الأربعاء، نوفمبر ٠٢، ٢٠١١

رسالة من حريص على مستقبل مصر

الخوف ... والثورة ... والعشق الممنوع
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية



لقد نجحت إدارة المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير المستنيرة بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في رفع مؤشر الخوف لدي الشعب المصري بدرجة ملحوظة حتى بدأت نبضات الفعل الثوري في الخفوت تدريجيا. ولكن هيهات هيهات، فلن تتعدى هذه الإستراتيجية مجرد تعطيلٍ لسرعة قطار الثورة حثي تتحقق أغراض خفية غير معلنة، يستنتجها بعضُ المحللين مثل تعطيل التحول الثقافي الديمقراطي المدني المنافي للثقافة العسكرية، واستمرار الحكم العسكري لفترة رئاسية انتقالية، وتبرئة مبارك وعائلته، والحفاظ على النظام السابق حتى التحقق من الخروج الآمن لشبكة جميع اللصوص الذين نهبوا ثروة مصر، والمحافظة المؤسسية على مكتسبات المؤسستين العسكرية والشرطية، والمحافظة على الهيبة والشرف العسكري بصفة أن مبارك كان القائد الأعلى للمؤسسة العسكرية، وهو برغم جرائمه التي جسدت الخيانة العظمى يمثل رمزا عسكريا يجب ألا يهان، وأخيرا الاستجابة للضغوط الرجعية لدول الخليج (باستخدام الجزرة) أو للضغوط القهرية من جانب إسرائيل والدول المساندة لها (باستخدام العصا).
الإنسان يخاف. غريزة طبيعية للبقاء. يخاف من شيء، كعدو مفترس، أو يخاف على شيء، كفقدان حياته أو فقدان مكتسباته وثرواته أو ضياع مستقبل أولاده. وقس علي ذلك بصورة عامة، أي الخوف من شيء أو الخوف علي شيء. وعادة ما يخاف الإنسان من شيء (أو أشياء) على شيء (أو أشياء). وتنطلق إستراتيجية المجلس العسكري المعطلة أو المجهضة للثورة من الخوف على شيء أكثر منه من الخوف من شيء. يخاف المجلس العسكري على مكاسبه العسكرية التي تهددها السيطرة المدنية للدولة، ويخاف على سيادة الثقافة العسكرية من سيطرة الديمقراطية والثقافة المدنية، ويخاف على شرف المؤسسة العسكرية من محاكمة رموزها.
وإذا كان المجلس العسكري يخاف على أشياء سبق ذكرها، فهو يحاول دفاعا عن نفسه إثارة الخوف من جانب الشعب، وعلى رأسه الثوار الأحرار والقوى الثورية والنخبة المثقفة والإعلام الحر بدرجة أعلى من الخوف الذي يعاني منه المجلس العسكري نفسه، وبذلك يضمن السيطرة على تلك القوى المثيرة لخوفه هو. تحاول إدارة المرحلة الانتقالية إثارة الخوف لدي الشعب من أشياء معينة أساسا وعلى أشياء معينة بصورة ثانوية.
تتبع إدارة المرحلة الانتقالية إستراتيجية إثارة الخوف لدي الشعب الثوري باتباع آليات معينة تتمثل في الإرهاب (بعدو مفترس) مثل قانون الطوارئ، والمحاكمات العسكرية، والأحكام السريعة، وإطلاق كلابها من البلطجية والقوى المندسة، وعدم هيكلة وزارة الداخلية، واستمرار نشاط أمن الدولة من خلال الأمن الوطني. وهناك آلية أخرى تتمثل في إضفاء بيئة من الضبابية الكثيفة بحيث تجعل الشعب لا يرى مستقبلا واضحا، ومن ثم يعاني من الخوف من المجهول، وهي ربما تكون أقوى آليات زرع الخوف، وهي التي تجعل الطفل يقول لأمه أنا لا أرى ولا أعرف، أما أنت يا أمي فتعرفين، ومن ثم فيلقي بنفسه في أحضان أمه مستسلما لقراراتها، وهي التي تجعل الشعب أيضا يقول لحكومته أنا لا أرى ولا أفهم، أما أنت يا حكومتي (وخاصة لو كانت مجسدة في قوة عسكرية) تعلمين، فيلقي بنفسه في أحضان حكومته مستسلما لقراراتها ومطمئنا إليها ونازعا الخوف من جانبه.
إذن، الخوف الآن من جانب الشعب والقوى الثورية هو أقوى أعداء الثورة، وهو الآلية المتبعة لإجهاض الثورة. كيف نقاوم تلك الآلية الشرسة، وكيف نمحو الخوف المعوق لانطلاق الثورة وتحقيق مطالبها؟ الإجابة في كلمتين بسيطتين، المعرفة والأخلاق.
أولا: بالنسبة للمجلس العسكري، يزول الخوف من جانب المجلس العسكري لو عرف (أو لو علم) أنه لو حقق مطالب الثورة وانحاز إلى الشعب دون سدنة النظام البائد، وهذا أمر أخلاقي، فإن الشعب سوف يرفعه على رأسه ويسجل التاريخ للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وللجيش المصري مجدا يُسطر بحروف نورانية أبدية. وليعلم أيضا وبما لا يدع مجالا للشك أن زمن سيطرة الحاكم، أو سيطرة مؤسسة معينة، جيشا أو شرطة أو قضاءً، تحت أي مبرر مهما كان قد ولى والحمد لله. فالشعب، جاهلوه قبل متعلميه، ونساؤه قبل رجاله، وشيوخه قبل شبابه قد ذاقوا الحرية وتعرفوا على طاقاتهم التي لا تقهر، ولن يرضى تسعون مليون مصريا بعد اليوم بظلم ولا قهر ولا استنزاف ولا عذاب ولا جحيم في ظل وجود قلة تنهش لحومهم وتهرس عظامهم وتطفئ آمالهم وتعذب عيالهم.
ثانيا: بالنسبة للشعب والقوى الثورية، وهذا هو الذي يهمنا في هذا المقال بالدرجة الأولى:
1. لابد أن يتحول العشق الممنوع من جانب أعضاء حزب الكنبة، وما يقال عنهم الأغلبية الصامتة، وذلك للثورة والحرية والديمقراطية ومصر العزيزة الأبية ومصر القوية إلى عشق ظاهر شرعي معلن وذلك من خلال المعرفة والرجاء والأمل والإصرار.
2. لابد أن يتأكد الشعب بثواره ونخبته وعامته أنه أكبر وأقوى من الحاكم مهما كانت قوته وجبروته، ولو أيقن الشعب ذلك زال الخوف لأن الأقوى لا يخاف من الأضعف. والدليل على قوة الشعوب صفحات التاريخ وزوال الحكام وبقاء الشعوب، وأقرب الدلائل على ذلك ما أحدثته ولا زالت تحدثه الثورات العربية في عهد الربيع العربي.
3. أثبتت الدراسات العلمية النفسية أن 90% من القلق الناتج عن الخوف لا محل له، ولا تتحقق مسبباته. ولذلك إذا كنت خائفا، مثلا، من سيطرة فقه المرأة والحيض والنفاس ومنع البكيني ومنع الراقصات ومنع الخمور وقمع النساء وإجبارهم على النقاب أو الحجاب فاحتمال حدوث ذلك لا يتعدى 10% فقط. وإذا حدث لن يكون واقعا، بقدر ما سيكون هناك صراعا ثقافيا داخليا فقط. وليعلم حملة التأسلم السياسي أنهم معدومو الرؤية المستقبلية، ولا يشعرون أنهم هم أنفسهم بامتهانهم للسياسة إنما يمارسون الانتهازية والتآمر والتحالف والتنازل، وليس أدل على ذلك من أن السلطات المباركية والحالية أيضا تتلاعب بهم وتحركهم كيف تشاء.4. مهما تعرضت البلاد لفوضى ما بعد الثورة، ومهما تأخر المجلس العسكري في تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، ومهما تشكلت الدولة ومؤسساتها بعد الثورة بحكومة مطعمة بالفلول ويسيطر فيها التيار السياسي المتأسلم، ومهما حدث من تنازلات لصالح المؤسسة العسكرية فالمستقبل مشرق والبداية نحو الحداثة والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية قد تحققت، وعلينا أن نطمئن تماما ونتأكد أن شبابنا وأولادنا وأحفادنا لن يعيشوا الحياة البائسة التي ابتلانا سبحانه وتعالى بها بقهر الحكام وفسادهم، ولكي نعلم الآن صدق كلمات المولى سبحانه وتعالي "إن مع العسر يسرا". وليس هذا بالكثير على مصر الحبيبة، فهي ليست أقل من دول أمريكا اللاتينية أو دول جنوب شرقي آسيا أو دول أوروبا الشرقية أو حتى بعض الدول الإفريقية، ونأسف لمصر الحبيبة فقد تخلفنا عنها كثيرا

السبت، فبراير ١٢، ٢٠١١

و نحن نعيد بناء مصر

هذه الكلمات كتبتها عام 2009، و ظهرت عام 2010 في كتاب " ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات "، و أطرحها اليوم ثانية و نحن نفكّر في إعادة بناء مصر، علّي أجد من يعيها و يستفيد منها- راجي عنايت
************

الديموقراطية المطلوبة لمصر =
تعليم + إعلام + مجتمع مدني


أخيرا .. نصل إلى السؤال الأصعب .. عرفنا ما تفكّر فيه المجتمعات المتقدّمة، و ما تحاول أن تفعله لتصيح مسار الحياة فيها .. فماذا عنّا نحن ؟.. و ماذا عن مستقبل الممارسة الديموقراطية في مصر، و المطلوبة لصالح شعبها ؟ . من أين نبدأ المسيرة، وسط ركام التخلّف و الفشل و الفساد الذي يرتفع حولنا ؟ ..
الواجب العاجل الذي يدعونا أن نتجّه إليه، لمساعدتنا في التخلّص من الأفكار البالية، و الأوهام التي ما زلنا نتمسّك بها، و طرق الحياة الأثرية التي نعتقد في صلاحيتها .. هذا الواجب ينحصر في ثلاثة أركان رئيسية، يمكن أن يصلح جهدنا فيها كرأس حربة في اقتحامنا لعصر المعلومات، و مساعدتنا في تصميم الممارسة الديموقراطية التي تناسب واقعنا الحالي ..
قلت من قبل ـ في بدايات هذا الكتاب ـ أن الرؤية المستقبلية لمصر، التي يمكن أن تساعدنا في إعادة بناء كل شيء في حياتنا، بطريقة تنقذنا من الأخطاء التي أدمنّاها، و ترشدنا إلى كل ما يأخذ بيدنا لدخول عصر المعلومات .. هذه الرؤية المستقبلية تقوم على أمرين :
أولا : وضوح الرؤية المستقبلية لمسار الجنس البشري في انتقاله من حياة المجتمع الصناعي، إلى حياة مجتمع المعلومات . ( هذا هو الهدف ) .
ثانيا : وضوح الخريطة الحضارية الراهنة لمصر، التي تكشف لنا بأمانة ( أين نقف ؟ ) .. و أعني بالخريطة الحضارية لمصر : إلى أي مدى ما زالت تسود حياتنا عقلية المجتمع الزراعي ؟، و ما حجم انتقالنا إلى الأخذ بعقلية المجتمع الصناعي ؟، و ما هو مدى اقترابنا من تخوم حياة مجتمع المعلومات ...
المحاور الأساسية للحركة :
المحاور الأساسية للحركة، التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق سليمة، في عملية إعادة بناء حياتنا السياسية، أي إعادة بناء نظام ممارستنا السياسية، أي ديموقراطيتنا . هذه المحاور هي :
· التعليم .
· الإعلام .
· المجتمع المدني .
سنحاول فيما يلي أن نشرح هذه المعادلة التي طرحناها، و التي نعتقد أنها ستساعدنا في عبورنا إلى المستقبل .. بشكل سليم و آمن .. و قائم على الفهم المتكامل لحقيقة الحياة الجديدة التي يمضي إليها الجنس البشري .

أولا : التعليــــم
و لكي نتعرّف على النظم التعليمية الجديدة في مجتمع المعلومات، يجب أن نستفيد ممّا فعله بعض المفكرين لفهم تعليم عصر الصناعة .. أي أن نحدد مواصفات الإنسان المنسجم مع الحياة في عصر المعلومات، و الذي يستطيع الاستفادة من كلّ ما تتيحه الحياة في مجتمع المعلومات، ثم نبني على ذلك الأسس الجديدة للنظم التعليمية .
إنسان عصر المعلومات :
إنسان عصر المعلومات ـ دون الدخول في الشروح المطوّلة ـ له صفاته المحددة التي تختلف عن صفات إنسان عصر الصناعة، أو الزراعة، و التي من أهمّها أنّه :
متفرّد، و غير نمطي :
بعد انقضاء جدوى النمطية التي أشاعها عصر الصناعة، و نتيجة لتدفّق المعلومات و المعارف، يصبح إنسان مجتمع المعلومات أكثر حرصا على تفرّده و ذاتيته، و لا يرضى أن يكون صورة مكرّرة للآخرين، قادرا على التعامل مع التكنولوجيات المعلوماتية التي تساعده على الاستفادة من تدفّق المعلومات، و الاستفادة منها .
قادر على تحصيل المعارف ذاتيا، و بشكل دائم :
مع تسارع المعلومات، و التغيرات التي تطرأ على المعارف، يستحيل أن يكتفي الفرد بتحصيل معارفه عند عمر معيّن، أو عند انتقاله من الدراسة إلى العمل، الأمر الذي كان سائدا في عصر الصناعة، لذلك فإن إنسان المستقبل يؤمن بأن الحياة عبارة عن سلسلة متعاقبة من التعليم و التدريب و العمل، ثم المزيد من التعليم، و إعادة التدريب . و هذا يقتضي أن يكون إنسان المستقبل مستعدا ـ في نفس الوقت ـ للاعتماد على نفسه، في ملاحقة المعلومات المستجدة، و ما يطرأ على العلوم و المعارف من تغيّرات، مستخدما التكنولوجيات المعلوماتية التي أصبحت متاحة للجميع .
ممارس للتفكير الناقد، قادر على الابتكار :
مع تغيّر أسس الحياة جذريا، لا يبقى شيء على حاله، و يكون على إنسان مجتمع المعلومات أن يعيد النظرـ دائما ـ في كل ما استقرّ عليه الرأي من قبل . و التفكير الناقد، يتيح التعرّف على الافتراضات التي قامت عليها الأفكار و النظريات و العقائد، لامتحان مدى استمرار صلاحيتها .. كما أنه يتيح الانتباه إلى السياق الذي نبعت من الأفكار المتداولة، لمعرفة مدى استمرار صلاحية ذلك السياق .
و نتيجة للتحوّل إلى العمل العقلي، أصبح على العامل أن يكون قادرا على : رصد المشكلة في عمله، و التفكير في حلول لها، و انتقاء الحل الأنسب و الأوفق، ثم تطبيق ذلك الحل، و التثبّت من صلاحيته .. هذا يعني أن الابتكار و التفكير الابتكاري أصبح سمة أساسية في نشاط إنسان مجتمع المعلومات .
إيجابي، و متعاون :
التنظيم الهرمي لتسلسـل الرئاسـات، الذي هو العمود الفقري للبيروقراطية .. هذا التنظيم الذي ما زلنا نأخذ به، رغم
تناقضه مع احتياجات عصر المعلومات، كان يفرض على الفرد أن ينفّذ التعليمات الصادرة إليه من المستويات الأعلى منفردا ..لكن التنظيمات الإدارية الجديدة للعمل، على امتداد العالم المتطور، تحوّلت إلى تنظيمات جديدة، تعتمد على هبوط نسبة كبيرة من مسئولية اتخاذ القرار، التي كانت تنفرد بها القيادة، إلى الوحدات القاعـدية، متكاملة الخبرات، شبه مستقلة
ـ 77 ـ
الأداء، حرّة الحركة تجرى اتصالاتها في جميع الاتجاهات . لهذا يجب أن يكون إنسان المستقبل إيجابيا، قادرا على المبادرة و على التفكير الخلاّق عند اتخاذ القرارات المتصلة بعمله، ناجحا في التعاون مع غيره من أفراد مجموعته، و مع المجموعات الأخرى، داخل مؤسسته و خارجها .
معتزّ بعقيدته، محترم لعقائد الآخرين :
مع اندفاع ثورة المعلومات، و التنوّع الكبير الذي سيطال البشر، إنسان مجتمع المعلومات لا يخجل من أفكاره و عقائده، الناتجة عن جهده في التفكير الناقد، معتزّا باختلافه عن الآخرين، و هو في نفس الوقت يحترم عقائد الآخرين، و لا يحاول أن يفرض عليهم عقيدته .
إذا كانت هذه هي خصائص إنسان عصر المعلومات، فما هو نوع التعليم الذي يصلح له، و لمجتمعه أيضا؟
تعليم عصر المعلومات :
وفقا لخصائص إنسان عصر المعلومات التي أوردناها ،يمكننا أن نستنبط طبيعة التعليم التي تناسب هذا العصر،و هذا الإنسان .. و التي تشير إلى:
· تعليم يساعد على التفرّد، و يناهض القولبة، و محاولة جعل الأفراد آحادا متراصة متشابهة .
· تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير و الابتكار، و يحارب التبعية النمطية و التلقين .
· تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات و المعارف، بلا قيود أو وصاية .
· تعليم يناهض كل ما هو جماهيري، من رواسب نظم عصر الصناعة، و يحترم الفروق بين الأفراد .
· تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، و يحترم التنوّع الشديد الذي استحدثه تدفّق المعلومات و المعارف في عقائد البشر و توجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له و للآخرين .
نظم تعليمية جديدة
مع دخول الكمبيوتر، و الإدارة الرقمية، و الروبوت، إلى المصنع و المكتب، يقتضي الأمر الاعتماد على نظام تعليمية جديدة، تختلف كثيرا عمّا نأخذ به، من بينها التالي .
( 1 ) من التلقين، إلى التفكير و الابتكار :
الكمبيوتر و الروبوت نجح في تولّي معظم الأعمال الروتينية في المصنع و المكتب، و بشكل متفوّق عن الأداء البشري، فلم يبق للبشر سوى العمل العقـلي أو المعـرفي، الذي يقتضي التفكـير، و القدرة على حلّ المشاكل، بالبحث عن بدائل الحلول، و اختيار الحل الأوفق للظروف، ثم تطبيقه و متابعة أدائه . و هذا هو التحوّل الأساسي في النظام التعليمي المناسب لعصر المعلومات . من تعليم يقف عند حد تلقين المعلومات المحدودة، إلى تعليم يشجّع على التفكير، و البحث عن الحلول، و يحض على الابتكار و الإبداع . نحن ننتقل من تعليم عصر الصناعة الذي كان يعمد إلى تلقين التلاميذ، و حشو رؤوسهم بشتات المعلومات، و بعض التقنيات، إلى تعليم يستهدف خلق المعارف و التدريب المتواصل .
( 2 ) بيئة تعليمية مفتوحة :
ستتحوّل البيئة التعليمية المغلقة الحالية، إلى بيئة تعليمية مفتوحة، تعتمد على شبكات المعرفة الإلكترونية، التي تعطي أهمية أكبر للقـدرات الشـخصية . البيئة التعليمية الجديدة، تنهي احتـكار المدرسة للعملية التعليمية، و تفتح الباب أمام ممارسة التعليم في البيوت، و في المؤسسات الاقتصادية التي ستتكفّل بجانب منه .
( 3 ) من التعليم النمطي، إلى الشخصي :
النظام التقليدي النمطي الجماهيري، النابع من عقلية و احتياجات عصر الصناعة، يحل محلّه نظام جديد يقوم على أساس اعتبار قدرة الفرد و اختياراته . و هذا يعني أنّه في مكان نظام التعليم الحالي، الذي يجري تقسيمه على أساس الأعمار، يقوم نظام جديد يسمح لقدرات الأفراد بالتقدّم إلى مستويات متقدّمة، بصرف النظر عن العمر .
( 4 ) التعليم على مدى الحياة :
التعـليم العام لعصر الصناعة يقوم على تعليم إجباري، بالإضافة إلى فرص قليلة للتعليم الأعلى و الحرفي . و كان التعليم ينتهي عادة بالحصول على شهادة إتمام الدراسة، التي تؤهّل لدخول الوظائف و مجالات العمل .
مع تسارع المعلومات و المعارف، و تغيّر النظريات، و هبوط علوم و صعود علوم جديدة، تنشأ ضرورة اعتماد الدارس، أيا كان عمره، على التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة، لمتابعة ما يحدث بشكل عام، و في فرع تخصّصه بشكل خاص . و هذا يجعل تعليم عصر المعلومات عملية ممتدة على مدى حياة الفرد .
( 5 ) التعليم الذاتي :
يساعد على التعليم الدائم المتواصل، مبدأ التعليم الذاتي الذي يأخذ به عصر المعلومات، و الذي يراعي و يحترم الفروق الشخصية بين الأفراد . و التعليم الذاتي يصبح ممكنا بفضل الكمبيوتر، و غير ذلك من التكنولوجيات الإلكترونية . لقد أصبح بإمكان الفرد أن يعلّم نفسه، على مدى مراحل عمره، اعتمادا على البرامج التعليمية الخاصّة بالكمبيوتر، الذي يقوم باختبار الدارس، عند مراحل معينة، للتثبّت من استيعابه، تمهيدا لإعادة الدرس، أو الانتقال إلى الدرس التالي، وفقا لإيقاعه الخاص .
* * *
هذا التعليم الذي أوضحنا خصائصه، هو الذي يساعد الفرد على ممارسة أنماط الممارسات الديموقراطية الجديدة، التي تنبع من احتياجات عصر المعلومات . لقد كان تعليم عصر الصناعة، الذي يوصف بالتعليم الجماهيري، هو أنسب ما يفيد الفرد في تعامله مع الديموقراطية الجماهيرية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتدعها عصر الصناعة، و التي تقتصر على اختيار الفرد ـ بنفسه أو من خلال حزبه ـ للشخص الذي سيتّخذ قرارات حياته نيابة عنه ..
و هذا هو السرّ في أن تعليم عصر المعلومات يحتل الأولوية الأولى في بناء الديموقراطية جديدة المطلوبة لمصر .

ثانيا : الإعـــــــلام

من هذا ننتقل إلى الشق الثاني من دعامات الديموقراطية الجديدة، أعني الإعلام .. كيف يتحوّل إعلامنا إلى أداة لديموقراطية عصر المعلومات ؟ .
في المعادلة التي طرحتها، كان من الضروري أن يتقدّم التعليم باقي عناصر المعادلة، باعتباره الأداة الأكثر أهمّية في تكوين الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، و القادر على ممارسة الديموقراطية الجديدة التي يفرضها عصر المعلومات . فالطفـل الذي يسـتفيد من النظام التعليمي الجديـد، يخرج إلى معترك الحياة بعد عقد أو عقد و نصف من الزمان، بينما لا تستغرق عمليات إعادة البناء في المجالات الأخرى من حياتنا بعض ذلك الوقت . و إذا كان التعليم هو الصناعة الثقيلة في مجال إعداد البشر لعصر المعلومات، فالإعلام هو الصناعة الاستهلاكية، التي لا غنى عنها .
إعلام عصر الصناعة ـ و الذي ما زلنا نأخذ به ـ كان إعلاما جماهيريا، يقـوم على مبدأ النمطية و التوحيد القياسي الذي ساد كلّ شيء في عصر الصناعة . كانت وظيفته الأساسية، نقل أفكار و توجيهات النخبة الرابضة عند القمّة إلى القواعد العريضة عند قاعدة الهرم . كان إعلاما يمضي دائما في اتّجاه واحد، من أعلى إلى أسفل . كانت الأنظمة الحاكمة ـ و ما زالت ـ ما أن تتسلّم الحكم، حتّى تندفع إلى تكوين جيش قوي يحميها من القوى الخارجية، و شرطة قادرة تحكم الداخل، و تضمن استمرار النظام الحاكم .. و في نفس الوقت كانت تحرص على إرساء إعلام مقروء و مسموع و منظور، تتحكّم فيه من خلال رجال إعلام محترفين، يعرفون جيّدا نوايا النظام الحاكم قبل أن ينطق بها، و يبادرون إلى تعميمها، و الدعاية لها . لهذا كانت وسائل الإعلام الجماهيرية تضم أقدر الخبرات في تزوير الحقائق و تلوينها بألف لون، وفقا لرغبات النظام الحاكم، و لعل خير مثال على هذا، تجربة جوبلز في الحقبة النازية بألمانيا.
ثورة المعلومات، التي ضاعفت التكنولوجيات المعلوماتية من اندفاعها، أتاحت للأفراد مساحة واسعة من المعلومات و المعارف، ليأخذ كل فرد منها ما يميل إليه، و يكون لكل فرد فهمه الخاص لما توصّل إليه من معلومات و معارف .. و هكذا، اختلف الأفراد و تباينوا و تنوّعت معارفهم و أمزجتهم، فخرجوا من قوقعة النمطية و التوحيد القياسي، و غير ذلك ممّا قام عليه المجتمع الصناعي و فرضه على البشر . لقد تمرّد البشر على محاولات القولبة غير الإنسانية التي مارسها عصر الصناعة . فانقضى كل ما يحمل صفة الجماهيرية، التعليم الجماهيري، و الأحزاب الجماهيرية، و أيضا الإعلام الجماهيري .
و عندنا .. مع كلّ هامش الحرية، الذي يتكرّر الحديث عنه، في اللقاءات الرسمية .. ما زال إعلامنا يمضي وفق قواعد الإعلام الجماهيري الذي ساد عصر الصناعة، و الذي فقد مصداقيته، بعد قيام ثورة المعلومات ..
من أجل الحكومة و الشعب معا
في صيف عام 1990، كتبت مقالا في مجلة ( المصوّر )، بعنوان " إعلام جديد لحساب الحكومة و الشعب معا " . قلت فيه، أن العاملين في وزارة الإعلام ما زالوا يتمسّكون بالفهم القديم، الذي يعتبر أن جهد وزارة الإعلام يجب أن يكون لحساب الحكومة، و ينحصر في نقل رؤيتها و قراراتها و توجيهاتها و أخبارها إلى أفراد الشعب . أي أن وظيفتها الأساسية هي أن تعمل من أعلى إلى أسفل فقط .
و قلت فيه " وظيفة وزارة الإعلام يجب أن تكون التخفيف من التناقض الحادث بين الحكومة و الشعب . و هذا التناقض موجود، و سيوجد، ما بقيت مركزية الحكومة على حالها . هذا التناقض، لا ينبع بالضرورة من سوء نيّة الحكومة، أو إهمالها و عدم مبالاتها، و لكنّه النتيجة الطبيعية لعدم قدرة الحكومة .." .
و شرحت هذا قائلا أن النظام البيروقراطي المركزي، يحرم الحكومة ـ أيّ حكومة، و ليس حكومة مصر فقط ـ من التغذية المرتدّة التي تحتاجها من القواعد الشعبية . و للعلم، هذه أزمة مستجدّة لم تواجه حكومات عصر الصناعة بالشكل الحالي . و السرّ في هذا أن الجمهور قد تحوّل ـ و يتحوّل كل يوم ـ إلى جماهير عديدة متباينة التوجّه و المطالب من الحياة، نتيجة لثورة المعلومات . و قلت أن وزارة الإعلام بأجهزتها كالإذاعة و التليفزيون، قادرة ـ بالإضافة إلى الصحافة ـ على تقديم عون جزئي للحكومة في هذا المجال، عندما يعكس لها صورة الواقع المتغيّر على أرض مصر .
الإعلام، نقطة البدء العملية
قلت أن التخطيط لمستقبل مصر على المدى البعيد، لا بد أن يمرّ من خلال ثورة إعادة بناء في مجال النظم التعليمية الحالية . لكن، نقطة البدء لإعادة بناء مصر ـ و الديموقراطية أساسا، و التعليم ضمنا ـ هي ضمان شفافية أجهزة الإعلام من صحافة و إذاعة و تليفزيون، و قدرتها على العمل كموصّل جيد بين مختلف مستويات المجتمع .
كما قلت أن الذي يزيد وضع التناقض بين الحكومة و الشعب سوءا، أن الأحزاب عندنا ـ وطني و معارضة ـ تعاني هي الأخرى من نفس القصور . لو أن هذه الأحزاب كانت أحزابا حقيقية، نابعة من إرادة جماعية لفئات و طبقات، لها قواعدها المحسوسة في الشارع المصري، لكانت قادرة على مساعدة الحكومة في تفهّم طبيعة التغيّرات في خريطة الشارع المصري .. و بديهي أن ما نقوله عن قصور الأحزاب الحالية،ينسحب أيضا على المجالس النيابية التي تتشكّل أساسا من هذه الأحزاب .
الحوار، و دور الإعلام
و أشرت إلى أننا في أشد الحاجة إلى التفكير و الفهم، لأن التفكير القائم على فهم الحقائق هو الذي يقود إلى إمكان رسم إطار رؤية مستقبلية شاملة لمصر، على أساس التغيّرات المستجدة للتحوّل من عصر الصناعة إلى المعلومات .
و قلت أن التفكير الذي أدعو إليه، لا يتبلور إلاّ من خلال الحوار الحرّ الصادق، بين أطراف يتوافر لها الحدّ الأدنى من المعلومات و المعارف المعاصرة . و هو حوار لا يمكن أن يدور في حجرات مغلقة، و ندوات خاصّة، بل لا بد أن يتم بصوت مرتفع، يسمعه جميع الناس، من القيادة إلى القواعد، فيفهّموه، و يدركوا من خلاله بدائل الأفكار، فينحازوا إلى الأفكار التي تجمع بين مصالحهم القريبة، و مصالحهم البعيدة .و أفضل وسيلة متاحة حاليا لتحقيق هذا الهدف، هو أن يتم الحوار على موجات الإذاعة، و قنوات التلفزيون، بالإضافة إلى الجرائد و المجلات .
و لن يصبح هذا مجديا إلاّ إذا تغيّرت العقلية السائدة في وسائل الإعلام، و فهم العاملون فيها طبيعة المهمة الجديدة الملقاة على عاتقهم، و فهموا أن مهمّتهم الحقيقية هي تفجير الأفكار، و ليس قتلها بتسليط قواعد الرقابة العامة و الذاتية عليها .
أقوى من حماس الوزير
تحمّس الوزير صفوت الشريف، فطبع صورا من المقال وزّعها على قيادات الإعلام في الوزارة طالبا منها أن تفكـّر في طريقة الاستفادة من ذلك الكلام . و يبدو أن النتائج كانت مخيّبة، فاستدعاني مستشار الوزير، و سأل : ماذا نفعل ؟ . قلت نتكلّم، و تتكلّم قيادات الإعلام، لنرى ما الذي يمكن أن يتمخّض عنه هذا الحوار المبدئي . و بالفعل، تم تنظيم مؤتمـر في أحد الفنادق الكبرى، افتتحه الوزير صفوت الشريف، و دعيت إليه قيادات الإعلام .
كانت نتيجة ذلك الجهد، موقف سلبي من قيادات الإعلام، فانتصرت بيروقراطية قيادات الإعلام على حماس الوزير . لقد كان الصمت و الحذر هو الموقف السائد، و يبدو أن قيادات الإعلام تصوّرت أن الوزير ينصب لها فخّا، ليعرف مدى إخلاصها للنظام، فآثرت الصمت ! .. أضف إلى هذا أن رد الفعل الذي أشرت إليه يتكرر كثيرا، بين أفراد من خيرة الناس و صفوة المجتمع، الذين يحتلون المراكز العالية و القيادية، فهم يحجمون عن محاولة الفهم لما يترتب على ذلك من مراجعة أفكار قديمة .. نتيجة لعدم القدرة على متابعة و فهم المستجدات المتلاحقة، و عدم قدرة القيادات الواصلة على الاعتراف بأن فهمها ناقص .. بل و اقتناعها العميق أن ذلك الفهم الذي تتمسّك به، هو الذي خدمها، و أوصلها إلى المركز الذي تجد نفسها فيه ! .
ديموقراطية سبيلها الإعلام
لم يعد ممكنا أن نستمر في وصايتنا على المعلومات و المعارف التي يسعى إليها الفرد، و التي يحتاجها في فهم ما يجري، و في الحكم على أداء المؤسّسات التي تدير حياته . لم يعد ممكنا أن تخفي الإذاعة خبرا، أو يمنع التلفزيون صورة، فموجات الأثير تطن بجميع الأخبار و الصور الحقيقية بلا تزيين أو تزييف . علينا أن نجعل إذاعتنا و تليفزيوننا أكثر صدقا و أقل تعبيرا عن إرادة القيادات الحاكمة .
لم يعد ممكنا أن تفرض الصحف و المجلات الحكومية ( التي نسمّيها كذبا بالقومية ) خبرا أو رأيا، و إذا كانت قوانين النشر تمنع ظهور الأكثر من الصحافة الخاصة، المعبرة عن توجّه الفئات و المجموعات الأقل عددا، و إذا كانت بعض المنشورات الخاصّة تمارس نفس التلاعب الذي تعمد إليه الصحف الحكومية، فبعد هذا و ذاك، هناك مواقع الإنترنيت على شاشة الكمبيوتر، التي أصبحت اللعبة المفضلة لجيل كامل متمرّد، لا نعلم شيئا عن توجّهاته و عقائده . و إذا كان رؤساء تحرير الصحف الحكومية ما زالوا يتحدّثون عن الديموقراطية، و يمارسون السيطرة على أجهزتهم و قرّائهم، إرضاء للحكومة، فالتغيّرات و التحوّلات نحو مبادئ عصر المعلومات، و ما تقتضيه ديموقراطية هذا العصر، لن تسمح باستمرار هذا الوضع غير الديموقراطي .
هواية مهاويس الكمبيوتر !
عندما أقول أن التكنولوجيات المعرفية تغيّر نظم حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، يتصوّر البعض أن هذا نوع من المبالغة .. و لكي أثبت هذا لهؤلاء المتشكّكين، سأطرح واقعة معاصرة، تحدث حاليا في أكثر الدول تباهيا بالحرّية، و بالتحديد بحريّة إعلامها، أقصد الولايات المتحدة الأمريكية .
دراسة هامّة في موقع على الإنترنيت، اسمه " حقيقة الذي حدث " . و كان عنوان الدراسة الطويل يقول " الخطأ الذي وقع فيه بوش، حول فهمه لتأثير الإنترنيت " . و تقول الدراسة، أن التاريخ سيسجّل، على الأرجح، أن الخطأ الأكبر الوحيد الذي وقعت فيه آلة الحرب التابعة لبوش، كان إقلالها من شأن الإنترنيت . إنّهم لم يفهموا الإنترنيت، أو ثقافة الإنترنيت، أو بعدها الاجتماعي .. و الأهم من هذا، لم يفهموا كيف أن استخدام الإنترنيت قد حوّل الأمريكيين، من مجرّد مستقبلين للمعلومات الإذاعية، إلى مشاركين نشطين و ناقدين في العملية الإعلامية .
كان الاعتقاد السائد، هو أن أخبار الإنترنيت هي مجرّد هواية، يمارسها (مهاويس) الكمبيوتر، ليستقبلها (مهاويس) آخرون، و هو أمر لا أهمية له . لم يعرف بوش و لا صحبته من الرجعيين الجدد ماذا يفعلون فيما يتّصل بالأنترنيت، و هكذا قادتهم تمنياتهم إلى اعتبارها غير مهمة . لكنّهم كانوا مخطئين .
قرضاي ..و زالماي !
بينما كانت قياسات الرأي العام تفيد أن العدد الأكبر من الجمهور ما زال يستمد أخباره من أجهزة التلفزيون، بأكثر ممّا يستمدّها من الإنترنيت، إلاّ أن الهامش أخذ في التناقص . و لم تشر قياسات الرأي تلك إلى أن أولئك الذين يشاهدون التلفزيون، لم يعودوا يرتبطون عقليا بفيض الأخبار المطروحة عليهم، و يستسلمون لها. هذا بالإضافة إلى أن جمهور الإنترنيت كان نشطا في نقل الأخبار إلى أولئك الذين ليست لهم علاقة بالإنترنيت .
و قد حدث بعد سقوط أفغانستان، أن قام هواة الإنترنيت بنقل أخبار تفيد أن الرئيس الأفغاني ( اللعبة ) الجديد، حامد قرضاي، و المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان زالماي خليل زاد ( الذي خلف بريمر في العراق)، شكّلا معا جانبا من مجموعة العمل الخاصّة بإحدى شركات البترول، و التي أوصت الكونجرس عام 1998 بإجراء تغيير في نظام الحكم الأفغاني، من أجل تسهيل إنشاء خط أنابيب بترول . وسائل الإعلام الرئيسية لم تشر أبدا إلى هذه الحقيقة، بينما فعل ذلك أصحاب المواقع على الإنترنيت . و عندما شعر المواطن الأمريكي أن هناك من الأشياء التي تحدث في العالم، ما لا ينبئه به التلفزيون، بدأ في هجر التلفزيون و الاعتماد على الإنترنيت كمصدر للأخبار .
الحكومة تفقد احتكارها
عندما بدأ ظهور الخطر، شمّرت الحكومة و وسائل الإعلام التابعة (مثل فوكس ) عن ساعدها، و راحت تحذّر الأباء من أن الإنترنيت هو أداة إفساد الأبناء، و جرى دفع الأموال لمؤسسات العلاقات العامة، لتغطية و تكذيب أخبار الإنترنيت. و تقول الدراسة " لقد حدث شيء غريب .. فبعكس ما يحدث في التلفزيون أتاح الإنترنيت للأفراد الذين عاشوا على المعلومات الخاطئة ، وصولهم إلى المعلومات الحقيقية .. لهم .. و للعالم أجمع .. و فورا " .
فجأة، سقطت القاعدة القديمة التي تقول " ما تقوله الحكومة، يصدّقه الجمهور " . لقد فقدت شبكات التلفزيون الرئيسية احتكارها، وتحكّمها فيما يتدفق من معلومات . أصبح الجمهور قادرا على أن يقرر بنفسه ما الذي يستحق التصديق .
و عندنا .. مع كلّ هامش الحرية، الذي يتكرّر الحديث عنه، في اللقاءات الرسمية للحكومة و الحزب الوطني، ما زال إعلامنا يمضي وفق قواعد إعلام حكومي معدوم الشفافية.. فاقدا مصداقيته، بعد وصول التكنولوجيات المعرفية إلى أيدي أعداد متزايدة نشطة من الشباب المتعلّم . . و خير دليل على ذلك ما حدث في إضـراب 6 إبريل 2008، و الذي فضح موقف النظام المصري و سنده الوحيد الباقي، قوات الأمن المركزي، بعد فشل إعلامه الرسمي .
* * *
الإعلام المتّسم بالشفافية، و الذي يتيح للفرد الوصول إلى المعلومات و المعارف التي يريدها، في الوقت الذي يريدها فيه، هو الذي يسمح له أن يعلم .. و التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري في مكان التلقين، هو الذي يتيح له أن يفكّر و يختار، و يمارس الأشكال الديموقراطية النابعة من طبيعة مجتمع المعلومات .
ثالثا : المجتمع المدني
لكي يصبح المواطن قادرا على اتخاذ القرار السليم في أمور حياته، و مجتمعه، يحتاج إلى تعليم يقوم على المعرفة الشاملة، و الابتكار و الإبداع، و يسقط ما اعتدنا عليه من قبول للتلقين، و تعجيز للعقل .. كما يحتاج ذلك المواطن إلى إعلام يتميّز بالشفافية، يتيح له الوصول إلى كل ما يحتاجه من معلومات و معارف، تفيده في تكوين رأيه على أساس سليم .. إعلام قادر على طرح ما يعتمل في القواعد من أفكار و توجّهات، و ردود أفعال، و أحلام و أماني، حتّى يتاح للقيادات أن تتخذ القرارات السليمة في الوقت السليم .. ثم يأتي دور العنصر الثالث في طرف المعادلة، أعني بذلك المجتمع المدني القوي النشيط، الذي يعتبر حقل التجارب الصحّي لممارسة ديموقراطية المشاركة .
السبيل إلى المواطنة
يقول أستاذ العلوم السياسية، بنجامين باربر " بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع، أو ضحايا لقهر الدول .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية .. " .
و يتساءل الكاتب الاسكتلندي، دافيد ماكليتشي " متى تنقل حكومتنا المسئولية و السلطة إلى الأفراد ؟"، ثم يستطرد قائلا " نحن أفراد مسئولون، قادرون على اتّخاذ قراراتنا الخاصّة، و صياغة مستقبلاتنا الخاصة .. لسنا مجرّد تروس في ماكينة الدولة، و لكن عن طريق قبولنا الطوعي المتبادل للقوانين، و المؤسسات التي تتضمّن المجتمع المدني، مدركون أن هذه المساواة في ظل القانون توفّر لنا أفضل الفرص لتحقيق أهدافنا الشخصية و الجماعية .." . أفكار هذا الكاتب تعكس فهما عميقا لجوهر الممارسة الديموقراطية في مجتمع المعلومات، و هو يرى أن دور الحكومة ضروري، و لكنه محدود . و الحكومة لم تقم لكي توجّه حياة الناس، بحيث تتفق مع أهدافها السياسية ـ كما يعتقد المسئولين عنها ـ بما تتضمنه تلك الأهداف من خليط الاستراتيجيات و الخطط . فالحكومة موجودة أساسا لتوفير الظروف التي تسمح لأفراد الشعب أن يتحكّموا في حياتهم الخاصّة، و أن يختاروا أهدافهم الخاصة .
و يشير ماكليتشي إلى مسألة محورية، عندما يقول أن القوّة العظمى لمثل هذا المجتمع تنبع من تنوّعه و تباينه . التوجيه من أعلى إلى أسفل، يخلق النمطية و القولبة و السطحية، بينما نحن نبحث عن التقدّم، و الابتكار، و المستويات العالية التي تنبع من الجمع بين : التنافس، و التعاون، ممّا يميّز المجتمع الحرّ في أحسن أحواله .
المجتمع المدني هو التمهيد الطبيعي للتحوّل من الديموقراطية النيابية، إلى ديموقراطية المشاركة .
و دعونا نعود إلى الاقتباس من الدراسة الهامة التي قامت بها مجموعة المفكرين الآسيويين، و التي طرحت الجانب الأكبر منها في الفصل السابع من هذا الكتاب .
يقول أصحاب الدراسة : التالي، يعكس ما نؤمن به، نحن أصحاب هذه الورقة، من بزوغ لقيم المجتمع المدني العالمي، و رؤيته العالمية :
الغرض : الغرض الحقيقي للمجتمع المني العالمي، ليس هو الاستيلاء على السلطة، لاستبدال السلطة القابضة الحالية، بنظامها الموروث غير العادل، و القائم على العنف . و ليس هو أيضا فرض برنامج أيديولوجي . إنّه من أجل إحلال الثقافات الأصيلة البازغة، و علاقات المشاركة في السلطة داخل المجتمع، محل الثقافة المصنوعة للإمبراطورية ( تقصد بالإمبراطورية القوى الإمبريالية العالمية المعاصرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية )، و علاقات السيطرة النابعة منها ، باعتبار عملية الإحلال هذه هي الأساس لحضارة بشرية جديدة .
العقائد و رؤية العالم : نحن ـ جمهور المجتمع المدني العالمي ـ نؤمن بوحدة الحياة الكلية المقدّسة، و بمشاعر الخير الأصيلة، و بإمكانات كل فرد في يعمل كمواطن مسئول، يدرك احتياجات الكل .
القيم : نحن ـ جمهور المجتمع المدني العالمي ـ نقيّم الحياة، و الديموقراطية، و الحرّية، و العدالة، و التعاون، و المواطنة النشطة، و الروح، و الحلول السلمية للتناقضات . إننا نبحث عن المجتمع الذي يأخذ بهذه القيم، و يحترمها، كما نؤمن بأن الوسائل التي سنتّبعها يجب أن تكون متوافقة مع هذه القيم .
الثقافة : المجتمعات تعرّف بنفسها و بأهدافها، من خلال القيم المشتركة بالنسبة لثقافتها، و لرموزها، و لرؤيتها المشتركة للعالم . و سلطة تعريف الثقافة بشكل صحيح، تخص البشر، و المجتمع المدني . القوّة الأخلاقية للثقافة الأصيلة، التي تنبع من الخبرات الروحية و الاجتماعية الأصيلة للبشر، هي القوة الاجتماعية العظمى ـ قوّة البشر ـ لأنّها القوّة التي يحق لها أن تستردّها شرعا من المؤسسات الحاكمة، في المجالات السياسية و الاقتصادية .
تكمن أهمية المجتمع المدني ـ بمعناه الصحيح ـ أنه المجال الطبيعي لتدريب المواطنين على ممارسة ديموقراطية المشاركة التي تنبع من احتياجات مجتمع المعلومات، أو ما تطلق عليه الدراسة التي أشرنا إليها " علاقات المشاركة في السلطة داخل المجتمع " .
مصر .. و المجتمع المدني
في الفترة الأخيرة، ظهرت العديد من الكتب و الدراسات عن المجتمع المدني في مصر، نتيجة للموقف السلبي ـ غير الذكي ـ من جانب النظام الحاكم المصري، الذي لم يدرك بعد ما حدث من تغيرات في حياة البشر. و هكذا تواضع دور المجتمع المدني في مصر لأن النظام الحاكم لم يدرك ـ ضمن أشياء كثيرة أخرى ـ أهمية تشكيلات المجتمع المدني، في التقريب بينه و بين الشعب، و تيسير هدف التراضي المفترض أن يكون قائما بينهما . لم يدرك النظام الحاكم أن جماعات المجتمع المدني، هي النتيجة الطبيعية للتنوّع و التعدّد الذي أفرزته ثورة المعلومات، و الأقليات البازغة التي أتاحها دخول البشر إلى مجتمع المعلومات ..
* * *
الإعلام المتّسم بالشفافية، و الذي يتيح للفرد الوصول إلى المعلومات و المعارف التي يريدها، في الوقت الذي يريدها فيه، هو الذي يسمح له أن يعلم .. و التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري في مكان التلقين، هو الذي يتيح له أن يستخدم معلوماته و معارفه في التفكير و الابتكار و حل المشاكل .. و المجتمع المدني القوي و النشط، هو الذي يخلق البيئة المناسبة لبزوغ المواطن القادر على الاستفادة من ذلك التعليم و الإعلام في المشاركة السياسية، و ممارسة الشكل الجديد من الديموقراطية، النابعة من مقتضيات عصر المعلومات .
صدّقوني .. هذا هو السبيل العملي لإنقاذ مصر من جميع المشاكل التي تغرق فيها ..من أزمة رغيف العيش، إلى محنة شيوع السيطرة الأمنية، إلى الفساد الضارب في مصر من قمّتها إلى قواعدها ..