الجمعة، أكتوبر ٠٩، ٢٠٠٩

الوهم الخامس

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

خامسا : التناول الأحادي في زمن التغيير

في أوضاع الاستقرار، و الثبات النسبي، و التغيّرات المحدودة، يسهل تصوّر مستقبل أي جانب من جوانب النشاط البشري، دون الوقوع في أخطاء فادحة .
منذ مئات السنين، كان في إمكان صانع القرار، في مجتمع معيّن، أن يصل إلى حلّ مشكلة معيّنة، أو يخطّط لنشاط ما، دون اعتبار كبير للتغيّر في العلاقات بين ذلك النشاط و غيره من النشاطات الأخرى .. كل ما كان عليه، هو أن يرسم خطّا مستقيما في الرسم البياني الذي يسجّل تطوّر ذلك النشاط، و يمدّه على استقامته لكي يتعرّف على مستقبل تطوره عند زمن معيّن، تحدّده نقطة على ذلك الخط المستقيم .
و ما زال بعض صنّاع القرار عندنا، و عند غيرنا من الدول غير المتطوّرة، يتّبعون نفس المنهج القديم، ربّما يكون مرجع ذلك إلى التعوّد، أو افتقاد البدائل الأسلم . و عندما يتكرّر فشلهم، المرّة تلو الأخرى، غالبا ما يرجعون ذلك الفشل إلى العديد من الأسباب و الاعتبارات، والتي لا يكون من بينها السبب الحقيقي أو الاعتبار الأساسي للفشل، ألا وهو التناول الأحادي في زمن التغيير الجذري الشامل .
الذي يجب أن نأخذه في اعتبارنا عند محاولة فهم أو مناقشة أيّة مشكلة و السعي إلى حلّها، هو أن الوضع حاليّا لا يمكن وصفه بالاستقرار أو الثبات النسبي .إذا ما استطعنا أن نخرج أنفسنا من محنة حياتنا اليومية و ما يكتنفها من مصاعب و مشاكل، و تأمّلنا بتركيز مسيرة الحياة، تحت أقدامنا، و من حولنا، على مدى العقود الأخيرة، تحقّقنا من أنّنا نمرّ عبر عصر غير مسبوق في التاريخ .. ما نحن بصدده ليس مجرّد تغيّرات كبرى، أو تطوير في هذا المجال أو ذاك، إننا بصدد تغيرات ثورية حقيقية .
هذه التغيّرات المتسارعة، تؤثّر على جميع مظاهر الحياة بلا استثناء، في البيت و المدرسة و المصنع و المكتب، و تعيد بناء نظم الطاقة و المواد الخام و الاتّصال و الانتقال و الاقتصاد .. بل وتعيد تشكيل نظم الممارسة الديموقراطية، و معنى السيادة الدولية . هذه التغيرات الثورية تعمّ المجتمعات البشرية جميعها بلا استثناء، من أمريكا إلى اليابان، و من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا و استراليا .

الرؤية المستقبلية

بفضل جهد بعض المفكّرين و الباحثين المستقبليين، أمكن التوصّل إلى بعض المؤشّرات الأساسية للتغيّر، التي يتزايد تأثيرها مع مرور السنين على مدى العقود الأخيرة، و التي تعكس التحوّل إلى مجتمع المعلومات .. من دراسة علاقات التأثير المتبادل بين هذه المؤشّرات، أمكن الوصول إلى رؤية مستقبلية شاملة لأوضاع البشر في مجتمع المعلومات . هذه الرؤية المستقبلية لا غنى عنها في أي محاولة لطرح حلول لمشاكلنا الراهنة، أو لعمليات إعادة البناء المطلوبة للتوافق مع متطلّبات مجتمع المعلومات
الاعتماد على الرؤية المستقبلية الشاملة، و ليس فقط على أحد مؤشّرات التغيير، يفيدنا في الوصول إلى حلول باقية، أو مستدامة، لمشاكلنا، لا تقود إلى توليد مشاكل مستجدة في المستقبل، و يساعدنا في تصوّر مستقبل أي نشاط أو نظام بشري، و فهم تفاصيل حياتنا خلال تحوّلنا من مجتمع الزراعة و الصناعة، إلى مجتمع المعلومات .
الرؤية المستقبلية الشاملة، هي سبيلنا لوضع الاستراتيجية العامّة لبناء حياتنا الجديدة في عصر المعلومات، و إرساء الاستراتيجيات الخاصّة في كل مجال من مجالات النشاط البشري، بحيث نضمن عدم ظهور التناقض بين هذه الاستراتيجيات و بعضها البعض، أو مع الاستراتيجية العامة لإعادة البناء .
بدون الرؤية المستقبلية الشاملة، سنفقد التكامل بين عمليات إعادة البناء المختلفة في مختلف مجالات حياتنا، و بين خطط التطوير المختلفة التي نأخذ بها .
الرؤية المستقبلية، هي المرجع الأساسي الذي نعتمد عليه في عمليات التحوّل السلمي الناجح إلى الحياة الجديدة في مجتمع المعلومات .

و إلى الوهم السادس، وهم إغفال التغيرات العالمية

الخميس، أكتوبر ٠١، ٢٠٠٩

الوهم الرابع

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

رابعا : إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

قد يعترض البعض على وصف الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية بالوهـم، و قد يقول البعض الآخر أنه من الصعب تصوّر حياة الإنسان، بدون عقيدة أو أيديولوجية، فأعظم إنجـازات البشرية كانت تقوم على عقيدة معيّنة أو فلسفة خاصّة أو أيديولوجية محدّدة . غير أن الوهـم الذي أتحدّث عنه، هو وهم تصوّر إمكان تطبيق عقيدة أو أيديولوجية، نابعة من مواصفات مجتمـعية معيّنة، على ظروف مستجدّة نابعة من مواصفات مجتمعية مختلفة ..
نحن في حاجة شديدة لمراجعة العقائد و الأيديولوجيات التي شاعت في عصر الزراعة، و أيضا في عصر الصناعة، لنرى مدى توافق السياق الذي خرجت منه مع أوضاعنا المجتمعية الراهنة و القادمة، بكلّ ما تتّسم به من تغيّرات جذرية متسارعة غير مسبوقة .
و نحن نعلم مدى صعوبة تنازل الفرد عن عقيدة آمن بها لسنوات سابقة . و خير مثال على هذا، عقيدة أن الأرض منبسطة ساكنة و أن الشمس تدور من حولها، ما زالت بعد مئات من سنوات التنوير التي كشف فيها علم الفلك طبيعة العلاقة بين الأجرام السماوية، و بعد أن التقطت مراكب الفضاء صورا و أفلاما تظهر الأرض ككرة، تجد من يتمسّك بها في بعض المجتمعات المتخلّفة . و السر في هذا هو أن اقتلاع العقيدة الخاطئة أو التي قد ولّى زمنها يحتاج إلى نوعين من الجهد، في الوعي و اللاوعي معا .

العيب في التطبيق
و من الأمثلة القريبة الواضحة على هذا، الوهم الذي يقع فيه من يقولون بأن الماركسية كعقيدة ما زالت صالحة كأساس للمجتمع البشري، و أن ما حدث من انهيار في الدول الاشتراكية يرجع إلى عيوب و أخطاء في تطبيقها .. و كذلك الوهم الذي يقع فيه من يعتقدون أن سقوط الاشتراكية معناه الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي . إلى هذه الأوهام يعود الكثير من المشاكل و المآسي التي يعاني منها المجتمع البشري حاليا .
الذي قلته ـ أكثر من مرّة ـ في كتاباتي عن المستقبل، هو أن الاشتراكية و الرأسمالية معـا، وجهان لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، بأسسه و مبادئه و عقائده .. و أن تلك العملة قد بدأت تفقد قيمتها و تختفي من التعاملات الحديثة . العمّال الذين تتحدّث عنهم الماركسية، هم عمّال عصر الصناعة : يعتمدون على العمل العضلي البسيط المتكرّر، الذي لا يحتاج إلى تفكير أو إعمال للعقل، و هي نفس صفات عمّال المجتمع الرأسمالي . و المجتمع الذي ترسمه الماركسية هو مجتمع الصناعة الجماهيري، الذي يقوم على التوحيد القياسي و النمطية، و يدار من أعلى وفقا لتسلسل الرئاسات الهرمي المركزي، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي .
فالماركسية بهذا، قامت أساسا لتتعامل مع المجتمع الصناعي، و تلتزم بخصائصه في العمل و الإنتاج و التنظيم الإداري و التركيب الاقتصادي . و هو نفس ما قامت عليه رأسمالية آدم سميث و ريكاردو .
لهذا،بصرف النظر عن سلبيات و إيجابيات هذا أو ذاك، فإن انقضاء عصر الصناعة و الدخول إلى عصر المعلومات، بأسسه و مبادئه المناقضة غالبا مع أسس و مبادئ عصر الصناعة، يجعل تصوّر استمرار الاعتماد على أي من الأيدلوجيتين، في التفكير و التنظيم و التخطيط، وهما كبيرا .
خلاصة القول، لا توجد عقيدة أو أيديولوجية صالحة لكل زمان و مكان . و أكثر أوهام التفكير ضررا، تصوّرنا إمكان حلّ مشاكلنا، و إعادة بناء حياتنا، على أيديولوجية أو عقيدة نابعة من نظام مجتمعي سابق، لم يعد يسود حياتنا .

و إلى الوهم الخامس، و هم التناول الأحادي في زمن التغيير

السبت، سبتمبر ٢٦، ٢٠٠٩

الوهم الثالث

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

ثالثا : وهم ثبات معاني المصطلحات

الكثير من الخلط و سوء الفهم الذي يسود حواراتنا يرجع إلى تصوّر البعض ثبات معاني الكلمات و المصطلحات و الأشياء .. و حقيقة الأمر أن معاني الأشياء تتغيّر بتغيّر النظام المجتمعي السائد في الحياة . إنّنا لا نصل إلى حلول لمشـاكلنا الحالية، لأنّنا نتعامل مع الكلمات و المصطلحات و الأشياء بمعناها القديم، أو بمعنى أدق المعنى النابع من ظروف مجتمعية سابقة غير الظروف السائدة .
عدم فهم المعنى المعاصر للكلمة، و عدم الانتباه لتغيّر معناها السابق بتغيّر الواقع المجتمعي، يقود إلى الكثير من الخلط و التضارب فيما نقوله، و يفقد حواراتنا جدواها . إنّنا نتناقش حول الاقتصاد و الديموقراطية و التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم و الأخلاق، فلا نصل إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك، الذي يسمح لنا بمواجهة مشاكلنا بشكل عملي، في كل مجال من هذه المجالات .. و السبب في هذا أن الكلمات و المصطلحات كائنات عضوية، تتغيّر بتغيّر النظم المجتمعية السائدة .

عن أيّ أسرة نتكلّم ؟

مثال ذلك ما يحدث عندما نتكلّم عن أمور الأسرة و مشاكلها، فنرى كل واحد ينطلق من قاموسه الخاص، و معنى الأسرة الذي يعنيه، فلا نصل إلى نتيجة ما . مصطلح " الأسرة "، يكون له معناه الخاص، وفقا لنوع المجتمع السائد : زراعي، أم صناعي، أم معلوماتي .
في المجتمع الزراعي، الذي ما زالت الكثير من رواسبه باقية في حياتنا، ربّما في بعض أعماق الريف، كانت الأسـرة كبيرة الحجم تضمّ عدّة أجـال من الأبناء و الأحفـد و الأقارب، وتعمل كوحدة إنتاجيــة استهلاكية . كانت الأسرة تتكفّل بجميع احتياجات أفرادها، التي كانت محدودة و تنحصر في
توفير المسكن و الطعام و التعليم و الرعاية الطبّية، و تنظيم العلاقة بين أفرادها وفقا للقيم السائدة .
عندما بدأ زحف عصر الصناعة منذ حوالي قرنين و نصف، شعرت الأسرة بضغوط التغيير، و تلقّت السلطة الأبوية ضربة محسوسة، و تغيّرت العلاقة بين الآباء و الأبناء . و مع تحوّل الإنتاج الاقتصادي الأساسي من الحقل إلى المصنع، لم تعد الأسرة الممتدّة كبيرة العدد صالحة للحياة الجديدة . لقد تطلّب المجتمع الصناعي من العامل في المصنع أن يكون قادرا على الانتقال من مكان لآخر، وفقا لحاجة العمل الصناعي، و مع الانتقال إلى المدن تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للتغيير، تخلّصت الأسرة من الأقارب، و وصل بنا الأمر إلى " الأسرة النـووية "، و التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء .
و لكي يتفرّغ العامل لعمله في المصنع، نشأت مؤسّسات متخصّصة للقيام بالمهام التي كانت توكل تقليديا للأسرة، فأوكل تعليم الأطفال و الصغار إلى المدارس، و الرعاية الصحّية للمستشفيات، و الاهتمام بكبار السن و رعايتهم إلى الملاجئ و بيوت العجزة . مع كل هذه التغيّرات، كان لابد أن تتغيّر القيم الأسرية التي كانت سائدة في عصر الزراعة، لتحلّ محلّها قيم جديدة نابعة من احتياجات و عقائد عصر الصناعة .
و اليوم، و نحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، يتأسّس شكل جديد للأسرة، غير الذي عرفناه في عصر الزراعة أو الصناعة . فيصبح للأسرة شكلها الجديد و قيمها الجديدة، الأمر الذي سيكتمل، عندما يتم التحوّل إلى مجتمع المعلومات ..
المهم، عندما نتكلّم و نتناقش حول الأسرة، يكون علينا أن نحدّد عن أيّة أسرة نتكلّم .

انقضاء أجل ديموقراطية التمثيل النيابي

و نحن أيضا نتناقش و نتحاور حول الديموقراطية، دون أن نحدّد أيّة ديموقراطية نعني ..فعلى مدى التاريخ تغيّر مضمون و شكل الممارسة السياسية مع تغيّر الأسس المجتمعية السائدة .
البعض يقول ديموقراطية، و هو يعني الشكل الديموقراطي الناقص الذي كان سائدا طوال عصور الزراعة، و الذي لم يكن يتجاوز " الشورى "، مع بقاء صلاحيات صناعة القرار عند الحاكم أو الوالي أو الشيخ .. و التي عبّرت عنها قصص ألف ليلة بعبارة " دبّرني يا وزير .." ! . لقد كانت الشورى هي الحدّ الأقصى للديموقراطية على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة .
و البعض الآخر، عندما يقول ديموقراطية، فهو يعني الشكل السائد حاليا في عديد من الدول، ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها المجتمع الصناعي، لسدّ جانب من احتياجات اتّخاذ القرار التي تضخّمت مع دخولنا إلى الحياة الصناعية . ديموقراطية تقوم على تجميع الجماهير في أحزاب، و قيام الفرد بتوكيل من ينوب عنه في عملية المشاركة في اتّخاذ القرار، هذه الديموقراطية البرلمانية التي لم تعد تحقّق أحلام البشر، في الدول النامية و المتطوّرة معا .
و يندر أن تجد من يفهم المعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات .. يندر أن تجد من يتحدّث عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقّعية، ممّا نوضّح معانيه و طبيعته فيما يلي من حديث .
المهم، أن الحديث عن الديموقراطية يجري في اللقاءات دون الاتفاق على الحد الأدنى من الفهم، نتيجة عدم الانتباه للتغيّرات التي تطرأ على مفهوم الديموقراطية، من عصر إلى عصر .

من المدير .. إلى القائد

نفس الخلط يحدث في مجال حيوي آخر، هو الإدارة . و رغم أن الإدارة تعتبر عنصرا هاما في مجال النشاط الاقتصادي، فما زلنا نرى العديد من خبراء الإدارة و الاقتصاد عندنا، الذين يقفون عند مفهوم الإدارة الذي كان شائعا على مدى عصر الصناعة، دون أن ينتبهوا إلى عواقب إهمال التغيّرات التي طرأت على هذا المجال بالدخول إلى عصر المعلومات .
غاية ما نسمعه في الندوات و الموائـد المسـتديرة، حديث عن التجويد، و استعارة لبعض المصطلحات الشائعة، دون إدراك السياق الذي تنبع منه . لقد كان الكثير من المختصّين في مجال الإدارة، يبدون انزعاجا كلّما قلت أن التغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات تحتاج إلى إعادة بناء شامل للمؤسّسة أو الشركة أو الهيئة، العامة أو الخاصّة . و أن هرم تسلسل الرئاسات الذي كنا نأخذ به، قد أخلى السبيل لتنظيمات شبكية جديدة، لا تشبه في شيء التنظيمات التي عرفناها على مدى 200 سنة مضت . و أن رئاسة العمل تنتزع من يد المدير الآمر المحتكر لسلطة اتّخاذ القرار، لتوضع في يد قائد العمل المشارك الذي تكون مهمته الأولى تسهيل و تيسير عمل من يشاركونه .

المصطلحات كائنات حيّـة

ما قلناه عن الأسرة و الديموقراطية و الإدارة، ينسحب أيضا على الاقتصاد و التعليم و كافة مجالات النشاط البشري الأخرى .
وهم الاعتقاد بإمكان ثبات و استقرار مفهوم الكلمات و المصطلحات، يعوق أيّ تفكير نقوم به لاستشراف المستقبل، و يحيل حديثنا إلى حوار طرشان ! ..
بل أن مفاهيم الزمان و المكان تتغيّر أيضا مع تغيّر الأسس المجتمعية التي تقوم عليها حياتنا . في هذا يقول جون جريبين، عالم الطبيعة الفلكية، و الكاتب العلمي " .. لم يعد الزمان شيئا ينساب إلى الأمام بلا رجعة، وفقا لإيقاع ساعاتنا و تقاويمنا، فقد ثبت علميا أنّه بطبعه يدور و ينكمش و ينبسط ! .."، و هو ما قال به أينشتين في نظرية النسـبية . دخولنا إلى مجتمع المعلومـات، يدخلنا في علاقـات جديدة، في كلّ مجال، و أيضا مع الزمان و المكان ..
خلاصة القول، أن المصطلحات كائنات حيّة، يتغيّر معناها و يتطوّر مضمونها مع الزمن .. لهذا، فإن الاتّفاق على التعريف المعاصر للمصطلح، أمر ضروري للوصول إلى تفكير أو حوار مثمر .

و إلى الوهم الرابع، وهم إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

الجمعة، سبتمبر ١٨، ٢٠٠٩

الوهم الثاني

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

ثانيا : وهم إمكان الاعتماد
على الخبرات السابقة

بعد الوهم الأوّل : وهم إمكان التصدّي للمشكلات فرادى، يجيء الوهم الثاني .
الوهم الثاني، هو وهم الاعتماد على الخبرات السابقة في حلّ مشاكلنا الحالية . و معظم التخبّط الذي يعيشه العالم العربي، يعود إلى عدم القدرة على التمييز بين أوراق الماضي الذي انقضى، و بين أحوال المرحلة الانتقالية الحاضرة التي نعيشها، و بين مؤشّرات المستقبل الذي نمضي إليه .
الحدّ الأدنى في هذا المجال، أن يفهم المفكّر العربي خصائص كلّ من مجتمع الزراعة الذي عشنا واقعه لآلاف السنين و ما زلنا نقع في أسره بالنسبة للكثير من قيمنا و أفكارنا و عاداتنا . و خصائص مجتمع الصناعة الذي سادت قوانينه على مدى ما يزيد من قرنين معظم دول العالم، سواء التي تحوّلت من الزراعة إلى الصناعة أو التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية . و أخيرا، التمييز بين ذلك كلّه، و بين واقع مجتمع المعلومات الذي بدأ يفرض نفسه على حياة البشر، منذ ما يقرب من نصف قرن .. بدون هذا التمييز، لن يتمكّن المفكّر العربي من قراءة الأحداث الجارية، و فهم مغزاها .
و حتّى القلّة التي تعترف بزحف حقائق مجتمع المعلومات على حياتنا، كثيرا ما تقع في استخلاصات خاطئة، نتيجة لتطبيق أفكار و مبادئ و عقائد و فلسفات عصري الزراعة و الصناعة المنصرمين، على
مجتمع المعلومات الذي يسود البشر حاليا .

تحيّة العلم، و طابور الصباح

أذكر أن د. حسين كامل بهاء لدين، أحد وزراء التعليم، من الذين يحلو لهم التحدّث عن مجتمع المعلومات و تكنولوجيا المعلومات، أدلى بتصريح عند بداية تولّيه للوزارة، جاء نموذجا للخلط بين القديم و الجديد .
تكلّم الوزير عن أهميّة إصلاح التعليم، و تخليصه من التلقين، و تنقية الكتب المدرسية من الحشو الزائد عن الحدّ .. ثم قال بعد ذلك، ربّما متأثّرا بفاشستية منظمة الشباب التي ترعرع فيها معظم طاقم الوزراء عندنا، أنّه ينوي إعادة الانضباط إلى المدرسة المصرية، موضّحا كيف سيعيد إلى المدارس تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي ! ..
لم يستطع الوزير أن يميّز بين تعليم عصر الصناعة، و بين التعليم المنشود لعصر المعلومات . و قد خلط بين التوجّهات السليمة للتعليم في عصر المعلومات، كتخليصه من التلقين الذي تقتضيه طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الذي يستهدف تعويد التلميذ على إعمال العقل، لكي يكون مؤهّلا لدخول مجال العمل العقلي الذي يسود عمالة مجتمع المعلومات . خلط بين هذا و بين سمات التربية و التعليم في عصر الصناعة، التي عرفنا فيها تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي، و هي مع غيرها من مقوّمات عصر الصناعة تستهدف زرع النمطية التي يستلزمها الإنتاج في المجتمع الصناعي، و تقوم على فهم العمل باعتباره مجموعة من المهام الروتينية البسيطة المتكرّرة، التي لا تستدعي إعمال العقل و تشغيله .

صرح الصناعات الثقيلة

و في مؤتمر شاركت فيه عن مستقبل الإدارة في القرن الحادي و العشرين، وقف وزير الصناعة متحدّثا عن ضرورة اللحاق بركب الدول الصناعية المتطوّرة، ثم أعلن عزمه على البدء في إقامة صرح للصناعات الثقيلة، باعتبار أن هذا هو هدف مصر الصناعي في القرن الحادي و العشرين ! .
كنت أتصوّر أنّه سيتحدّث عن خطط وزارته و استراتيجيتها للبدء في إدخال الصناعات المعلوماتية الجديدة، التي ستحلّ محل الصناعات الثقيلة التي أخذ بها المجتمع الصناعي، رغم غلظتها و استنزافها للمواد الخام و الطاقة و تلويثها للبيئة . توقّعت منه أن يتحدّث عن تشجيع الصناعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا الإلكترونية المتطوّرة، و نشر هذه الصناعات على أنحاء البلاد و إنهاء تكدّس المدن في المناطق و التجمّعات الصناعية، على أساس الاستفادة من مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة أينما وجدت . انتظرت أن يحدّثنا عن خططه للتدريب التحويلي، الذي يجب أن نخضع له العمالة الحالية، لكي تتحوّل من عمالة عضلية إلى عمالة عقلية، تحسّبا لمواجهة البطالة البنيوية الشاملة، التي تأتي بها التحوّلات الحالية في مجالات العمل و الإنتاج و الاقتصاد .
لقد خلط الوزير بين أوراق الماضي و المستقبل .

خلط في شعارات الوحدة و الديموقراطية

و نتيجة لخلط أوراق و أفكار و عقائد الماضي بالمستقبل، نجد من يخلط بين مقتضيات قيام المجتمع الصناعي التاريخية، و ما استوجبته من توحيد للكيانات السياسية الصغيرة في كيان كبير، لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و بين بقايا أحلام بعض العرب بقيام وحدة اندماجية سياسية و اقتصادية بين الدول العربية، لمواجهة أعداء الأمّة العربية، على نسق ما جرى في إيطاليا على يد غريبالدي، و في ألمانيا على يد بسمارك، و في بعض الدول الصناعية الأخرى، في الشرق و الغرب .. و يتواضع البعض الآخر ليطالب بنوع من الاتحاد، يشبه الاتّحاد الأوروبي المعاصر .
هذه الأحلام و المطالبات تكشف عن خلط بين أوراق الماضي و المستقبل .
الفاهم لطبيعة التحوّل السياسي في مجتمع المعلومات، يدرك أن أيّ تجمّع حالي بين كيانات اجتماعية أو سياسية، لا يمكن أن يتم على النسق الهرمي الذي التزم به المجتمع الصناعي كأساس تنظيمي للدولة القومية . بل على العكس من هذا، تفرض طبيعة مجتمع المعلومات أن تقوم الكيانات الأكبر على أساس التنظيم الشبكي، وفقا للمصالح المتبادلة بين الأطراف، و طالما استمرت تلك المصالح قائمة .
سينجح الجهد الحالي لإقامة الوحدة الأوروبية، بقدر ما يسود هذا الفهم بين الدول و الشعوب الأوروبية .. فنحن لسنا بصدد إقامة نظام ولايات أوروبية متحدة، على نمط الولايات الأمريكية المتحدة .
و إلى الوهم الشائع الثالث .. وهم ثبات معاني المصطلحات

الثلاثاء، سبتمبر ١٥، ٢٠٠٩

الوهم الأول

ثمانية أوهام كبرى
تعوق جهود سعينا للتقدّم

من خلال اللقاءات و الحوارات حول المستقبل و الرؤية المستقبلية، مع مختلف المفكّرين و أصحاب الاهتمام العام و الساسة، اكتشفت أن سر فشلنا في الوصول إلى حلول مستدامة لمشاكلنا، لا تتولّد عنها مشاكل جديدة في المستقبل، هو أننا ما زلنا نتمسّك ببعض الأوهام الشائعة التي تعتبر السبب الأول في تخلّفنا، و عدم قدرتنا على تجاوز ذلك التخلّف و اللحاق بركب التطوّر العالمي .
كنت أسأل نفسي دائما :
لماذا مع كلّ الجهد و الإخلاص و رصد الأموال، لا نصل إلى حلول باقية لمشاكلنا ؟ .
لماذا ما نكاد ننتهي من مواجهة مشكلة ما، حتّى نكتشف أن هذه المواجهة قد ولّدت مشاكل مستجدة، غير مسبوقة ؟ .
لماذا لا تتراكم الحلول، لكي تدفع بنا خطوة في سبيل التقدّم ؟ .
و أخيرا، من أين نبدأ في مواجهة هذا الوضع المأساوي، الذي يذكّرنا بأسطورة " سيزييف "، الذي ما كان يتصوّر أنّه قد نجح في حمل الحجر إلى قمّة الجبل، حتّى يجده قد تدحرج إلى أصل الجبل، و أن عليه أن يكرّر المحاولة المرّة بعد الأخرى ؟ .

الأوهام الكبرى ..

يبدأ الحلّ ـ في رأيي ـ بالتخلّص من بعض الأوهام الكبرى الراسخة في تفكيرنا جميعا . و سنورد فيما يلي ثمانية منها، نرى أنّها الأكثر أهمية و خطورة، و هي :
( 1 ) وهم إمكان حلّ المشاكل المختلفة، كلّ على حدة في زمن التغيير الشامل .
( 2 ) وهم إمكان الاعتماد حاليا على الخبرات السابقة .
( 3 ) وهم الاعتقاد بثبات معنى الاصطلاحات و الأشياء .
( 4 ) وهم إمكان الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية سابقة .
( 5 ) وهم إمكان الوصول إلى حلول حقيقية في غياب رؤية مستقبلية .
( 6 ) وهم صياغة رؤية مستقبلية لا تقوم على أساس فهم جوهر التغيّرات العالمية الحالية .
( 7 ) وهم إمكان التعامل مع المتغيّرات العالمية، دون التعرّف على جذورها، و علاقاتها المتبادلة .
( 8 ) وهم إمكان صياغة رؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة .
و كنت قد تقدّمت بورقة حول هذه الأوهام، من خلال جلسات المؤتمر العام لجمعية مستقبل العالم، الذي يعقد بواشنطن كلّ أربعة أعوام . و قد قامت المجلة الفصلية التابعة للجمعية، مجلة الأبحاث المستقبلية، بنشر تلك الورقة، التي أطرح هنا ترجمة مختصرة لها .


(1) وهم التصدّي المنفرد للمشكلة

وهم إمكان التوصّل إلى حلول باقية للمشكلة بالتناول المباشر، دون التعرّف على أبعادها و ارتباطاتها، من الأوهام الشائعة التي نلمسها يوميا في تصريحات المسئولين و رجال الأحزاب، في الجرائد و المجلاّت و التلفزيون و الإذاعة، و الندوات و المؤتمرات .. و دعونا ننظر إلى نموذج متكرّر لهذا الوهم، في مجال مشاكل المرور، و ما يترتّب عليها من ضياع للجهد و الوقت و الطاقة، بالإضافة إلى المزيد من تلويث البيئة . و دعونا نتأمّل كيف يجري التفكير في محاولات حلّ هذه المشكلة، بإقامة الكباري العلوية و حفر الأنفاق، لنكتشف بعد قليل أن ذلك الحل قاد إلى تدفّق المزيد من السيارات على الطرق، و أنّها قد فتحت شهيّة الجمهور إلى اقتناء المزيد من السيارات .
مثل هذه الحلول الجزئية المباشرة لا يمكن أن تعالج جذور المشكلة، ذلك لأن حلّ هذه المشكلة يرتبط بعديد من الجوانب التي قد لا نتصوّر علاقة بينها و بين مشاكل المرور .. و التي منها :
المركزيّة الممعنة :
في مصر، ما زلنا نأخذ بالنظام البيروقراطي المركزي، و بالتسلسل الهرمي للرئاسات، في جميع مؤسّساتنا الحكومية و العامة، و في العديد من الخاصّة أيضا . و هكذا تركّزت قيادات ضروب النشاط الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في القاهرة . صاحب المصلحة ـ أيا كانت تلك المصلحة ـ لا يستطيع أن يبتعد عن قلب القاهرة، حيث تتركّز مراكز اتّخاذ القرار، لكي يكون مطمئنا على متابعة إنجاز أعماله، و حيث تتركّز الخدمات الأساسية و وسائل الترفيه الأكثر جذبا .
محاولاتنا في مجال الحكم المحلّي، و الإدارة المحلّية، لم تصادف نجاحا ملموسا نتيجة لتلك المركزية الممعنة، التي تأبى أن تعيد النظر في نفسها، حتّى بعد أن تخلّت معظم الدول و المؤسّسات المتطوّرة عن النظام المركزي، لتناقضه مع طبيعة و احتياجات مجتمع المعلومات .
اتصل، و لا تنتقل :
مع تطوّر تكنولوجيات الاتّصال و المعلومات، ظهر شعار " اتّصل و لا تنتقل " . إذا كان بإمكانك أن تنجز عمل ما، و أنت جالس في مكتبك أو منزلك، بالاعتماد على وسائل الاتّصال المختلفة من تليفون إلى فاكس إلى كمبيوتر و إنترنيت، فما الذي يجبرك على الخروج إلى الطريق بسيارتك ؟ .
لقد أثبتت الدراسات أنّ 30% من الأعمال، يمكن أن يقوم بها العاملون في منازلهم، دون الحاجة إلى الانتقال إلى مقرّ العمل، إلا في مواعيد متباعدة . و هذا يعفينا من البحث عن سكن في قلب العاصمة، أو قريب من قلبها، أو في ضواحيها اللصيقة، فنختار للسكن مكانا يبعد عشرات الكيلومترات عن مقرّ العمل، أو قيادته، يغلب أن يكون أفضل من الناحية الاقتصادية و الصحّية . وبديهي أن تحقّق هذا رهن بتوفير وسائل الاتّصال المتطوّرة، التي تخفّف الضغط على الانتقالات، و على طرق العاصمة بالتبعية .
وسائل الانتقال العامة :
ومشكلة المرور، تتّصل أيضا بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، التي تخفّف الضغط على استخدام السيارات الخاصّة . و خير مثال على ذلك التوسّع في شبكات مترو الأنفاق، التي تحدّ من استخدام السيارات الخاصّة و العامّة على الطرق .
سياسات الإسكان :
نتيجة لأزمة المساكن، يضطر المواطن إلى استئجار أي مسكن جديد متاح، بصرف النظر عن مدى قربه من مجال عمله، أو عمل زوجته، أو مدارس أولاده . مع أن الأصل في إقامة المجتمعات السكنية الكبيرة، التي تقيمها وزارة الإسكان، أن يشغلها أولئك الذين يرتبطون بأعمال قريبة منها، لكي لا يضّطرون إلى قطع المدينة من شمالها إلى جنوبها، مماّ يضاعف الضغط على الطرق .
بتأمّل هذه العوامل المختلفة، نرى أن حلّ هذه المشكلة، لا يمكن أن نلتزم فيه بالمأخذ الأحادي الجزئي، فالمشكلة تتصل بمسألة المركزية، و سياسة إقامة المشروعات الإنتاجية الضخمة، و سياسات الإسكان عندنا، و بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، و بمدى تطوّر وسائل الاتصال المتاحة للأفراد .
و نفس الشيء ينسحب على تفكيرنا في حل باقي مشاكلنا، في التعليم متواصل الهبوط رغم دعايات المسئولين، و الصناعة التي ما زالت لا تتّفق مع حقائق الأوضاع التجارة العالمية التي ستطبق علينا، كذلك الإدارة و الطاقة و الديموقراطية.. وغير هذا من المشاكل التي لا يفيدنا أن نبحث عن حلول لها معزولة عن الواقع العام الذي تنشأ فيه، و دون أن نفهم العلاقات متبادلة التأثير بين الأشياء و بين النشاطات .

و إلى الرسالة التالية، لنتعرّف على الوهم الثاني الشائع

السبت، سبتمبر ٠٥، ٢٠٠٩

الرؤية المستقبلية لمصر

على من يمكن أن :
ينعقـــد الأمـل ؟

لقد رأينا فيما سبق أهمّية السعي إلى تغيير المفاهيم، وفقا للواقع الجديد الذي نعيشه . و فيما يلي نعطي ـ على سبيل المثال ـ المفاهيم التي يجب أن تتغيّر في بعض مجالات النشاط البشري . و كيف أن المفاهيم القديمة في مجال ما، يمكن أن توصلنا إلى استخلاص خاطئ في مجال آخر .
و لنبدأ بمجال العمل و العمالة ..
نتيجة للتوصّل إلى تكنولوجيات إلكترونية متطوّرة، مثل الكمبيوتر و الإنسان الآلي الذي يعمل بالكمبيوتر، تغيّر مفهوم العمل و العمالة تماما، قياسا على المفهوم الذي ساد قرون عصر الصناعة .
لقد أثبت الروبوت، أو الإنسان الآلي، أنّه قادر على القيام بمعظم الأعمال الروتينية التي يمكن برمجتها، في المصنع و المكتب، و التي كانت تشكّل النسبة العظمى من العمالة في عصر الصناعة . و بعد أن تكفّل بذلك، لم يبق أمام العمالة البشرية سوى الأعمال العقلية التي تقتضي التفكير . عامل عصر المعلومات، قد تراه جالسا أمام جهاز كمبيوتر، يتابع سير العمل الذي تقوم به أجهزة الروبوت، و يتدخّل عندما تظهر مشكلة ما، و يفكّر في بدائل الحلول المتاحة لتلك المشكلة، ثم يختار من هذه الحلول أنسبها لظروف العمل، و يطبّقه ثم يراقب تطبيقه، ليضمن سلامة الاختيار .
هذه صورة عامل اليوم و الغد، و هي تختلف اختلافا جذريا عن صورة العامل و مفهوم العمل، ممّا كان شائعا و مأخوذ به طوال عصر الصناعة .
إذا لم ننجح في تغيير مفهوم العمل و العمالة عندنا، و في ترسيخ المفهوم الجديد النابع من طبيعة عصر المعلومات، فسنقع في أخطاء كبيرة عند التفكير في إعادة بناء مجالات نشاط بشري أخرى، كالإدارة و الاقتصاد و التعليم .

الابتكار .. و تغيير المفاهيم

المفهوم القديـم للعمل، تقوم عليه الكثير من أفكارنا و نظرياتنا و نظم حياتنا الحالية، في مختلف المجالات . و جهد التفكير الابتكاري هو الذي يسمح لنا بإعادة النظر في جميع افتراضاتنا الحالية، للتثبّت من استمرار صلاحيتها، أو لتبنّي افتراضات جديدة مناسبة .
الواقع الجديـد للعمل و العمالة، يضعف قيمة كلّ ما يتحدّث به الخبـراء حاليا، عن البـطالة و أسبابها و كيفية التصدّي لها . لن يفيدنا في مواجهة هذا الواقع الجديد أن نرجع إلى المؤلّفات و النظريات و الخبرات التقليدية . و هذا يعني، أنه إذا أردنا اليوم أن نصل إلى حلّ لمشاكل البطالة المتفاقمة، لا يقودنا إلى مشاكل أكبر، فلا بد أن يقوم هذا الحل على المفهوم الجديد للعمل و العمالة .
و دون الدخول في التفاصيل، يمكننا أن نرى كيف تؤثّر الطبيعة الجديدة للعمل و العمالة على مستقبل الإدارة، و كيف تسقط معظم النظريات الإدارية التي كانت ناجحة للغاية في عصر الصناعة، و كيف تعيد تشكيل مؤسّسات العمل، مسقطة الاعتماد على التنظيم البيروقراطي الهرمي، و مفسحة المجال لعديد من أشكال التنظيمات الشبكية الجديدة، التي تنسجم مع طبيعة العمالة الجديدة .
العامل العقلي الجديد، لم تعد تنفع معه نظم الإدارة بالأوامر، و أصبح صالح العمل يقتضي مساعدته على اتّخاذ قراراته بنفسه . المؤسّسات الكبرى، في الدول المتطوّرة اقتصاديا، استشعرت مبكرا التغيرات المطلوبة التي نشير إليها، و أعادت تنظيم نفسها على أساس جديد، مستغنية عن تسلسل الرئاسات و التنظيم الهرمي التقليدي، و معتمدة على العديد من التنظيمات المبتكرة الجديدة، التي تعتمد أساسا على فريق العمل الصغير المتكامل، حرّ الحركة، شبه المستقل، المتّصل بقيادة العمل مباشرة، دون تدخّل من الإدارات الوسيطة .
كلّ هذا، جاء أساسا نتيجة لتغيّر مفهوم العمل و العمالة في عصر المعلومات .

تعليم جديد، لدعم العمالة الجديدة

و نفس الشيء ينسحب على التعليم، لأنّنا في أشد الحاجة لإعادة بناء نظمنا التعليمية على أساس المفهوم الجديد للعمل و العمالة، فالتعليم يسعى أساسا لسد حاجات العمل في المجتمع . غير أن حظ التعليم يكون دائما أتعس من حظ الإدارة، و خاصة إدارة المشروعات الخاصّة . فالنشاط الاقتصادي الخاصّ لا يكذب على نفسه، و يزعم أن الأوضاع على خير ما يرام، بينما تكون الأزمة واضحة للعيان . لقد بدأ استكشاف السبل الإدارية الجديدة لمجتمع المعلومات، على يد المؤسّسات الخاصة، التي شعرت أن معدّلات نموها لم تعد تحتفظ بنفس النسبة السابقة . إنّها لم تنتظر حتّى تفلس، بل بدأت قلقها و البحث عن حلول لمجرّد أن معدّل رواجها قد بدأ يتناقص . و هذا هو عكس ما يحدث في النشاطات الحكومية .
رغم أن التعليم عندنا قد وصل إلى الحضيض، بالمقاييس التقليدية القديمة، و رغم أننا نثبت كلّ يوم عدم قدرتنا على تحديد أولويات الحركة في إعادة بناء التعليم المناسب للحياة في عصر المعلومات، فإنّنا نجد من يتحدّث ـ متبجّحا ـ عن نهضة علمية، و عن ريادة في هذا المجال تشهد بها جامعات العالم ! .
تعليم عصر المعلومات الذي نطالب بإعـادة بناء التعليم على أساسه، يناسب التحوّل في مفهـوم العمل و العمالة الذي تحدّثنا عنه . التعليم الأساسي الجديـد لمجتمع المعلومات يستهدف توفير عمالة جديـدة، هي العمالة العقلية أو المعرفية، و يستهدف تدريب المتعلّمين على العمل في هياكل غير التي كان يستهدفها تعليم عصر الصناعة .
و هنا أيضا يفشل العديد من الأذكياء، الحريصين على المصلحة العامة، في تبين سبيلهم، و معرفة أولويات إعادة بناء النظم التعليمية الجديدة، نتيجة لأن الأمر يقتضي القدرة على تغيير المفاهيم، و هو أمر شاق ما لم نعتمد على آليات التفكير الابتكاري، التي أشرت إليها من قبل، و ربّما يتاح لي فيما يلي من حديث أن أوردها بشيء من التفصيل .

من أين نبدأ ؟

بعد هذا، نعود إلى السؤال القديم : من أين نبدأ ؟، و من المنوط به أن يبدأ ؟ ..
أقول دائما أننا في حاجة إلى الحدّ الأدنى من الاتفاق على" رؤية مستقبلية " لمصر . و هذا لا يمكن أن يتم بالاعتماد على المفاهيم و المدارك التقليدية الشائعة حاليا .. هذه الرؤية تكون " مستقبلية "، لأنّها تستوعب " مستقبل " التغيير في المفاهيم . و هذا يبيّن ـ ثانية ـ أهميّة الاعتماد على التفكير الابتـكاري، الذي يمكن أن يساعدنا على النظر إلى ما نحن فيه بعين جديدة، تتيح التعرّف على المسالك الجديدة، التي تستوجبها المفاهيم الجديدة .
و نعود مرّة ثالثة إلى السؤال المطروح .... من الذي يمكن أن يبدأ مسيرة رسم الرؤية المستقبلية لمصر ؟ . ما هي الجهة التي يبدأ عندها ذلك الجهد ؟ .
هذا الجهد ـ كما قلنا من قبل ـ يعتمد على المعرفة الشاملة المتجدّدة، غير الغارقة في التخصّص، كما يعتمد على التفكير الابتكاري المنظّم، الذي يتيح النظر إلى أي شيء، و كلّ شيء، بعين جديدة، و بشكل غير تقليدي، يتجاوز النظرة السياسية النفعية قصيرة المدى، التي تسعى إلى تلوين الحقيقة بكلّ ألوان الطيف، وفقا للمصالح القريبة .
استبعاد الاعتماد على الحكومة
بهذا المنطق، يمكننا استبعاد احتمال الاعتماد على الحكومة بوزاراتها و أجهزتها المختلفة . لقد تصوّرت ذات يوم أن بإمكان جهاز المعلومات لخدمة صناعة القرار، التابع لرئاسة الوزراء، أن يتكفّل بالبدء في مهمة وضع إطار العمل الذي يقود إلى صياغة الرؤية المستقبلية لمصر . و قد نبع تصوّري من إدراكي أن تقاليد الحكم عندنا لا تسمح بقبول الرأي المخالف، إذا ما صدر من خارج مؤسّسة الحكم .. تصوّرت أن الجهاز بتبعيته لرئاسة الوزراء يمكن أن يطرح التوجّه المستقبلي، دون خدش للكرامة الوهمية التي تتمسّك بها الحكومة . غير أن التجربة العملية أثبتت لي خطأ تصوّري . فمن الذي بقي لنعتمد ليه ؟! ..
يبدأ الحلّ بالتخلّص من الأوهام التي نحرص على التمسّك بها، رغن أنّها هي التي تعوق تقدمنا .

الخميس، أغسطس ٢٧، ٢٠٠٩

محنة التفكير، في زمن التغيير

البحث عن خريطة جديدة للتفكير

العلم ـ الفهم ـ العمل


ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة المأزق الحالي ؟ .. كيف يستطيع أن يخرج من الفقّاعة المنطقية التي تشكّلت حول عقله نتيجة لمفاهيم و مدارك أثبتت التطورات التي حدثت في مجال المعرفة البشرية، و في نسق الحياة السائد، أنّها عتيقة أو خاطئة ؟ . الخروج من المأزق يقتضي الاعتماد على ثلاثة عناصر، وفقا لتتابعها : العلم ـ الفهم ـ العمل .
أن يعلـم صانع القرار، يعني أن يفتح جميع القـنوات المتاحة، لكي تتدفّق منها المعلومات من كلّ اتّجاه، و أن يسخّر كل التكنولوجيات المتطوّرة المتاحة لتحقيق هذا الهدف، حتّى تتوفّر له المعلومات المتجدّدة كل يوم و كل ساعة، لكي يتعرّف منها على طبيعة التغيّرات الجذرية المتسارعة التي تطرأ على المجال الذي يتحرّك فيه .
لكن المعلومات، في حد ذاتها، لا تكفي . و كما يقال، نحن نغرق في فيض من المعلومات، لكنّنا ما زلنا جوعى للمعرفة . فالمعلومات تحتاج إلى معالجتها، حتّى يمكن أن تتحوّل إلى معارف مفيدة . و هنا تنشأ مشكلة جديدة .. في أوضاع الاستقرار النسبي، و عند التصدّي لمجرّد التحسين و التجويد، وفقا لنفس الأسس القائمة، تكفي عملية معالجة المعلومات و تحليلها للوصول إلى المعرفة المطلوبة . لكن الأمر يختلف عندما نسعى إلى فهم جديد لعناصر الواقع المستجد، و هنا تظهر أهمّية التفكير الابتكاري و الفهم القائم عليه .
فهم المعلومات، و المعارف الناتجة عنها، بأدوات و خبرات و نظريات و أوضاع قديمة منصرمة، لا يفيد في حل المشكلات أو إعادة البناء من أجل التوافق مع الأوضاع المستجدّة .

أولويات العمل

الفهم القائم على الابتكار، و على النظر إلى الأشياء بعين جديدة، و من منظور مختلف، هو الذّي يتيح تشكّل الرؤية الصحيحة المطلوبة، لما هو حادث و ما هو قادم .
و الوصول إلى الرؤية الشاملة، هو الذي يتيح لنا أن نحدّد الأولويات.. و هو أيضا الذي يوفّر لنا أمرا بالغ الأهمية، أعني بذلك الرؤية الواضحة للعلاقات المتبادلة بين هذه الأولويات، و علاقتها بالهدف الذي نسعى إليه .
عندما يتحقّق الفهم، و تتضح الرؤيـة، و تتحدّد الأولويات، يبدأ العمل بعد وضع استراتيجياته و خططه، و يمضي التنفيذ وفقا لتلك الخطط و أولوياتها . فالأولوية هي رأس الحربـة التي نقتحـم بها الواقع الحالي . و تحديد الأولويات يخرجنا من حالة الإغماء التي تصيبنا كلّما فكّرنا في عمليات إعادة البناء المطـلوبة، و هو الذي يتيح لنا أن مضي في مسارات معيّنة دون غيرها، و لا نفقد في الوقت نفسه العلاقة بين الأولوية و الهدف، و لا العلاقات المتبادلة بين تلك الأولويات .
حتّى الآن، كان حديثي منصبّا على صناعة القرار بشكل عام، بالنسبة للقيادات و الأفراد، من الوزير إلى مدير الشركة إلى رب الأسرة . و لكن، كيف ينطبق هذا على صناعة القرار في مصر الدولة ؟، كيف يتحوّل العلم و الفهم عند قيادة مصر إلى عمل ؟

معنى المشــكلة

المأزق الذي تحدّثنا عنه، يبدو أكثر استحكاما على مستوى القيادات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، عندما تتصدّى للمشاكل التي تتدافع حولها، دون سابق إنذار، و التي لا تجدي معها الحلول التقليدية و السوابق التي جرى الأخذ بها .
دعونا نتساءل : ما هي المشكلة ؟ ، و ما الذي يعنيه الواحد منّا عندما يقول أن مشكلة ظهرت له ؟
المشكلة ـ ببساطة ـ هي عبارة عن تغيير في بيئة النظام ، الداخلية او الخارجية، سواء كان ذلك النظام مركّبا كيميائيا، أم جسدا بشريا، أم فردا في مجتمع، أم شركة أو مؤسّسة، أم حكومة، أم منظّمة عالمية . إذا كان ما حدث اليوم، على نسق ما حدث أمس، فليست هناك مشكلة .. لكن إذا ما طرأ تغيير فيما يحيط بي من أشياء أو علاقات أو ظروف، شعرت بوجود مشكلة أو عدّة مشاكل . و أيضا، إذا ما حدث التغيير بداخلي، جسديا أو عاطفيا أو عقليا، شعرت بوجود مشكلة أو عدّة مشاكل .
و من هنا، لا تهبط علينا المشكلة من فراغ، أو مصادفة، إنّها النتيجة الطبيعية للتغيرات الخارجية أو الداخلية التي تطرأ علينا .
إذا كانت التغيّرات مسبوقة، أي شبيهة بتغيرات سابقة مررنا بها، أمكن التصدّي للمشاكل الناتجة عنها بحلول معروفة لنا، و جاهزة في رصيد خبراتنا، و هكذا تنتهي المشكلة . أمّا إذا كانت غير مسبوقة، فالأمر يقتضي أن نبتكر لها حلولا غير مسبوقة .
و هذا هو المأزق الذي تجد نفسها فيه قيادات العمل السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي حاليا، قيادات أقصى اليمين و حتّى أقصى اليسار .. إنّها تتعامل مع مشاكل جديدة، ساعية إلى حلّها بأدوات تقليدية قديمة . و هذا هو ما يجعل تصدّيها لحل المشاكل متمخّضا عن مشاكل أكبر، فتصبح عملية اتّخاذ القرار شاقّة و محبطة للغاية .


خريطة جديدة للتفكير

لقد تكلّمت من قبل عن " الفقّـاعة المنطقـية " الخاصّة التي يعيش فيها الفرد، و التي تستمدّ كيانها من مفاهيمه و مدركاته الخاصّة، تبدو أفكاره و ردود فعله داخلها منسجمة مع بعضها و منطقية للغاية .. و إذا كانت مفاهيمه عتيقة و مدركاته خاطئة، فإن هذه الأفكار و ردود الفعل تصبح غير منطقية و لا تقود إلى نتائج سليمة .
المطلوب من كل قائد سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي حاليا، أن يتخلّى عن فقّلعته المنطقية الخاصّة به، و أن يفهم أن التصدّي للمشاكل الحالية غير المسبوقة، يقتضي رسم خريطة جديدة للتفكير، تقوم على افتراضات و مدارك و مفاهيم جديدة، غير التقليدية السابقة، يمكن رسم طريق الحلول عليها .. و هذا هو ما يقودنا للوصول إلى القرار السليم في الوقت المناسب .
و هنا .. نصل إلى عمق المأزق ..
ما الذي يمكن أن يعتمد عليه القائد في عملية إرساء خريطة التفكير الجديدة، التي ستكون أداته للتصدّي للتغيّرات الزاحفة المتسارعة غير المسبوقة ؟.

الشائع حول حلّ المشاكل

الشائع حاليا ـ على مختلف المستويات ـ أن السبيل الأمثل لحلّ مشكلة ما، هو جمع أكبر قدر من البيانات عنها، و معالجة هذه البيانات، للوصل إلى معلومات عن الوضع .. و كذلك تحليل المشكلة إلى أصغر عناصرها، و الاعتماد على الجدل و المنطق في الوصول إلى حلّ لها .
لقد كان هذا ناجحا على مدى عشرات السنين، لحلّ المشاكل و تحسين مجال العمل و تجويد الإنتاج، عندما كانت المفاهيم و المدارك الأساسية و التي تأخذ بها الغالبية تتمتّع بحالة من الاستقرار النسبي، نتيجة لاستقرار العناصر الأساسية في أسلوب الحياة المأخوذ به .
غير أن هذا لم يعد كافيا للتعامل مع الواقع المستجدّ ..
و المطلوب حاليا، هو الوصول إلى طريقة أو منهج أو آلية تساعدنا على تغيير المفاهيم و المدارك، و إعادة النظر في الافتراضات التي قام عليها هيكل تفكيرنا التقليدي .. و هذا لا يتحقّق إلاّ بالاعتماد على التفكير الابتكاري، و آليّاته المتاحة .
السرّ في هذا أن تغيير المفاهيم ليس أمرا سهلا، ممّا يقتضي القيام بمناورة متعمّدة للتحلّل من سيطرة المفاهيم القديمة على العقل، و الخروج من الفقّاعة المنطقية التي نعيش داخلها، و التي تجعلنا نبدو ـ على غير الحقيقة ـ منطقيّين أمام أنفسنا .

الخميس، أغسطس ٢٠، ٢٠٠٩

أزمة التفكير، في زمن التغيير


محنة صانع القرار

التغيير الشامل، و الفقّاعة المنطقية

المحاولات المختلفة لتكوين جماعة تشيع التفكير المستقبلي، و تطرح السبيل لتكوين رؤية مستقبلية، تصلح للتعامل مع الحاضر، و تتيح الاستعداد للتعامل مع المستقبل .. هذه المحاولات المتكررة على مدى عقدين من الزمان، كان من أهم أهدافها مساعدة صانع القرار، في أي مكان و على أيّ مستوى، على اتخاذ القرار في مواجهة المشاكل و الأزمات التي تنهال عليه، و التي يكون معظمها مستحدثا و غير مسبوق، و ليس له رصيد حلول في مخازن الخبرات السابقة . و القرار الذي نشير إليه، هو القرار المناسب في الوقت المناسب، و الذي يقود إلى حل المشكلة، دون خلق مشاكل جديدة مشابهة أو أخطـر في المستقبل ..
الثابت حتّى الآن، أنّه لا يبدو أن رجال السياسة أو أصحاب الخبرة أو أهل الفكر، في إمكانهم الوصول إلى منهج سليم مناسب لحل المشاكل و مواجهة الأزمات الحالية . و السرّ في هذا، أن الواقع شديد التغيّر الذي نعيشه حاليا، يفقد هؤلاء جميعا القدرة على رسم سبيل سليم على خريطة التفكير .
عندما أقول " صانع القرار "، فأنا لا أقصر الحديث على الحكّام و الرؤساء و القيادات الإدارية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية العليا، رغم أن المأزق عند هذا المستوى تكون له آثاره الهامة الفادحة، لكنّي أعني بهذا كل من يتصدّى لاتّخاذ قرار على أيّ مستوى من المستويات، سواء كان رب أسرة يبحث عن القرار المناسب لحلّ مشكلة أعباء الحياة المتغيّرة، أو شابا يتصدّى لاتخاذ قرار في نوع الدراسة التي يتّجه إليها، أو حتّى كان مواطنا عاديا يبحث عن أفضل وسيلة للوصول إلى عمله، من بين البدائل المتاحة .
الذي يجب أن ننتبه إليه، هو أن المسألة مسألة منهج تفكير جديد، في مواجهة الواقع الجديد المتغيّر .
إنها ليست مجرد نقص في البيانات و المعلومات، و لا عدم قدرة على معالجة تلك البيانات و المعلومات بهدف تحويلها إلى معارف نافعة.. و هي أيضا ليست مسألة نقص في الذكاء، أو قصور في رصيد الخبرات القديمة أو المعاصرة، المحلّية أو العالمية ..

من الذي يقتنع ؟

فما هي المسألة إذا ؟
المسألة هي أننا كنّا نمضي، خلال القرون الماضية ـ وفق أسلوب خاص متكامل في الحـياة، له منطقه و مبادئه و أسسه التي يستند إليها، و له تطبيقاته في كل مجال من مجالات الحياة .. في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و التعليم و الثقافة ة الإعلام . مشكلتنا اليوم أننا نصمّم على الأخذ بتلك التطبيقات، و نتصوّر أنها بديهيات لا تناقش .
و إلاّ .. هل تستطيع أن تقنع أحدا بأنّ النظام السياسي المعمول به عندنا، و في أنحاء العالم أيضا، من مجالس نيابية و أحزاب و حكومات مركزية، قد انقضى زمنه، و فقد مصداقيته، و أنّه آيل للسقوط ؟ .. هل تستطيع أن تقنع أحدا بأن النظام التعليمي الذي نأخذ به، و الذي ما زالت تأخذ به العديد من دول العالم، لم يعد صالحا لإعداد الأجيال للتعامل مع الحياة القائمة و القادمة، و أنه السبيل إلى أخطر أنواع البطالة، البطالة البنيوية، النابعة من قيام العمل على أسس جديدة مغايرة ؟ .. هل تستطيع اقناع أقطاب الاقتصاد عندنا بأن النظريات الاقتصادية الكبرى، التي سادت القرون الأخيرة، من رأسمالية و اشتراكية، لم تعد قادرة على التعامل بمنطقها، مع منطق اقتصاد عصر المعلومات ؟ ..
أسلوب الحياة الذي عرفناه و أخذنا به، بدأ يتغيّر خلال العقود القليلة الأخيرة من القرن السابق، مفسحا المجال لأسلوب حياة جديد، له مبادئه و أسسه و منطقه، و له تطبيقاته غير المسبوقة في كل مجال من مجالات حياتنا .
هذا هو جوهر المأزق الذي نعيشه، و الذي تنهمر منه الأزمات المتنامية على صانع القرار . المناهج التي كان ـ و ما يزال ـ يعتمد عليها لم تعد صالحة. و هو في حاجة إلى مناهج جديدة، تصلح للتعامل مع الواقع الجديد الزاحف .

الفراغ .. و السلفية

و نسأل مرّة ثانية : ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة هذا المأزق ؟ ..
ماذا نفعل جميعا في مواجهة الفراغ الهائل، الناتج عن انقضاء ما هو معمول به تقليديا، و عدم اكتمال تشكّل الآتي، و عدم استقرار مبادئه و أسسه و المنطق الجديد الذي يطرحه ؟ ..
معظم المشاكل التي تواجهنا في مصر، و تواجه باقي شعوب العالم، ناتجة عن ذلك الفراغ الذي تحدّثنا عنه . و هو سرّ عدم قدرتنا على توقّع المشاكل القادمة في وقت مناسب، و الاضطرار إلى انتظار المشكلة حتّى تحل، ثم محاولة التصدّي لها بما يتوفّر لدينا في ذلك الوقت من حلول غير متكاملة، كما أننا في محاولتنا لحل المشكلة الهابطة علينا، نلجأ إلى الأدوات السلفية، في غياب الفكر الجديد .
و السلفية التي نعاني منها، لا تقتصر على السلفية الدينية، و تصـوّر إمكان التعامل مع الواقع الجديـد بأدوات تاريخية قديمة، لكنّها تمتد إلى السلفية الأيديولوجية و العقائدية . السلفي الذي أتحدّث عنه ليس هو فقط مطلق اللحية و مرتدي الجلباب، لكنّه ذلك النمط الشائع في أعلى المواقع السياسية و التشريعية و التنفيذية، و توجد نماذجه بوفرة بين عدد من أساتذة الجامعات، و أصحاب الأقلام ! .
هذا الفراغ الذي أتحدّث عنه، هو المسئول عن الخلط الذهني والذاتية و الانتهازية التي تشيع في حياتنا، و التي لا تقتصر على فئة دون أخرى، و التي نرى بعض انعكاساتها على صفحات الحوادث و القضـايا .

الفقّاعة المنطقية

غياب المنطق الذي كان معمولا به، و عدم تأسّس المنطق الجديد، يقود إلى وضع خطير .. لقد أصبح كلّ واحد منّا يعيش في " فقّاعة منطقية " خاصّة به .. كل واحد منّا يعتمد على مفاهيمه و مداركه الخاصّة، التي تكون مستمدّة من الواقع القـديم أو التاريخـي، ويصنع منها فقّاعة تحيط بعقـله، و يتحـرّك بها إلى كلّ مجال .
داخل هذه الفقاعة يتصرّف الشخص بطريقة منطقية متوافقة تماما، لكن إذا ما كانت المفاهيم و المدارك التي اعتمد عليها محدودة أو خاطئة، فالأرجح أن يقود هذا إلى أن تكون أفكاره و أعماله غير سليمة أو مناسبة أو منطقية . و هذا هو أحد أسباب حالة الضياع و عدم الجدوى التي تتّسم بها مجالسنا و مؤتمراتنا و اجتماعاتنا .. و هذا هو مصدر حالة الرضا عن الذات التي يغرق فيها مفكّرونا، و التي تمنعهم من تبيّن أهمية النظر إلى مفاهيمهم و مداركهم بعين جديدة، على أساس الواقع المستجد للحياة .
هؤلاء هم السعداء بمهاراتهم الفكرية، الذين يتصوّرون أن هدف التفكير هو إثبات أنك على حقّ، من أجل إرضاء و إنعاش ذاتك .. الذين يرفضون الخروج من فقّاعتهم المنطقية، أو يعجزون عن ذلك، نتيجة لافتقادهم القدرة على ممارسة التفكير الابتكاري، و عدم توصّلهم إلى أدوات و تقنيات الابتكار .

الخميس، أغسطس ١٣، ٢٠٠٩

الأمن .. و الخوف من المستقبل


هل أكتب للورثـــة ؟ !
خطاب أمن الشئون المضحك


بعد انقطاع طويـل، جمعني حفل بالصديق أحمد رجـب، الجرّاح الساخر، و لا أقول الكاتب الساخر . بعد العناق و تبادل كلمات الترحيب، انتحى بي جانبا و تسـاءل بجدّية و بدون سخرية، " أنت تكتب و تتحدّث عن المستقبل لعديد من السنين، و أعجب لمواصلتك هذا، رغم ما تلقاه من استجابة ضعيفة .. قل لي : لمن تكتب ؟، و من الذي تتوجّه إليه بحديثك ؟ "، أجبت بدون تفكير " أكتب للورثة ! .." . اعتبرها أحمد رجب نكتة فضحك عاليا، و حقيقة الأمر أنني لم أكن أسعى إلى منافسـته في السخرية و التنكيت، و كنت جادّا في قولي هذا .. أنا لا أعيش في وهم، و أعرف أبعاد المقاومة التي يمكن أن يلقاها أيّ توجّه مستقبلي، في مصر و في معظم دول العالم الثالث، لهذا كنت ـ و ما زلت ـ أقول " فليكن حديث المستقبل إلى أهله، إلى الشباب و الأجيال الجديدة .. أصحاب المستقبل، الذين سيسعدون بنعيمه، أو يصلون جحيمه .. " .
و مع ذلك، فقد أتاحت لي كتاباتي و أحاديثي أن ألتقي بعدد من أصحاب العقول المستنيرة، الذين يؤمنون بضرورة استشراف المستقبل، و أهمّية التفكير المستقبلي عند التصدّي للمشاكل التي تتكاثر في حياتنا . لقد كنت حريصا على فتح صفحات باب " مستقبليات " لكل من يريد أن يساهم برأيه، بل كنت
أطلب هذا في كثير من الأحيان .. ذلك لأنّني كنت في أشدّ الحاجة إلى حوار صادق ذكي تنضج عليه أفكاري، و يزداد وضوحها في عقلي و عقول الآخرين .

آفـــاق 21

كانت مشكلتي منذ الصغر أنني لست جماهيريا بطبيعتي . أميل إلى القراءة و الكتابة منفردا، و تكون صلتي بالناس من خلال الكتب التي تنشر لي . كانت دائرة أصدقائي دائما محدودة، تتكوّن صداقاتي بصعوبة و بعد فترات اختبار طويلة، لكنّها تكون باقية . لم يحدث أن دخلت في أي نشاط جماهيري، حزبي أو غير حزبي . لهذا، كانت محاولات تأسيس الجماعات المستقبلية تنبع من الزملاء الآخرين، و ليس منّي . بالرغم من رغبتي الشديدة في مجال للحوار المثمر المنظّم حول المستقبل .
لقد أشرت من قبل إلى محاولات الصديق د. رفعت لقوشة لتكوين نادي المستقبليات، و محاولات المهندس حلمي السعيد لتكوين جمعية المستقبل، و التي دخلت في طور التأسيس الرسمي، و التقدّم إلى وزارة الشئون الاجتماعية بطلب الموافقة على تأسيس الجمعية .. غير أن جميع هذه المحاولات تكسّرت عند أبواب وزارة الشئون الاجتماعية، و بيروقراطية موظّفيها، و عدم خبرتنا بالمسالك السرّية التي يمضي فيها العارفون ! . و أخيرا، بدأت محاولة أكثر نضوجا و تنظيما تحت اسم " آفاق 21 "، تبنّاها الصديق د. محمود جبريل، و قد انضمّ إلى هذه المحاولة مجموعة كبيرة من أصحاب العقول المستنيرة من المفكّرين المستقبليين، الذين تعرّفت على معظمهم من خلال مساهماتهم في باب " مستقبليات "، تعقيبا و إضافة إلى ما كنت أكتب عنه و أناقشه .. لقد تميّزت هذه المحاولة باشتراك بعض الشباب المتحمّس للفكر المستقبلي من الجنسين . و كان اختيار اسم الجمعية الذي سنتقدّم به إلى الجهات الرسمية ـ آفاق 21 ـ من اقتراح بعض هؤلاء الشباب . لقد جمعت هذه المحاولة بين عدة أجيال من المتحمّسين لمستقبل مصر و العالم العربي، فكان من الأعضاء المؤسّسين دكتور محمود محفوظ، الطبيب المتميّز في مجال العلاج بالأشعة، و الوزير السابق، و رئيس لجنة الخدمات بمجلس الشورى، و الأهم من هذا و ذاك المفكّر المستقبلي النشيط صاحب القدرات العالية في مجال التفكير الابتكاري .
و منذ البداية ساهم في هذه المحاولة الأخيرة دكتور رفعت لقوشة، المفكّر المستقبلي المتميّز، و الأستاذ بجامعة الإسكندرية، الذي شارك بحماس في جميع المحاولات السابقة، و الزميل الصحفي الكبير محمود المراغي، رحمة الله عليه، و الدكتور على نصّار مستشار معهد التخطيط القومي و الخبير بمنتدى العالم الثالث، و الأستاذ ضياء الدين زاهر بكلية التربية جامعة عين شمس و صاحب واحد من أهم المراجع في مستقبل التعليم ، و من الأجيال الصاعدة محمد شلبي و خالد نصّار و أمل صقر .

الوضوح لمواجهة البيروقراطية

قبل أن نضع الورقة الأساسية التي تتضمّن أهم نقاط نشاط الجمعية، و التي سنتقدّم بها إلى وزارة الشئون الاجتماعية، عقدنا اجتماعات طويلة متكرّرة، و أعددنا عدة أوراق مختلفة لنختار من بينها الجوانب الفعلية الأهـم و الأوضح من نشـاط الجمعية، دون أن نترك فرصة للفهم الخاطئ من جانب الجهاز البيروقراطي المختصّ بوزارة الشئون الاجتماعية .
بعد انقضاء المماحكات ..
مرّ عام بعد عام، و المراسلات لا تتوقّف بين الجمعية و الإدارة المختصّة بوزارة الشئون، و مماحكات النظام الحاكم لا تنتهي . ففي ذلك الوقت لم تكن حكاية المجتمع المدني قد خرجت بعد من نطاق الأفعال الفاضحة ! .. قالت الوزارة أوّل الأمر أنها قد غيّرت اسم الجمعية من " آفاق 21 "، إلى " الأفق القادم " ! .. لماذا ؟ .. لوجود جمعية بالسيدة زينب تحمل نفس الاسم !! .. فوافقنا . طلبوا تشكيل مجلس إدارة الجمعية، و توزيع الوظائف فيه .. ففعلنا، و قد أصرّ أعضاء الجمعية على اختياري رئيسا لمجلس إدارتها، مع رفض كلّ مبررات الاعتذار ..

و مرّ عام جديد

و في 6 يوليو 2003، وصلني بصفتي رئيس مجلس الإدارة، الخطاب العجيب التالي :
محافظة القاهرة
إدارة شرق م. نصر الاجتماعية
إدارة الجمعيات
السيد الأستاذ رئيس مجلس إدارة جمعية " الأفق القادم " .
تحية طيبة و بعد،
نتشرّف بأن نرسل لسيادتكم، طيّ هذا الملف الخاص بإشهار الجمعية، حيث أنه تم الموافقة على قيد شهر الجمعية برقم 5212 بتاريخ 18\6\2003، على أن يتم استبعاد السيد/ راجي عنايت إبراهيم، لاعتراض الأمن عليه برقم 16701 بتاريخ 18\6\2003 . و يتم انتخاب أحد الأعضاء المؤسسين بدلا من السيد/ راجي عنايت إبراهيم، أو يظل المجلس كما هو لحين عقد أوّل جمعية عمـومية، و يتم تشكيل هيئة المكتب من جديد . برجاء التفضل بالإحاطة و اتخاذ اللازم ..(!!!)
احترت في تفسير خطاب أمن الشئون الاجتماعية المضحك هذا .. و تساءلت ..هل يعقل أن يكون ضباط الأمن الذين اتخذوا ذلك القرار قد فهموا مدى خطورة الكلام الجاد عن المستقبل على النظام الحاكم في مصر ؟ ! .

الثلاثاء، يوليو ٢٨، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

كيف نخرج من الخريطة المفروضة على المخ ؟

الابتـكار هو طوق النجاة


خريطة المسارات التي جرى حفرها في المخ على مدى السـنين، تصبح غير صالحة لمعالجة المعلومات الجديدة، النابعة من الواقع الجديد . فالعقل البشـري لا يمكنه أن يرى إلاّ ما هو مهيّأ لرؤيته، من خلال الأنماط و النماذج القائمة فيه . و هذا هو السرّ في عجز القلّة الذكية، غير الانتهازية، و غير الجامدة، عن التعامل مع حقائق الواقع الجديد .
و لا بأس أن أورد هنا بعض ما قلته في هذا الصدد، في مناقشة ورقة " مصر و القرن الحادي و العشرين "، التي تقدّم بها هيكل، إلى مؤتمر جماعة خرّيجي المعهد القومي للإدارة العليا :
الذي أريد أن أوضّحه للأستاذ هيكل، و لغيره ممن يقتصرون في طرحهم على الواقع الراهن، أنّه حتّى إذا كان المستقبل ليس من بين اهتماماتهم، فإن قيامهم برصد الواقع الراهن يجيء قاصرا، إذا لم يتم من خلال رؤية مستقبلية واضحة، تستوعب النظرة الكلّية لجوهر ما يحدث الآن عندنا و حولنا، و التي تجمع بين الماضي و الحاضر و المستقبل .

مؤامرة الصمت المريبة ..

قلت تعليقا على ورقة الأستاذ هيكل أن القصّة ليست قصّة تفاؤل و تشاؤم، فالمنهج الذي أدعو إلى تأمّله، و الاعتماد عليه، و لو على سبيل التجريب، يقتضي نظرة إلى التاريخ أوسع من التي مارسناها، و ما زلنا نمارسها، دراسة و بحثا .. نظرة إلى التاريخ باعتباره تعاقبا لعصور حضارية كبرى، بدأت على مدى عشرة آلاف سنة بعصر الزراعة، ثم أعقبه عصر الصناعة الذي دام لما يقرب من ثلاثة قرون، ثم العصر الحالي، و الذي أميل ـ مع غيري من المهتمين بالمستقبل ـ إلى تسميته بعصر المعلومات .
فهم آليات التحوّل من عصر حضاري إلى آخر، يتيح لنا أن نتعرّف على جذور التغيرات الحالية، و ليس ظاهرها، و أن نصل إلى رؤية مستقبلية شاملة لها . بعد هذا و ليس قبله، يمكننا تطبيق معرفتنا هذه على الواقع الحالي لمصر، و أن نتعرّف على الأولويات في حركتنا عند التصدّي لحلّ مشاكلنا، و لتضييق فجوة التخلّف بيننا و بين المجتمعات الأكثر تقدّما . بعد هذا، و ليس قبله، يمكننا أن نبحث عن الخصائص التاريخية للشعب المصري، لنرى السياق الذي خرجت منه هذه الخصائص، و مدى المصداقية الحالية لذلك السياق، لكي نركّز على تنمية الخصائص التي تساعدنا انتقالنا إلى مقتضيات العصر الجديد .
قلت للأستاذ هيكل، لا أريد أن أفرض هذا المنهج على أحد .. لكن وسط الضياع و التشاؤم و التخبّط، و الفشل المتكرّر في الوصول إلى سبيل مثمر قابل للتطبيق، ألا يستحقّ الأمر مناقشة هذا المنهج، ثم الأخذ به أو تبرير رفضه؟، ألم يحن الوقت لكي نتواضع قليلا، و نتنازل عن الاستعلاء غير المفيد، و ننهي مؤامرة الصمت المريبة هذه ؟!.

النظر إلى الأشياء بعين جديدة

غياب الرؤية المستقبلية الشاملة، نتيجة للخضوع للمسارات التقليدية المرسومة على المخّ، و التي لا تصلح حاليا للتعامل مع التغيرات الراهنة و الحقائق الجديدة لعصر المعلومات، هو السبب في عجز القلّة الذكية المخلصة ـ و التي يعتبر الأستاذ هيكل بالقطع من بينها ـ عن التعامل مع الواقع الجديد .
نحن جميعا في أشد الحاجة إلى النظر إلى الأمور بعين جديدة، و من منظور مختلف، لكي تنفتـح أمامناالسبل الجديدة التي تقودنا إلى التوافق مع الإنجازات الجديدة لعصر المعلومات، و إلى فهم طبيعة المشاكل الكبرى التي تشغل البشر، و السبيل إلى حلّها .
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف ننظر للأشياء و الأمور بعين جديدة، متحرّرين من قبضة الخريطة التقليدية المحفورة على أمخاخنا ؟ . هنا تظهر الأهمية المتعاظمة لآليّات التفكير الابتكاري . لقد كتبت كثيرا، و تحدّثت في برنامج مستقبليات التلفزيوني على مدى عدد من الحلقات، عن أهمية الابتكار و التفكير الابتكاري في عصر التغيير الشامل الذي نعيشه . ثم جمعت ذلك كلّه في كتاب كامل، صدر عن دار نهضة مصر بعنوان " الابتكار .. و المستقبل " .

الابتكار كممارسة شعبية

في أحوال الاستقرار النسبي، و قيام الحياة على مبادئ و أسس عامة مسـتقرة، يصبح الابتـكار شاغل صفوة نادرة . كان ذلك هو حال البشر طوال عصر الزراعة و الصناعة، السواد الأعظم من الشعب ينشغل بعمل عضلي روتيني بسيط متكرّر، لا يحتاج إلى قدر ـ و لو صغير ـ من الابتكار . بينما تتولّى صفوة أو نخبة صغيرة على رأس المجتمع، مسئوليات اتّخاذ القرار بما يقتضيه هذا من تفكير و ابتكار .
الانقلاب الذي حدث في مجال العمالة، بدخولنا إلى مجتمع المعلومات، نتيجة للاعتماد على الكمبيوتر و الإنسان الآلي في مجالات العمل، بالمصانع و المكاتب، أنهى الحاجة إلى العمالة العضلية اليدوية التي كانت تشكّل السواد الأعظم في مجال العمل الصناعي . و تحوّلت العمالة إلى عمالة عقلية معرفية، تتصدّى للمشاكل، و تبحث عن بدائل الحلول لها، و تطبّق الحلّ الأمثل من بينها، ثم تراقب مدى صلاحيته . و هذه كلّها أعمال تعتمد على التفكير و الابتكار .. و هكذا تحوّل الابتكار إلى ممارسة شعبية ضرورية . و الابتكار الذي نتكلّم عنه هنا، ليس هو ما عرفه البشر طويلا من لحظات ابتكار و إلهام بين الشـعراء و الأدباء و الفنانين . إنّه عملية منظّمة يمكن لأي فرد أن يتدرّب عليها، و يمارسها باستخدام آليات و تقنيات تساعده على الوصول إلى الحلول الابتكارية . هذا هو الذي يجب أن تنتبه إليه القلّة الذكية الواعدة التي تحدّثت عنها . ذلك أن النظر إلى المتغيرات الشاملة الحادثة حاليا، لا يمكن تناولها من نفس المنظور التقليدي القديم، و اعتمادا على خبرات سابقة، بل علينا أن ننظر إليها من منظور جديد، اعتمادا على ما توفّره لنا آليات التفكير الابتكاري . هذا المنظور الجديد، هو الذي يساعدنا على إرساء أسس المنهج المناسب لفهم الأمور غير المسبوقة التي تحدث حولنا، و التعامل معها، و التعرّف على معالم المستقبل التي يحملها إلينا عصر المعلومات .

الثلاثاء، يوليو ٢١، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

ما الذي ينقصنا ؟ ..
النظام ... هو المنطق الذي يحكم الحياة

قبل أن أتحدّث عن آخر محاولاتنا لتأسيس كيان مستقبلي معترف به، أورد لقاء يوضّح سر إصراري على تأسيس مثل ذلك الكيان، و مدى ارتباط ذلك بمصلحة مصر و شعب مصر . منذ عدّة سنوات، تلقيت دعوة من المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، رئيس تحير مجلة " الشباب "، لأحضر اللقاء الذي نظّمه بجريدة الأهرام، و الذي سيجمع بين العالم المصري الأمريكي الدكتور أحمد زويل، في أولى زياراته لمصر بعد ترشيحه لجائزة نوبل، و بين مجموعة من شباب مصر الذين يدرسون في كلية العلوم، التي تخرّج فيها د. زويل قبل ذلك بسنوات عديدة .
تتابعت أسئلة الشباب الطموح، يريد أن يستدل على طريق النجاح في تحقيق ذلك الطموح، طامعا في الاستفادة من خبرات الزميل السابق في كلية العلوم ! . و كان السؤال الذي يلحّ على الجميع، هو " لماذا نجح و تفوّق خارج مصر عندما سافر للدراسة في أمريكا ؟" . و كان من أهم ما قاله د. زويل، أنّ السر الأوّل لتفوّقه بالخارج هو وجود " نظام "، يسّر له أن يظهر أبعاد تفوّقه .
و تجرّأ أحد الطلبة و سأل " لماذا، و قد حققّ كل الذي حقّقه علميا في أمريكا، لا يعود إلى مصر و يواصل أبحاثه في جامعاتها، ليستفيد منه هو و أقرانه من طلبة العلوم ؟ " .. فقال بكل شجاعة ما معناه أن غياب " النظام " في مصر، لا يسمح له بتطوير كشوفه العلمية التي توصّل إليها هناك .. و قد أكبرت فيه هذه الشجاعة و الأمانة في القول .

عن أي " نظام " نتكلّم ؟ ..

و من المفيد أن نفهم معنى و أبعاد كلمة " النظام" التي أوردها د. زويل . النظام الذي نتحدّث عنه، لا يقتصر على النظام السياسي، و طبيعة الحكم، و الأسس الإدارية و التنفيذية التي نمضي وفقا لها، لكنّه يتضمّن ذلك كلّه، و يتجاوزه .. النظام " SYSTEM "، يعني المنطق الذي تقوم عليه حياتنا، و الذي نتمسّك به دائما في وجه المصاعب و المغريات، و الذي تنبع منه استراتيجياتنا و أولوياتنا .
مع كلّ ما يقال و يجري عندنا، ما الذي ينقصنا ؟ .. ما الذي يحول في مصر بيننا و بين التوصّل إلى النظام الأوفق المطلوب، الذي ترتقي في ظلّه الحكومات و الأفراد ؟ . و ما هو السرّ في عدم قدرتنا على تبنّي المنطق الأسلم، الذي يخلّصنا من النواقص الحالية، و يتيح لنا أن نحل مشاكلنا المتشابكة، دون أن يترتّب
على ذلك المزيد من المشاكل في المستقبل ؟ .. ذلك المنطق الذي يتيح لقدرات و طاقات شباب مصر العلمية و الفكرية أن تنطلق، بمثل ما انطلقت طاقات د. زويل ؟ .

بين عدم الرغبة، و عدم القدرة

هناك عدّة أسباب جوهرية تمنعنا من تحقيق ذلك الحلم و التوصّل إلى ذلك الفهم، تتراوح بين عدم الرغبة، و عدم القدرة، أهمّها :
أولا : تناقض الفهم المطلوب مع المصالح المستقرّة .
لا شكّ أن النظام الحالي، أو بمعنى أدق اللانظام الحالي، يتيح للبعض منافعا معنوية و اقتصادية، على حساب الآخرين . و أي تغيير في الأوضاع القائمة ، سيترتّب عليه ـ حتما ـ انتقاصا لهذه المصالح، التي لم تكن قائمة على أساس عادل، و من هنا تأتي المقاومة الشرسة لأي جهد يستهدف إرساء أشكال جديدة لمنطق حياة البشر في مصر .
ثانيا : عدم الرغبة في تغيير الثوابت التقليدية .
التغيّرات الكبرى، التي تفرض نفسها على حياة البشر، كالانتقال من الزراعة إلى الصناعة على سبيل المثال، تهزّ بعنف الثوابت التقليدية و التاريخية، و في نفس الوقت ترسي ثوابت جديدة، نابعة من طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها البشرية .
المشكلة تكمن في أن تلك الثوابت التقليدية، هي التي تتيح للأفراد التعامل مع الحياة، بأقلّ قدر من جهد التفكير و إعمال العقل . هذه الثوابت التاريخية ـ أيّا كانت درجة مصداقيتها ـ هي التي يستند إليها الأفراد في تحديد المواقف إزاء المستجدّات، و يعتمدون عليها في تسهيل عملية الاختيار بين البدائل المطروحة . لهذا، فإن الدعوة إلى إسقاط تلك الثوابت، أو تعديلها، يلقى مقاومة لاشعورية قوية . و في زمن التغيّرات الجذرية المتسارعة، الذي نمرّ به حاليا، يكون رد الفعل الغريزي لمعظمنا، هو التمسّك العصبي بهذه الثوابت، حتّى و لو لم تكن قادرة على الوصول بنا إلى برّ الأمان، وسط أمواج التغيير التي تدهمنا .
ثالثا : عدم القدرة على الفهم .
و هذا السبب يتّصل بقلّة من الأذكياء، غير المستفيدة ماديا أو معنويا من الوضع القائم، تؤمن بعدم جدوى التمسّك بالثوابت التقليدية أو التاريخية، تدرك جسامة التغيّرات الحالية، و ترصدها ة تدرسها، و تستخلص منها أفكارا، لكنّها تفعل ذلك كلّه معتمدة على الخبرات و النظريات و العقائد التي كانت سائدة قبل تدافع هذه التغيّرات . إنّها تستصعب فكرة استنباط منطق جديد، نابع من المتغيّرات، بينما نحن وسط دوّامتها، فتفشل في فهم جوهر المتغيرات، و استنتاج شكل الحياة التي تقود إليه .
هذه القلّة، رغم موقفها هذا، من الممكن أن ينعقد عليها الأمل، في ريادة حركة التغيير التي ترسي نظم حياتنا الجديدة، في مواجهة الانتهازية و الجمود الفكري .

النظام المعلوماتي ذاتي الترتيب

هذه القلّة الذكيّة المتحرّرة، المترفّعة عن المكاسب الانتهازية، يرجع عجزها لسبب لا ذنب لها فيه ! .. قد يبدو غريبا إذا ما قلنا أن ذلك السبب يتّصل بطبيعة عمل المخ البشري، كنظام معلوماتي ذاتي الترتيب . بمعنى أن نظمه تنبع من داخله، و ليس نتيجة لبرمجة من خارجه . الغرابة التي يمكن أن تبدو عليها مثل هذه الأقوال يمكن أن تتبدّد إذا ما تابعنا الطرح التالي .هناك نوعان من النظم المعلوماتية : النظم السـلبية، و النظم الإيجابية النشطة .. في النظم السلبية تكون المعلومات، و السطح الذي يجري
تسجيلها عليه، متّسمان بالسلبية و الركود . في هذه النظم يأتي كلّ النشاط و العمل من مصدر خارجي، يقوم بالربط بين المعلومات و تحريكها . أمّا في النظم الإيجابية النشطة، تكون المعلومات و السطح في حالة نشاط متّصل، و فيه تقوم المعلومات بتنظيم نفسها، دون عون من منظّم خارجي .. و هذا هو ما يشير إليه تعبير " ذاتية الترتيب " . و هذا هو النوع الذي ينتمي إليه المخّ البشري .

خريطة المخّ، و أمطار الجبل

شبكة الأعصاب في المخّ، تسمح للمعلومات الواردة أن تنظّم نفسها في تتابع من الأوضاع المستقرّة وقتيّا، ثم تمضي في أعقاب بعضها وفقا للنظام الخاص بها في المخّ . و خير مثال مادي لذلك، سفح الجبل الذي تسقط عليه الأمطار لأوّل مرّة، فيشقّ الماء مسالك عشوائية له، وفقا لتضاريس الجبل، و يمضي من خلالها إلى الوادي، صانعا النهر . و كلّما هبطت الأمطار بعد ذلك، اتخذت نفس المسارات، و عملت على تعميقها، أي أن الجبل قد أصبح نظاما ذاتي الترتيب، تمضي في الأمطار عبر المسالك المحفورة .
و هذا هو ما يجري في حالة المخّ البشري، المعلومات الواردة تقوم بترتيب نفسها على شكل تتابع من الخطوات . و مع الزمن، يصبح ذلك التتابع نوعا من المسارات و الأنماط المفضّلة للمخّ . هذه الأنماط، بعد تأسّيسها، تصبح مفيدة للغاية، إذ أنها تسمح لنا بالتعرّف على الأشياء . بمجرّد تنشيط النمط، نجد أنفسنا نسبح في اتجاهه، لنرى الأشياء وفقا لخبراتنا السابقة .
لهذا، كلّما نظرنا إلى الحياة حولنا نراها وفقا لأنماط و نماذج جاهزة لدينا . و هذا هو الذي يجعل عملية الإدراك عندنا على درجة عالية من القوّة و الكفاءة .
و لكن ما الذي يحدث إذا ما نشأت تغيّرات جذرية، تقيم حياتنا على أسس جديدة، و تجعل خبراتنا التقليدية غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد ؟ ..

و إلى الرسالة التالية لنتعرّف على طوق النجاة

الخميس، يوليو ١٦، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل العربي

منتدى المستقبل العربي
المستقبل .. يأتي بعد حلّ المشاكل ! ..


و مع هذا كلّه، قبلت آخر الأمر خوض هذه التجربة مع الأمير طلال بن عبد العزيز، بعد ما سمعته من الصديق الراحل أحمد بهاء الدين، عن تفرّده و استنارته . و أيضا، نتيجة لاكتشاف صعوبة إشهار جمعية للمستقبل في وزارة الشئون المصرية، و رغبتي في البحث عن مجال آخر للعمل المستقبلي، قد يتحقّق في الفرع المصري للتنظيم الأم " منتدى المستقبل العربي " .
و بدأت مع الأمير الخطوات الأولي لتأسيس المنتدى .
لم أقف طويلا عند مجموعة الأسماء التي رشّحها الأمير طلال للأعضاء العرب المؤسّسين، رغم إدراكي أنّ أغلبهم مقطوع الصلة بالفكر المستقبلي، و قد تصوّرت ـ في ذلك الوقت ـ أنّ بالإمكان كسب بعضهم إلى المسار المستقبلي، من خلال اللقاءات و الحوارات في إطار عمل المنتدى . و قد اكتفيت بإضافة أسماء بعض المصريين الذين أثق في توجّههم المستقبلي، و الذين يصلحون للعمل الجاد في الفرع أو القسم المصري من المنتدى . فقد كنت أتصوّر أن العمل الفعلي سيبدأ محلّيا، بعد استكمال المراحل الشكلية الأولى لإشهار المنتدى . غير أن تصوّري لم يكن سليما، و أن الأمر أكثر صعوبة ممّا تصوّرت . و دون الدخول في تفاصيل ما جرى بعد ذلك، على مدى ما يقرب من عامين، ثبت لي أن قبول التوجّه المستقبلي من جانب السياسيين، يعتبر من الأمور الشاقة، التي تكاد أن تصل إلى حد الاستحالة ! .
لقد تضمّنت قائمة المؤسّسين رؤساء وزارات، و وزراء، و شخصيات برلمانية عربية . و بعد الاطلاع على الأوراق التي تفيد جدّية التوجّه المستقبلي للمنتدى، رأى معظمهم أن الكلام طيب و عظيم، لكن ينبغي إرجاء الحديث عن المستقبل، إلى حين أن تنتهي الدول العربية من حلّ مشاكلها !! .

هيكل .. و الحب العذري

الوحيد الذي أبدى تحفظات قويّة حول المساهمة في المنتدى منذ البداية، و قبل أن يقرأ الأوراق التي أرسلت إليه، هو الأستاذ محمد حسنين هيكل . و أغلب الظن أن التحفّظات كانت تنصبّ على شخصي،و ليس على ورقة النقاش، أو فكرة المنتدى . و قد ذكرت في حكاياتي هذه، محاولة في بداية سعيي لمناقشة أفكاري أن أتعرّف على رأي هيكل في رؤيتي لدخول مصر إلى عصر المعلومات، و كيف أن الصديق أحمد حمروش عرض أن يقدّم ورقتي إلى الأستاذ هيكل، و فهمت أنه أخذها و لم يعلّق عليها، فيما عدا تضاحكه مع حمروش على خطأ مطبعي في بدايات الورقة ! .
و الحقيقة، أنّني كنت أبني آمالا على اهتمام هيكل بالمستقبل و الفكر المستقبلي، و أعتبر ذلك الاهتمام مكسبا للتوجّه المستقبلي . أمّا مصدر آمالي تلك و محرّكها، فقد كان ما اعتاد هيكل أن يختم به مقالاته، التي تغوص في أسـرار الماضي، قائلا ما معناه " دعونا ننفض أيديـنا من الماضي، و نولّي وجوهنا نحو المستقبل .." .
كنت أصدّقه، و أناقش ما يكتبه من منظور مستقبلي، و أحاول إظهار استحالة استقراء أبعاد الأوضاع الحالية، دون الاعتماد على رؤية مستقبلية متكاملة . لكنّه كان يعود في مقاله التالي، ليغرق في الماضي، طافيا إلى الحاضر بين الحين و الآخر، حريصا في جميع الأحوال على إرضاء ذاته .
و عندما تكرّرت دعوته إلى الآخرين بهجر الماضي و الالتفات إلى المستقبل، دون أن يبدأ بنفسه، كتبت أقول أن العلاقة بين محمد حسنين هيكل و المستقبل، أشبه ما تكون بالحب العذري، يتغزّل فيه عن بعد، دون أن يقوى على ملامسته .

المنهج الأسـلم

و أذكر أنه في تعليقي على كتاب الأستاذ هيكل " مصر، و القرن الواحد و العشرون "، قلت أن الذي أريد أن أوضّحه للأستاذ هيكل و غيره، ممّن يقتصرون في طرحهم على الواقع الراهن، أنّه حتّى إذا كان المستقبل ليس من بين اهتماماتهم، فإن رصدهم للواقع الراهن يجيء قاصرا، إذا لم يتم من خلال رؤية مستقبلية واضحة، تستوعب النظرة الكلية لما حدث و يحدث عندنا و حولنا .
المنهج الأسلم للتناول، يقتضي فهم الأسس الحضارية للتغيّرات الراهنة، و التي تنقلنا من عصر إلى عصر، أعني بذلك من عصر الصناعة الذي دام لما يقرب من ثلاثة قرون، إلى عصر المعلومات الذي بدأ زحفه في الثلث الأخير من القرن العشرين . المفكرون الذين عاشوا التحوّل من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، أصيبوا بحيرة كبرى، وهم يشهدون التغيّرات الكبرى التي تمس كل جوانب الحياة التي تعوّدوا عليها، فلم تكن لديهم سوابق لمثل ذلك التحوّل الحضاري الكبير .
و إذا كانت حيرة هؤلاء المفكّرين مبررة، لعدم وجود السوابق الواضحة، فما هو عذر مفكّري هذه الأيام، الذين يصممون على التخبّط في شباك الحيرة و التخمين، و استدعاء ( الهواجس ) !، كلّما سعوا إلى فهم "حقيقة " ما يحدث، و " مستقبله " .

تضخّم الذات، و العمل الجماعي

أبدى الأمير طلال دهشته لرد فعل صديقه الأستاذ هيكل، و تساءل عن سر تحفّظه بخصوص " منتدى المستقبل العربي "، حتّى قبل أن يطّلع على ورقة المناقشة . قلت للأمير أن اختيار الأستاذ هيكل للمشاركة في المنتدى، لم يكن سليما . فهو يستمد مجده من الكتابة عن الماضي و ليس عن المستقبل، و قد بلغ من الشهرة و السن ما لا يسمح له بأن يتقبّل فكرا جديدا، قد يتناقض مع فهمه للماضي، و يستدعي منه إعادة النظر في أفكاره التقليدية . كما أن إحساسه المتضخّم بالذات، لا يسمح له بالدخول في عمل جماعي، لا تكون له فيه القيادة و الصدارة .
هكذا، أغلق ملف منتدى المستقبل العربي، قبل أن نفتحه ! .
لقد كانت هذه، على رأي ماوتسي تونج، مجرّد المحاولة الفاشلة رقم كذا .. لكنها لم تكن، و لن تكون الأخيرة .. في تقديري حينذاك على الأقل .

و إلى الرسالة التالية لنرى سرّ عدم القدرة و الرغبة في فهم الواقع الجديد

الثلاثاء، يوليو ٠٧، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل العربي

استجابة الأمير طلال

و القفز فوق التجارب الفاشلة

بعد نشر الموضوع، سافرت إلى الخارج لعدّة أسابيع، عدت لأجد دعوة للقاء الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي لم يكن لي شرف لقائه من قبل، و إن كنت قد سمعت الكثير من الصديق الراحل أحمد بهاء الدين عن فكره و حسّه السياسي النابض دائما . لقد اكتملت سعادتي بذلك اللقاء، عندما عرفت أن الهدف منه هو البـدء في تحقيق فكرة " جمعية مستقبل العالم العربي " .
و كما قلت من قبل، أننا كنّا في ذلك الوقت نتّخذ الإجراءات اللازمة لإشهار التجمّع الذي اقترحه دكتور رفعت لقوشة، و من ثم كنت أميل إلى أن نبدأ بكيان محلي، أو بكيانات محلية في البلاد العربية، تكون تمهيدا للكيان العربي الشامل . غير أن العقبات التي أثارتها وزارة الشئون الاجتماعية في وجه تسجيل نادي المستقبل أو جمعية المستقبليات، لم أكن أتصوّر مداها . و لقد جاءت دعوة الأمير طلال لتكوين جمعية مستقبل العالم العربي، في الوقت الذي توقّفت فيه الجهود من أجل تسجيل الكيان المصري، أشبه بالقفزة فوق تجربة الفشل المحلية هذه .

من أين نبدأ ؟

في ذلك اللقاء، قال الأمير طلال أنه يسعى إلى تحقيق هذه الفكرة منذ سنوات، و أنّه ناقشها مع المرحوم دكتور لويس عوض، و مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، و مع الصديق الراحل أحمد بهاء الدين، على مدى هذه السنوات، غير أن النقاش لم ينتهي إلى خطوات عملية . و قال أنه قرأ ما كتبته في مجلة المصوّر عن " جمعية مستقبل العالم العربي "، و أنه يريدني أن أبدأ معه خطوات تحقيق هذه الفكرة . ثم سألني الأمير : من أين نبدأ ؟ .
عرضت بأن نبدأ بإعداد ورقة حول الفكرة، تطرح تصوّرا مبدئيا لمبررات قيامها، و أهدافها، و مجالات نشاطها، و الخطوات التنفيذية المطلوبة، على أن تخضع هذه الورقة للمناقشة و الحذف و الإضافة و التعديل، حتّى نصل آخر الأمر إلى التصوّر الأكمل .
في البداية، كنت أميل إلى أن تقتصر مناقشة الورقة على مجموعة محدودة من المفكّرين العرب، لكني وجدت ـ بعد إمعان التفكير ـ أنّه من المفيد طرح الموضوع على نطاق واسع من المفكّرين و الكتّاب و أصحاب الاهتمـام العام في العالم العربـي، مع فتح باب المناقشـة على صفحات المصوّر، ممّا يتيح أوسع مساهمة، تضع بين يدي المجموعة المحدودة تنوّعا أكبر من التوجّهات، و نطاقا أوسع من الأفكار .

و فيما يلي نص الورقة التي طرحت للنقاش العام :

" جمعية مستقبل العالم العربي "
أفكار للمناقشة

أولا : المبرّرات.. لماذا هذه الجمعية ؟
( 1 ) التغيّرات العالمية المتسارعة، لا يمكن اعتبارها تغيّرات كمّية، لأنّها تشير إلى تحوّل أساسي في حياة الجنس البشري، اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا . و هي أشبه ما تكون بالتحوّلات المجتمعية التي تمت من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية، إلاّ أن التحوّلات الحالية أعظم و أكثر تسارعا .
( 2 ) الأسس التي سادت العالم، على مدى القرنين الماضيين، من سنوات لمجتمع الصناعي، بدأت تنسحب مفسحة المجال لأسس جديدة، تنبع من مجتمع جديد، هو مجتمع المعلومات .
( 3 ) التعامل مع مشكلات اليوم، أو التخطيط للمستقبل القريب أو البعيد، وفقا للأسس التي كانت شائعة على مدى القرنين الماضيين، لن يقود إلاّ إلى المزيد من المشكلات و الفوضى . لهذا، كان من المهم جدا بالنسبة إلى أي بلد ـ و بلد عربي بصفة خاصّة ـ أن ينطلق في حركته، على أساس فهم لخريطة التغيير المتكاملة، بكل مؤشّراتها متبادلة التأثير، و ليس اعتمادا على التناول الآحادي لعناصر التغيير .
( 4 ) العالمية ( جلوباليزم)، هي سمة أساسية من سمات مجتمع المعلومات، على مختلف المستويات، اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا . لهذا، لم يعد بإمكان أي بلد عربي أن يفكّر في حلّ مشكلاته أو في تطوير أوضاعه، بمعزل عن الفهم التفصيلي لمستقبل التغيّرات العالمية .
( 5 ) الاهتمام بالرؤية المستقبلية، و بتفهّم خصائص مجتمع المعلومات، يكون متزايدا في الدول المتطوّرة . و في العالم العربي ما زال هذا الاهتمام ضعيفا للغاية . حتّى على مستوى المفكّرين و المثقفين، تجري ممارسته المحدودة داخل جزر معزولة، ممّا لا يسمح للجهود في هذا المجال أن تتراكم .
( 6 ) نتيجة لهذا الفراغ الفكري، و هذا الضعف الشديد في التوجّه المستقبلي، لا تكون تحت يد صانع القرار في البلاد العربية الرؤية المستقبلية المتكاملة، التي تساعده على اتخاذ قراراته، بحيث تجيء متكاملة و سديدة و في الوقت المناسب .
ثانيا : أهداف الجمعية .
( 1 ) إشاعة الفهم السليم لحقيقة التحوّلات الحالية، و نشر الوعي المستقبلي بين أبناء الوطن العربي
( 2 ) استحداث و تبنّي الدراسات و البحوث التي تساعد على الفهم المستقبلي المنشود .
( 3 ) تحقيق التكامل بين الجهود المستقبلية للأفراد و الهيئات و الجماعات العاملة في هذا المجال بالوطن العربي، و ربطها بالنشاط الموازي عالميا .
( 4 ) السعي إلى نشر المعارف المستقبلية على أوسع نطاق في العالم العربي، اعتمادا على وسائل النشر و التثقيف و الإعلام، و تنظيم الدورات الدراسية .
( 5 ) وضع الرؤى المستقبلية لتنمية البلاد العربية، و تقديمها إلى جهات اتخاذ القرار، للاستفادة منها عندما ينعقد العزم على إعادة البناء، و كذلك إجراء تطبيقات على هذه الرؤى، للتعرّف على مستقبل كلّ مجال من مجالات النشاط البشري .
ثالثا: مجالات النشاط .
( 1 ) التنسيق بين الأفراد و الجماعات و الهيئات التي تهتم بالمستقبل و بدراساته، في العالم العربي
( 2 ) تنظيم المؤتمرات و الندوات و دورات دراسة المستقبل في العالم العربي، و دعوة المفكرين المستقبليين العالميين للتحاور مع نظرائهم العرب .
( 3 ) حضور المؤتمرات و الندوات المستقبلية العالمية، و إقامة علاقات متبادلة حيّة مع هيئات النشاط المستقبلي في العالم .
( 4 ) إصدار نشرة دورية مستقبلية، و مجلة أبحاث فصلية، و الكتب المستقبلية المؤلّفة و المترجمة
( 5 ) السعي لإشاعة التفكير الناقد و الابتكاري، و التوجّه المستقبلي، في التعليم العام، عربيا . و إفساح مساحات أوسع للحديث المستقبلي في وسائل الإعلام، و الدعوة إلى إنشاء أقسام للدراسات المستقبلية في الجامعات العربية .
رابعا : خطوات التنفيذ .
و قد تضمّن هذا القسم خطوات إجرائية، حول اختيار أمين عام مؤقّت للجمعية، و النواة الأولى للجمعية التي تتولّى دراسة ورقة العمل و آراء المفكّرين في تفاصيلها، تمهيدا لوضع مشروع ما يمكن أن نطلق عليه " البيان المستقبلي العربي " . و تساهم هذه النواة في اختيار الأعضاء المؤسّسين للجمعية، مع مراعاة تمثيل مفكّري البلاد العربية بقدر الإمكان . ثم الاتفاق على الصياغة الأخيرة للبيان المستقبلي .
و قد تضمّن هذا القسم ما يتّصل بتكوين الجهاز التنفيذي للجمعية، الذي يشرف على نشاطها اليومي، و على متابعة الخطّة السنوية التي اعتمدها المؤسسون .
* * *

عندما تلقيت دعوة الأمير طلال بن عبد العزيز للبدء في تكوين جمعية المستقبل العربي، تردّدت لعدّة أسباب . من بينها رغبتي في التدرّج عند إنشاء الكيانات المستقبلية، جمعية لمستقبل مصر، و جمعيات لمستقبل البلاد العربية في كل مكان، و بعد ذلك يمكن الدخول في تأسيس جمعية للمستقبل العربي . و أيضا تباين أوضاع الدول العربية، ممّا يجعل من الصعب تصوّر رؤية مستقبلية واحدة لجميع الدول العربية . لقد كنت أميل دائما إلى أن نبدأ بجهد مصري، لاكتشاف منهج الوصول إلى الرؤية المستقبلية المصرية، يصلح أن يعتمد عليه المفكّرون العرب في الدول الأخرى كمنهج، إذا رغبوا في ذلك .
أمّا السبب الأكبر لتردّدي، فهو اقتناعي بأن الأسس المجتمعية للدول العربية تختلف كثيرا عن بعضها البعض، رغم كثرة الروابط التقليدية المشتركة بين الشعوب العربية . و تعبير الأسس المجتمعية، أو الخريطة المجتمعية، أقصد به النسب بين ما تأخذ به الدولة من أسس و قيم المجتمعات الزراعية و الصناعية و المعلوماتية .. ما يصلح للدولة التي ما زالت تعتمد على الزراعة أساسا، و من ثمّ تأخذ بالنظم و الأسس و القيم الخاصّة بالمجتمع الزراعي، لا يصلح لدولة أخرى أخذت بأسباب الإنتاج الصناعي بشكل قوي، أو الدولة التي قطعت شوطا في الدخول إلى مجتمع المعلومات . هذا بالإضافة إلى سبب ثالث ، هو تخوفّي الطبيعي من التعامل مع الأمراء و الملوك و الرؤساء العرب، حتّى لا أحسب ضمن زمرة رجال الإعلام و الثقافة و الفكر الذين سعوا إلى التعامل معهم .

و إلى الرسالة التالية لنرى كيف استقبلت الريادات العربية هذه الدعوة

الاثنين، يونيو ٢٩، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

حكايتي مع المستقبل

بين مستقبل مصر ..
و فكر شباب المحلة الكبرى

من أجل تحقيق ذلك الحلم، تحمّست لفكرة نادي المستقبل، ثم لجمعية مستقبل مصر التي طرحها أيضا الصديق د. رفعت لقوشة للمناقشة على صفحات " مستقبليات " في المصوّر . و شاركت في الاجتماع التأسيسي من أجل إشهار الجمعية، غير أن وزارة الشئون الاجتماعية أثارت العقبات واحدة بعد الأخرى، و لم أعرف حتّى الآن سببا لذلك، و أغلب الظن أن المسئولين في الوزارة تخوّفوا من حكاية المستقبل هذه، فنحن نخاف ما نجهله ..
ثم كان خطاب الشاب المستنير فتحي عبد الحميد، من المحلّة الكبرى، و قد نشرت نصّ الخطاب في باب " مستقبليات "، لكي يرى القارئ أبعاد الوعي المستقبلي الكامن بين شباب مصر، الذي يعيش في الأقاليم، بعيدا عن صخب العاصمة، دون أن تغيب عنه حركة الفكر المصري . لقد فوجئت بارتفاع مستوى الوعي المستقبلي عند ذلك الشاب، و وجدت في خطابه ردّا مفحما على أولئك المتشائمين المتقاعسين الذين لا يرون أي جدوى في الحديث عن المستقبل أو التفكير فيه .. فماذا قال ابن المحلّة الكبرى ؟ ..
قال بعد المقدمات :
لست أدري من أين أبدأ، لكنّي سأدخل مباشرة في لبّ الموضوع و هو ( مجتمع المعلومات )، و الذي لكم الفضل في طرح الأفكار المتعلّقة به، و تلخيص آراء معظم المفكّرين المستقبليين مثل توفلر و ماسودا .. إلى آخر القائمة . و رغم خطورة و أهمّية هذا الأمر المتعلّق بمستقبل أمّة كاملة، إلاّ أنني لا أسمع صدى أو ردود أفعال حول ما تفضّلتم بطرحه خلال سنوات مضت .
كنت أمنّي النفس بأن الأفكار المستقبلية، و كيفية تحوّلنا من مجتمع صناعي إلى مجتمع المعلومات، ستصبح هي الشغل الشاغل للجميع، حكومات، أو أحزاب، أو مفكّرين .

محور الاشتباك هو الماضي

و مع الأسف الشديد، فإن الأحزاب و التيارات السياسية في مصر ما زالت غارقة حتّى النخاع في أوهام سلفية مزمنة، الكلّ مشتبك مع الكلّ، و محور الاشتباك هو الماضي، و الماضي وحده . أمّا الحكومة فهي مشغولة بمشاكل التعليم و البطالة و الإسكان و الديون .. إلخ، و المفكّرون غارقون في تحليل الوضع الراهن بحثا عن حلول للمشاكل، مرتكزين على ثوابت عصر شمسه آيلة للغروب، تمهيدا لبزوغ شمس عصر جديد، هو عصر الثورة العلمية و التكنولوجية، بكل مقوماته و أسسه التي تختلف تماما عن مقومات و أسس عصر الصناعة .
يتحدّث الجميع عن انتصار الرأسمالية على الشيوعية، دون أن يدركوا إن مجتمع الغد سيسحب البساط من تحتهما معا .

جمعية مستقبل العالم العربي

سأطرح على سيادتكم اقتراحا، أرجو أن ينال اهتمامكم، إذا كان يستحقّ ذلك :
بداية، فإن يدا واحدة لا تصفّق، و لا يكفي أن يتصدّى للكتابة عن المستقبل مفكّر واحد، هو راجي عنايت، فالمهمّة كبيرة و تحتاج إلى جهد جماعي . و يكفيك شرف الاستمرار وحدك حتّى الآن، حاملا مشعل التبشير بمجتمع المعلومات. و لكن، تبقى المشكلة، و هي كيف نحوّل تلك الأفكار المستقبلية العظيمة إلى منهج عمل ؟، كيف نجذب إليها مفكّرين و سياسيين من العالم العربي كلّه ؟، كيف نوسّع دائرة المعرفة بها بين أكبر عدد ممكن من الشعوب العربية ؟ .. هنا يأتي اقتراحي :
هناك الآن " جمعية مستقبل العالم "، و سيادتكم تحضرون مؤتمراتها السنوية، مع المفكرين المستقبليين من أنحاء العالم .. لماذا لا نؤسّس ( جمعية مستقبل العالم العربي )، و ندعو لعضويتها مفكرين من كلّ الأحزاب و التيّارات السياسية العربية و مفكّرين و علماء من جميع التخصّصات .. على أن يترك الجميع أرديتهم الحزبية و القطرية عند باب هذه الجمعية ؟ .
سيكون لهذه الجمعية هدف أساسي هو ( صياغة المشروع الحضاري القومي المستقبلي )، و ذلك وفقا لمبادئ و أسس مجتمع المعلومات . بالإضافة إلى مهام أخرى فرعية، مثل إصدار مجلة للفكر المستقبلي، و ترجمة معظم الكتب المستقبلية، و عقد مؤتمر سنوي للمستقبليين العرب، و الدعوة لإنشاء أقسام متخصّصة للدراسات المستقبلية في الجامعات العربية، إلى آخر ذلك .
المهم، أننا سنسعى جاهدين لكي تتراكم الأفكار المستقبلية، حتّى نستطيع صياغة المشروع الحلم . و حتّى تنهض الجمعية بأعبائها، قد يكون من الملائم أن ندعو لعضويتها بعض الشخصيات العربية المهمومة بمستقبل هذه الأمّة، كالأمير طلال بن عبد العزيز رئيس مجلس الطفولة و التنمية، و دكتورة سعاد الصباح، و غيرهما .
عموما، المهمّة شاقّة، و تحتاج إلى مجهود مضن، لكن نبل الهدف يستحقّ منّا أن نحاول جادّين إخراج هذه الجمعية إلى النور، لتكون تعبيرا عن جهد شعبي عربي غير حكومي، مستهدفين وجه الله و الوطن .
و إذا كان كلّ من يتعاطون السياسة و الفكر في العالم العربي يتحدّثون عن أزمة غياب المشروع
الحضاري، فإن هذه الجمعية ستكون مهمومة بصياغة هذا المشروع .
عموما يا سيدي، إذا كان اقتراحي سيحوز موافقتكم، فإنه يشرّفني أن أكون أول المنضمّين لهذه الجمعية . فقد كان لكتاباتكم المستقبلية الفضل في تغيير اهتماماتي، من إنسان يتعاطى السياسة، إلى إنسان يتعاطى المستقبل عن فهم و اقتناع .
و لكم خالص تمنياتي .

فتحي عبد الحميد
باحث اجتماعي بمديرية أوقاف الغربية

تعليقي على الخطاب

أكرر تحيّتي للأستاذ فتحي عبد الحميد، و تقديري لحماسه القائم على الفهم السليم .. و أطمئنه إلى يقيني بأن يدا واحدة لا تصفّق .. و إلى أن كتاباتي و مساهماتي في الندوات و المحاضرات و المؤتمرات تكشف لي ـ يوما بعد يوم ـ تضاعف عدد الفاهمين، الملتزمين بالتوجّه المستقبلي . و هذا هو سرّ حماسي لتأسيس " نادي المستقبل " الذي دعا إليه دكتور رفعت لقوشة، أستاذ الاقتصاد بجامعة الإسكندرية
و أعتقد أن الخطوات التي تتخذ لإشهار نادي المستقبل، ستتيح للأستاذ فتحي و غيره من المتحمسين، أن يجدوا مجالا لتعميق أفكارهم المستقبلية، و إجراء الحوار المثمر، الذي يفيد في فهم حقيقة واقعنا، و طبيعة المشاكل التي نعاني منها، و مدى ارتباطها ببعضها البعض، و السبيل إلى حلّ هذه المشاكل بشكل حقيقي و دائم، و تجاوز التخلّف الذي فرض علينا، أو ارتضيناه لأنفسنا، و الدخول إلى القرن الحادي و العشرين من موقع أفضل ممّا نحن عليه .
و أعتقد أن نادي المستقبل سيتمكّن من تحقيق المهام التي أوردها الأخ فتحي باعتبارها مهام فرعية، و التي أراها من المهام الأساسية، التي يصعب بدونها القيام بصياغة المشروع الحضاري القومي المستقبلي، أعني بذلك مهام إصدار مجلة للفكر المستقبلي، و ترجمة الكتب المستقبلية، و عقد المؤتمرات المستقبلية . و إذا كان نادي المستقبل سيقتصر في الأغلب على أبناء مصر، في البداية على الأقلّ، فأنا لا أرى ما يمنع أن تنتشر النوادي المستقبلية في الدول العربية، على يد ريادات الفكر المستقبلي فيها، ممّا يتيح في المستقبل القريب تكوين " جمعية مستقبل العالم العربي "، التي يمكن أن تتحمّس لها الشخصيات العربية، كالأمير طلال بن عبد العزيز، و دكتورة سعاد الصباح، و الأمير الحسن بن طلال .

و إلى الرسالة التالية، لنرى استجابة الأمير طلال

الاثنين، يونيو ٢٢، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل


أنصار المستقبل

دكتور إبراهيم حلمي ..

و ضحكات التخريمة الحضارية !


غير أن خبراتي مع القرّاء، لم تكن أبدا بهذه السلبية التي وجدتها عند الساسة و المتنفّذين البيروقراطيين، لقد اكتشفت جمهورا واسعا من القراء المستنيرين الراغبين في المزيد من فهم الواقع الصادق لحياتنا الحالية، و عناصر التغيير الشامل التي نمر بها، و شكل حياتنا القادمة التي يرسمها .
و في البداية حاولت أن ألتقي بمن سبقوني إلى خوض مجال التفكير المستقبلي، لكي أستفيد من خبراتهم، و لكي أحاورهم لأمتحن الفكر الذي أطرحه على محكّ خبرتهم و معارفهم .
و من بين الذين أفادني حوارهم كثيرا، المفكّر الراحل د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن، وزير التخطيط الأسبق، و أحد مؤسّسي اتّحاد دراسات مستقبل العالم . كنت أسعى إلى زيارته في منزله بصحبة السفير الراحل تحسين بشير، الذي كان صديقا قديما له .
عندما كنت أعرض عليه أفكاري، و تصوّري لكيفية اقتحام مصر، و باقي الدول النامية، لعصر المعلومات، توقّف طويلا عند حديثي عن إمكان الانتقال إلى مجتمع المعلومات، قبل اكتمال نموّنا الصناعي . عدت أطرح تصوّري، فقال ضاحكا " أنت تعني أن نقوم بتخريمة حضارية ؟! .."، فضحكت معه و أنا أقول " فعلا .. قد لا أعرف الآن الآليات التي يتحقق بها هذا، و لكنّي واثق أن تأجيل دخولنا إلى عصر المعلومات إلى حين استكمال نموّنا الصناعي، سيوقعنا في تخلّف صناعي معلوماتي مركّب .." . كان حوار الدكتور إبراهيم معي حول هذه النقطة، هو الذي جعلني أولي اهتمامي الشديد ـ بد ذلك بسنوات ـ بحديث المفكّر الياباني ماسودا في مؤتمر سالزبورج، حول التنمية الآنية المزدوجة الصناعية المعلوماتية، لدول العالم الثالث .
لكن هذا المجال الخارجي له حديث آخر ..

* * *

مع انتظام ظهور باب " مستقبليات " في مجلة المصور، كنت أسعد باتصال و لقاء العديد ممن استجابوا لرؤيتي المستقبلية، حول التغيّرات و التحوّلات التي يمرّ بها البشر، و التي تصنع مجتمع المعلومات .. كان من بينهم شباب في مقتبل حياتهم العملية، و أساتذة و مفكّرون قرأت لهم و لكن لم أكن قد حظيت بفرصة اللقاء الشخصي معهم .
من أوائل الذين اتّصلوا بي من الشباب، فتحي عبد الحميد و محمد شلبي، و من الأساتذة و المفكّرين و الكتّاب المهندس الراحل حافظ أمين، و د. رفعت لقّوشة، و د. محمود جبريل، و د. محمود محفوظ .

اللقاء الأوّل مع طلبة الثانوي

اتّصل بي الشاب محمد شلبي، ثم زارني بالمنزل، و عرفت أنه مدرّس لغة عربية بمدرسة ليسيه الحرّية بالإسكندرية . قال أنه يتابع كتاباتي في المصوّر، و أنه قد قرأ ما صدر من كتبي عن المستقبل، و جاء مفوّضا من إدارة المدرسة يدعوني لحوار عن المستقبل مع طلبة الثانوية العامة بالمدرسة . و أضاف قائلا أن الطلبة يريدون مناقشتك في كتابك " العالم سنة 2000 " بالتحديد .
لم يستمر تردّدي طويلا نتيجة للحماس الشديد من جانب محمد شلبي، فوافقت . و في اليوم المحدد سافرت إلى الإسكندرية، و قبل الوقت المحدّد كنت أقف بسيارتي أمام مدخل المدرسة . فوجئت بالمظاهرة التي رتبها محمد شلبي.. طلبة الثانوية من البنين و البنات يقفون على جانبي الدرج الذي يقود إلى داخل المدرسة، يصفّقون على سبيل التحية .. و أنا امضي متقدما كاتما ضحكتي لهذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه .
المهم، أنه عندما التقيت مع التلاميذ في المدرج، و بدأت تساؤلاتهم، اكتشفت أنهم قد قرءوا الكتاب بالفعل، و أن أسئلتهم تكشف عن فهم ملفت ! . و بقي اندهاشي، حتّى قال لي شلبي أنه اختار هذا الكتاب لبرنامج القراءات الحرّة، و أنه قد ناقشهم فيه على مدى عدّة أسابيع .
بقي الشاب المتحمس محمد شلبي على صلة دائمة بي، و تابعت نشاطاته، و تغيّرات مسار عمله، عندما ترك التدريس للعمل في برامج الكمبيوتر، ثم جهوده في تجهيز برامج الجامعة المفتوحة بكلية التجارة بالإسكندرية .. ثم عمله كخبير في التفكير الابتكاري بجامعة الدول العربية ، و أخيرا انضمامه آخر الأمر إلى "جيتراك "، مركز التدريب و الاستشارة، ثم عمله كخبير ابتكاري في العالم العربي .

نادي المســتقبل

عندما لمست حماسا للفكر المستقبلي لدى العديد من القراء، طرحت فكرة تكوين كيان أو مجموعة تفكير أو جماعة بحث، تتبادل الأفكار حول الرؤية المستقبلية التي تفيد في إعادة بناء حياتنا، بما يتيح لنا أن نتجاوز صفة التخلّف التي لحقت بنا طويلا .
و كانت الاستجابة الأولى، من الدكتور رفعت لقوشة، الأستاذ بجامعة الإسكندرية،طرح فيها صيغة إقامة " نادي المستقبل "، حتى يبعد بالتجمّع المنشود عن الصفة الحزبية، و يضفي عليه صفة التجمّع الثقافي، الذي يتيح الحوار و تبادل الأفكار حول المستقبل بشكل عام، و حول مستقبل مصر بشكل خاص . و قد حظي اقتراح د. لقوشة بحماس عدد من المتحمسين لفكرة البحث المستقبلي، من الشباب و الكبار . و قد أفردت باب " مستقبليات " في المصوّر لمساهمات جميع الذين رغبوا في طرح أفكارهم المستقبلية أو التنظيمية . كنت أسعى من وراء هذا إلى أن نتوصّل إلى صياغة بيان مستقبلي، يساعدنا على وضع رؤية مستقبلية بديلة للواقع المصري الحالي، تصلح أساسا لعملية إعادة بناء استراتيجية، تتيح لنا أن نلحق بركب المجتمعات الساعية إلى اقتحام مجتمع المعلومات من أوسع أبوابه .

الرؤية البديـلة

و من أجل توضيح أهمية الرؤية المستقبلية البديلة، كتبت قائلا أن النظام ـ أيّ نظام ـ سواء كان نظاما سياسيا ( حكومة )، أو نظاما اقتصاديا ( شركة ) ، أو نظاما كيميائيا ( مركّب كيميائي )، أو نظاما بيولوجيا ( جسم الإنسان )، يتعرّض دائما لنوعين من الضغوط : ضغوط داخلية و ضغوط خارجية .
و لنأخذ، على سبيل المثال، نظاما اقتصاديا، مؤسّسة أو شركة ما . هذه المؤسّسة تحقّق نموّها في وجه ضغوط داخلية ( تنظيمية أو إدارية أو عمّالية )، و ضغوط خارجية ( مؤسّسات منافسة، تغيرات في النظام الضريبي العام أو الجمارك، تغيرات في أسعار الصرف، مشاكل في البيئة ) . و من المعروف في دنيا الاقتصاد أنّه إذا ما وصلت الضغوط الداخلية إلى حدّ معين، مع تصاعد الضغوط الخارجية إلى حدّ معين، ينهار النظام، و تتبدّد المؤسّسة .
المخرج الوحيد لهذا الوضع المأساوي، هو أن تكون لدى تلك المؤسّسة رؤية بديلة شاملة، يمكن أن يعاد بناء المؤسسة بالكامل على أساسها، لإنقاذها من مأزق الضغوط المزدوجة الواقعة تحت تأثيرها .
و نفس الشيء ينطبق على الحكومة . أي حكومة من الحكومات التي تعاقبت على مصر، لم تكن لديها الجرأة لإحداث تغييرات جذرية تتوافق مع التغيّرات الكبرى التي يمرّ بها العالم، و التي تستجيب لها الدول المتطوّرة قدر طاقتها . و عندما كنت أطرح في محاضراتي أو لقاءاتي الأسس الجديدة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مجتمع المعلومات، كانت ردود فعل الحاضرين تتراوح بين اليأس و الغضب، و هم يتساءلون " متي ينتبه صناع القرار في مصر إلى ما تطرحه من حقائق ؟، و هل تعتقد أنهم سيستجيبون يوما ما لما تفرضه حقائق التحوّل من تغييرات و عمليات إعادة بناء ؟ .." .
كنت أعترف لهؤلاء بأنني لا أعرف إجابة عن هذه التساؤلات، و لكن الذي أعرفه جيدا، أن تصاعد التغيّرات النابعة من التحوّل إلى مجتمع المعلومات، سيقود إلى تصاعد الضغوط الداخلية و الخارجية، على النظم الحاكمة في العالم بدرجات متفاوتة، و أن ما أسعى إليه من كتاباتي و محاضراتي، هو أن أشيع الوعي بأهمية التفكير المستقبلي، و بأهمية طرح رؤية مستقبلية شاملة نابعة من مصالحنا و فهمنا، و بضرورة تكاتف أصحاب الفكر المستقبلي و سعيهم إلى وضع إطار بيان مستقبلي، يمكن لصانع القرار الحالي، أو من سيحلّ محلّه، أن يلجأ إليه عندما تتصاعد الضغوط، مهدّدة بالانفجار ..! .

و إلى الرسالة التالية، لنرى نتائج محاولة تعميم الفكرة على العالم العربي .

الاثنين، يونيو ١٥، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

عندما ينتصر السياسي على المفكّر ..

وزير التعليم، و توجيهات الرئيس..

و أربعة ملايين كاد يفقدها مكرم محمد أحمد


كانت قد مضت أيام على تولّي د. حسين كامل بهاء الدين لوزارة التعليم، عندما دعاني إلى لقاء مسائي في الديوان القديم للوزارة، ليناقش معي ما كتبته عن التعليم و الطب . خلال ذلك اللقاء أحسست أنّه لم يقرأ جيّدا ما كتبته، و أنّه منشغل العقل بالوزارة و ترتيباته الشخصية . لقد دخلت ذلك اللقاء متفائلا، و خرجت منه و قد فقدت الكثير من ذلك التفاؤل، نتيجة لإحساسي بأنّه يستجيب لنوازع السياسي، أكثر ممّا يستجيب لدواعي الفكر الموضوعي .
كان ذلك اللقاء الخاص مع الوزير حسين كامل بهاء الدين هو الأوّل و الأخير . فمن خلال كتاباتي عن الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، كنت أتناول مختلف مجالات النشاط البشري، و من بينها التعليم، لكنّي شعرت أنه يستجيب بحساسية مرضية لما أكتبه عن التعليم، رغم قولي أكثر من مرّة أن مشكلة التعليم في مصر ليست من صنع أي وزير من وزراء التعليم

الشكاوى .. و الضغوط !

كلّما كتبت شيئا عن التعليم، كان الوزير يبادر بالشكوى لرئيس التحرير . و للحق، كان رئيس التحرير، الأستاذ مكرم محمد أحمد، يستمع إلى الشكوى، و لا يبلغني بها في أغلب الأحيان . إلى أن واجهني رئيس التحرير ذات يوم، راجيا سحب مقال لي عن التعليم في عصر المعلومات، بدعوى أن الوزير قد توقّف عن توقيع عقد طبع الكتب الملوّنة، المخصّصة لدار الهلال، نتيجة لكتابتي عن التعليم . و قال لي، ما كرّره عضو مجلس الإدارة المنتدب الأستاذ عبد الحميد حمروش، رحمه الله، من أن الدار ستخسر ما يصل إلى أربعة ملايين جنيه، بعدم توقيع الوزير لذلك العقد . و طلب منّي الأستاذ مكرم، تأجيل تقديم الموضوع لما بعد توقيع العقد .
لم أشأ أن أتسبب في هذه الخسارة للدار، فسحبت الموضوع، و لم أعد إلى تقديمه .

خطاب مبارك في احتفال دار العلوم

في الاحتفال بمرور 120 سنة على إنشاء دار العلوم، ألقى الرئيس مبارك خطابا، طالب فيه كل مصري و مصرية بأن يهتم بمستقبل العلم و الثقافة . و من بين التوجّهات الأساسية في الخطاب :
· التعليم و الثقافة في طليعة أولويات و هموم مصر .
· التعليم هو ركيزة التقدّم، و العنصر الذي يحكم قدرتنا على مواجهة تحدّيات العصر .
· المجتمع البشري يشهد في هذه المرحلة من تاريخه ثورة علمية و تقنية هائلة، تمتدّ إلى شتّى جوانب الحياة، و تصوغ تصوّرنا جميعا للمستقبل .
· التحـدّي الحقيقي، هو تنمية قـدرات الطالب الذهنية، بحيث يصبح مؤهّلا لاستنباط المعلومات و تحليلها، و الانطلاق منها إلى آفاق جديدة في الزمان و المكان . و بذلك يصبح أكثر قدرة على التعامل مع هذا العالم المتغيّر .
و في اليوم التالي، استقبل الرئيس وزير التعليم، و طالبه بضرورة تطوير المناهج بما يتماشى مع طبيعة العصر و تحدّياته .

هل يستطيع وزير التعليم ؟

سعدت بتوجّهات الرئيس مبارك، و كتبت معلّقا :
" بداية .. أتّفق مع الرئيس مبارك في كلّ ما استخلصه في خطابه .
و بداهة .. أن هذا الذي يدعو إليه ليس متحققا في التعليم المصري الحالي .
و أمانة .. يعتبر التعليم في مصر، دون نقطة الصفر، حتّى بالمقاييس القديمة .
و هذا يعني .. أن ما نقوله يجب ألاّ يشكّل حساسية ما لدى د. حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم، فليس هو من أوصل التعليم في مصر إلى هذا المستوى المتدنّي، الذي نعاني منه .
و لكن هذا لا يمنع أنّ على وزير التعليم أن يتصدّى لمهمتين في نفس الوقت : الأولى تتعلّق بجهد تنفيذي تقوم به وزارته، من أجل رفع مستوى التعليم المصري إلى نقطة الصفر . و الثانية تتعلّق بجهد فكري علمي فلسفي، يستهدف وضع استراتيجية طويلة المدى لتحقيق الأحلام التي طرحها الرئيس .. " .
و قلت أنّه إذا كانت إمكانات الوزير لا تسمح له بأن يقوم بالمهمّة الثانية، نتيجة للجهد الشاق المطلوب لتحقيق المهمّة الأولى، يصبح من الضروري أن تتكفّل قيادة مصر بالمهمة الثانية، من خلال مجموعة من المفكّرين ـ و لا أقول خبراء التعليم ـ يتوفّر فيهم الفهم الشامل لحقائق العصر، و إدراك الآثار المجتمعية لثورة المعلومات، في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .
ماذا كانت حصيلة هذا كلّه ؟ ..
الاستجابة الوحيدة، كانت مقالا في جريدة الأهرام، كتبه أستاذ جامعي، كان ضمن رجال الوزير في ذلك الوقت، ثم انقلب عليه ! . كان مقال ذلك الأستاذ ردا على مقال لي توجّهت فيه بالحديث إلى د. مصطفى خليـل، مقرّر لجنة الحـوار الوطـني، و كرّرت فيه ما سبق أن قلته من أن التصدّي لإعادة بناء الاقتصاد أو التعليم أو الإدارة، يحتاج إلى رؤية مستقبلية شاملة للتغيير الجذري الحادث في حياة البشر . و في مجال التعليم، قلت أنّ إعادة بناء التعليم لا ينفع فيها التطوير و الإصلاح، بل يحتاج إلى نفس الثورية التي يحتاجها إعادة البناء في مجالات الحياة الأخرى . و تعقيبا على مقال ذلك الأستاذ الذي قال فيه أن الثورة تعبير مستهلك (!)، كتبت مقالا أشرح فيه وجهة نظري، و أناقش بعض ما أورده في مقاله . لكن يبدو أن التوقيت لم يكن مناسبا للكلام عن التعليم، في مرحلة توقيع عقود حصّة دار الهلال في طبع الكتب المدرسية، فرفض الأستاذ مكرم محمد أحمد نشر الموضوع .

بفضل توجيهات السيد الرئيس !!

ظلّ هذا هو موقفي في دار الهلال، أكتب ما أكتبه معبّرا بصدق و صراحة عن آرائي، فيوافق رئيس تحير المصوّر، الأستاذ مكرم محمد أحمد، على النشر، أو يرفض، فيعاد الموضوع إلى، ليدخل ضمن ملف المرفوضات . فقد كنت أدرك أن الدعوة إلى إعادة بناء مصر تحتاج إلى الصبر و النفس الطويل . و لم أعد للكتابة عن مستقبل التعليم، إلاّ عندما قدّم التلفزيون حلقة من برنامج جديد، هو برنامج " واجه الصحافة "، و قد جمعت الحلقة بين وزير التعليم د. حسين كامل بهاء الدين و بعض القيادات الصحفية .
حاول الوزير أن يقصر الحديث على الثانوية العامة الجديدة و القديمة، و على موضوع إضافة سنة إلى التعليم الابتدائي و حاول أن يزيّن حديثه بين الحين و الآخر، بالإشارة إلى الموجة الثالثة و آلفن توفلر و مجتمع المعلومات . و أنا على يقين من أن د. حسين كامل بهاء الدين لو كان قد قرأ يتمعّن كتابات توفلر التي تحدّث فيها عن الموجة الثالثة، لفهم أن النظام التعليمي الحالي، عندنا و عند غيرنا، نظام آيل للسقوط، نتيجة لسقوط كل ما فرضه عصر الصناعة .
الأقل من السياسة و الأكثر من الفكر
كتبت حول هذا، و قلت إن المطلوب من د. بهاء الدين ـ بصفته وزيرا للتربية و التعليم ـ أن يخفّف من اندفاعه تجاه العمل السياسي، و يميل قليلا إلى اتّجاه الفكر، الذي هو مؤهّل له . فمثل هذا التوجّه سيخفّف من التناقض بين ما يقوله و بين ما يفعله . فالمعروف أن السـياسي ـ في جميع أنحاء العالم ـ لا يقول الحقيقة الكاملة، إلاّ فيما ندر .
كان من الممكن أن يتقبّل الوزير كلماتي هذه .. لكن يبدو أنني تجاوزت حدودي ، عندما نصحته في ذلك المقال بأن يخفّف من ترديده لتعبير " توجيهات السيد الرئيس "، خاصّة عندما بتحدّث عن تنظيمات تفصيلية أو فرعية .
قلت في مقالي " أشك في أن هذا يتم بدافع الغيرية و الإيثار .. فهل هو نوع من النفاق ؟، أم هي محاولة للتهرّب من المسئولية ؟ .. إذا ثبت أن قرار لإضافة سنة إلى التعليم الابتدائي لم يكن قرارا صائبا، هل نعفي الوزير من مسئولية اتخاذ القرار، باعتبار أنّه كان من توجيهات السيد الرئيس ؟! .. الذي أفهمه، أن رئيس الدولة ـ أي دولة ـ لا يكون خبيرا في الاقتصاد و التعليم و الإدارة و الصناعة و الإعلام و الثقافة و الصحّة و المواصلات .. و قد ابتدع نظام الحكومة و التمثيل النيابي لتوزيع مسئولية اتخاذ القرار في الدولة الحديثة، التي يتضمّن عملها قدرا هائلا من القرارات . و إذا كانت لرئيس الجمهورية توجيهات، فهي في مجال السياسة العليا و الاستراتيجيات و الرؤى .." .

مكرم، و الباب الذي يجئ منه الريح !

بعد أن نشر الموضوع في "المصوّر"، اكتشفت أنه لغياب الأستاذ مكرم رئيس التحرير، أو انشغاله، لم يكن قد قرأ الموضوع قبل نشره، فلم تتح له فرصة رفض النشر و إعادة الموضوع، لكي أضمّه إلى باقي المواضيع المرفوضة .
و كالعادة، تصاعدت شكاوى الوزير، و انصبّ اللوم ـ غالبا ـ على رئيس التحرير، الذي بدأ على الفور البحث عن سبيل لغلق ذلك الباب الذي يأتي منه الريح .. إلى أن فوجئت ذات يوم بموظف صغير في حسابات دار الهلال يخبرني بأن الأستاذ مكرم قد أنهى عقده معي، و أنني لم أعد أعمل في الدار !
كانت دهشتي كبيرة .. لهذا التصرّف من مكرم، بعد عملي لأكثر من ربع قرن في دار الهلال، جئتها بطلب من الصديق أحمد بهاء الدين، و قبل أن تصل إلى مكرم .. و أرجعت ذلك إلى نقص في الشجاعة منعه من مواجهتي، و ربما إلى بقية من الحياء . المهم أنني لم ألتق به منذ ذلك التاريخ حتى أناقش معه دوافعه ! .
لقد أغلق الباب الذي تأتي منه الريح، فاستراح، و حظي برضا الوزير الغاضب دائما .. فهل بقي هو أوالوزير ؟! .

و إلى الرسالة التالية لاستعراض الوجه المشرق للتجربة