان يشار إلى أثينا القديمة، باعتبارها مهد الديموقراطية، و مع ذلك ففي أوج عظمتها، لم تكن تسمح للنساء أو العبيد أو المهاجرين بالتصويت . و في القرن الثامن عشر، كان الثوار المؤسسين للولايات المتحدة يؤمنون بأن العبودية أمر شرعي، كما أبقوا المرأة محرومة من التصويت حتّى عام 1920 .
و مع تسارع التغيرات في أنحاء العالم، قد نرى مراجعات لها دلالتها في صميم تعريف الديموقراطية . إننا نعيش اليوم، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في العديد من الدول، لنشهد صغار تتراوح أعمارهم بين 10 و 12 سنة فما فوق، أكثر استيعابا للعديد من التكنولوجيات المتقدّمة، بما يتجاوز معارف الوالدين .
و مع تسارع التكنولوجيات بما هو أبعد، قد نتوقّع مواجهة مطالب بخفض سن التصويت، على سبيل المثال من 18 إلى 12 . أو أن نعطي لهذه المجموعة العمرية جزءا من الصوت، كأن يكون نصف صوت . كذلك قد نسحب نصف الصوت من أولئك المصابين بمرض الزهايمر . أو أن نسمح للصغار، و حتى الأجانب، بأن يحصلوا على أصواتهم بأن يقدّموا خدمات تطوعية، من نوع أو آخر .
و باختصار، بصرف النظر عمّا إذا كانت التغيرات ستمضي وفق هذه التصورات أم لا، فإن تعاريف الديموقراطية، و الشروط المسبقة للحرّية، ستطرأ عليها العديد من التحولات في العقود القادمة .. هل نحن مسـتعدون ؟ هل أي واحد منّا
مستعد لذلك ؟! . و من هذا تكون :
القاعدة 3 : الرهان الوحيد الأكيد، هو أن تعريف الديموقراطية ذاته، كما نفهمه اليوم، سيجري تحدّيه و تغييره، في السنوات القادمة التي ستثير دهشتنا .

خرافة تصدير الديموقراطية

ثم ننتقل بالحديث عن الديموقراطية، و فهم معانيها العميقة، إلى الأستاذ بنجامين باربر، الذي جمع بين البحث العلمي الأكاديمي في النظريات السياسية، و بين المساهمة العملية في الممارسات السياسية المدنية و الفنون . و الذي ساهم بجهده في العديد من الجامعات الكبرى الأمريكية و الإنجليزية و الفرنسية . و من أهم كتبه " الديموقراطية القويّة " الذي جرت ترجمته إلى ست لغات . فماذا يقول بنجامين باربر ؟ .
يبدأ الأستاذ باربر بطرح أربعة أسئلة كالتالي :
أولا : هل الديموقراطية قابلة للتصدير ؟.
ثانيا : هل الديموقراطية هي مجرّد وظيفة مؤسسة سياسية و دستور مدوّن ؟ .
ثالثا : هل الديموقراطية مرادف للأسواق ؟ .
رابعا : هل تعتمد الديموقراطية على قيادة قويّة ؟ .
يجيب الأستاذ بنجامين باربر على السؤال الأوّل قائلا " نحن الأمريكان الذين نحتاج أكثر من أبناء أوروبا و روسيا و أفريقيا و آسيا، أن نتذكّر أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون هدية من شعب لآخر، لكنّها الثمرة صعبة المنال لصراع محلي باهظ الثمن .. إنّها شيء يؤخذ، و ليست شيء يمنح .." .
و عن اختلاف التطبيقات الديموقراطية، يقول باربر أن أشكال الديموقراطيات تختلف، وفقا لاختلاف أنواع النضال الذي يتم لكسبها . و هو يقارن بين الديموقراطية السويدية التي تركّز على الحقوق المجتمعية، أكثر من الحقوق الفردية .. و بريطانيا التي لا تأخذ بالفصل بين السلطات، بينما يعتقد الأمريكان أنّه أمر لا غنى عنه .. و الدستور الإثيوبي الجديد يحاول التوجّه إلى القبائل .. كما أن أيرلندا لا تأخذ بالفصل بين الكنيسة و الدولة .. ألمانيا فدرالية، بينما فرنسا مركزية . هذا الاختلاف بين الديموقراطـيات، يوحي بضرورة قبول الأشكال الجديدة من الديموقراطيات التي تتشكّل في أنحاء العالم .
الدساتير لا تخلق ديموقراطيات
ثم يجيب الأستاذ باربر عن السؤال الثاني، داحضا الفكرة الشائعة، التي تقول أن الديموقراطية لا تزيد عن بعض المؤسسات السياسية الشـكلية، التي يمكن لأي دولة أن تسـلّمها لدولة أخرى . و يقول أن الديموقراطية ليست رسما تخطيطيا ذاتي التحقّق . فلا يمكن فرضها من أعلى إلى أسفل، لكنّها تنمو من القاعدة إلى ما فوق . و الدساتير لا تصنع الديموقراطية، و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير .
بدون مواطنين لا يمكن أن توجد الحرّية... و بدون ثقافة مدنية و تعليم، لن يكون هناك مواطنـون، هذا هو ما يقوله باربر و يحتاج منّا إلى تأمّل طويل . و هو يستدلّ برأي للفيلسوف الأمريكي جون ديوي، يقول فيه أن الديموقراطية، ليست شكلا للحـكومة، لكنّها طريقة حـياة، ومجموعة من المواقف و التوجّهات المتأصّلة، إنّها ثقـافة التفكير المستقل و التعاون في نفس الوقت، و الصراع و التراضي في آن واحد .
و يلفت باربر نظرنا إلى عنصر الوقت، عند التصدّي لبناء الديموقراطية . فيقول أن الفضيلة العظمى للديموقراطية هي الصـبر، و الذي يكون رصيده عادة عرضة للنفـاذ .. إنّنا نتوقّع من الذين يخوضون تجربة الديموقراطية، ضمن التحوّلات التي يمر بها مجتمعهم، نتوقّع منهم أن ينجزوا في ستة شهور أو ستة سنوات، ما قمنا به في ستين سنة أو ستّة قرون . و يقول أن هذه المهمّة ليست سهلة، فالذين يتصدّون لها يواجهون خصوما من الديموقراطيات الحديثة و القديمة .
الديموقراطية و السوق الحرّة
و هذا يصل بنا إلى أكثر الأوهام خطورة و أهمية .. و هو وهم عدم وجود ديموقراطـية لا تعتبر مرادفا للسوق الحرّة . في هذا يقول باربر " حرّية شراء كوكاكولا، أو شريط فيديو لفيلم "الأسد الملك"، ليست هي بعد حرية تحديد كيف سنعيش معا، و في ظلّ أي نظام . و يجب ألاّ ننسى أن كوكاكولا و ماكدونالد و إم تي في، يمكن أن نجدها أيضا في سنغافورة و الصين و الشرق الأوسط، و في أماكن أخرى لا توجد فيها ديموقراطيات .. تاريخيا، لم تكن الرأسمالية هي التي أنتجت الديموقراطية . الديموقراطية هي التي تخلق الرأسمالية . قد تحتاج الرأسمالية إلى الديموقراطية، لكنها لا تعرف ـ بالضرورة ـ كيف تخلق الديموقراطية و تدعمها .." .
و يضيف " من ثمّ، أعتقد أن أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا، لأن الكثيرين يؤمنون بها " . كما أن الأسواق ليست مصمّمة لكي تقوم بالأشياء التي تتكفّل بها السياسات الديموقراطية ( مثل التعليم و الثقافة و الضمان الاجتماعي و الحفاظ على البيئة ) .. المستهلك في السوق يتكلّم لغة ( أنا )، بينما تكون اللغة المشتركة للمواطنين هي ( نحن ) .." .
و يختم بنجامين باربر إجابته عن هذا السؤال بقوله " و هذا هو التناقض الذي تتّصف به السوق . إنّها لا تستطيع أن تعيش في العالم الذي تخلقه، دون أن تكون محاطة و منظمة عن طريق القوى المدنية و الديموقراطية، التي تسعى في نفس الوقت لتحجيمها .." .

قوّة المواطنة لا قوّة القيادة

و في الرد على السـؤال الرابع، حول مدى حاجة الديموقراطية إلى قيـادة قـوية، يقول الأستاذ باربر أن نوع الديموقراطية لا يعتمد على قوّة القيادة، بل على نوعية المواطنة . الدول الفاشية كانت لها قيادات قوية، لكنّها لم تحصل على ما هو أكثر من تلك القيادات . الديموقراطية تحتاج مواطنين ذوي فعّالية، نساء و رجال عاديين، يقومون بأشياء متميّزة غير عادية، بشكل منتظم و متواصل . و هو يتذكّر موقفا في إحدى المسرحيات، يقول فيه الممثل لزميله " إنّي أشفق على الدولة التي ليس بها أبطال "، فيجيب الآخر " لا .. الإشـفاق يجب أن يكون على الدولة التي تحتاج إلى الأبطال !.." .
الديموقراطية، هي شكل للدولة التي لا تحتاج أبطالا . و يشير باربر إلى واقعة جرت مع إيوجين ديبس القائد الشعبي
الأمريكي، عندما قال له أحد أتباعه " عليك أن تخرجنا من هذه الظلمة .."، فأجابه " لن أفعل، و لا أستطيع، و حتّى إذا استطعت فلا أعتقد أنني سأفعل .. لأنّه إذا كان بإمكاني أن أقودكم خارج هذه الظلمة، فهذا يعني أنني أستطيع أن أعيدكم إليها .." . و يعلّق باربر قائلا " نحن في حاجة إلى مجتمعات لديها حصانة في مواجهة هذا النوع من البطولة .." .
و يختم الأستاذ بنجامين باربر الحديث بقوله " بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع و ضحايا لقهر الدولة .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية .." .
عمليات إعادة البناء الشاملة .. المرعبة !
الذي يجب أن ندخله في حسابنا، و نحن نفكّر في أشكال جديدة للممارسة الديموقراطية، هو أن التغيير الشامل الكاسح، الذي يفرضه دخولنا إلى مجتمع المعلومات سيتجاوز هذه المهمة بكثير .. و أننا بصدد عمليات إعادة بناء شاملة، مرعبة في ضخامة الجهد الذي تتطلّبه . لقد اجتهد المفكّرون في بدايات عصر الصناعة، ليطرحوا تصورهم لشكل الأشياء، الذي سارت معظم الشعوب على هداه .. و كان ذلك عملا عظيما، يتيح قيادة التحوّل : من نظام راسخ تواصل لما يزيد عن عشرة آلاف سنة، إلى نظام جديد مبتكر يصلح لمنطق عصر الصناعة .. رغم كل ما شابه ذلك النظام من قصور .

* * *

لقد تحدثنا عن "ديموقراطية المشاركة " باعتبارها البديل المتوافق مع أسس مجتمع المعلومات في مكان ما اعتمدته الحياة الصناعية من ديموقراطية التمثيل النيابي .. و لكن، ما الذي يعنيه الاصطلاح المستجد .. الديموقراطية التوقّعية ؟
و إلى الرسالة لتالية