الخميس، سبتمبر ٠٦، ٢٠٠٧

الوهم الخامس


(5) التناول الأحادي في زمن التغيير

في أوضاع الاستقرار، و الثبات النسبي، و التغيّرات المحدودة، يسهل تصوّر أي جانب من جوانب النشاط البشري دون الوقوع في أخطاء فادحة
منذ مئات السنين، كان في إمكان صانع القرار، في مجتمع معيّن، أن يصل إلى حلّ مشكلة معيّنة، أو يخطّط لنشاط ما، دون اعتبار كبير للتغيّر في العلاقات بين ذلك النشاط و غيره من النشاطات الأخرى .. كل ما كان عليه، هو أن يرسم خطّا مستقيما في الرسم البياني الذي يسجّل تطوّر ذلك النشاط، و يمدّه على استقامته لكي يتعرّف على مستقبل تطوره عند زمن معيّن، تحدّده نقطة على ذلك الخط المستقيم .
و ما زال بعض صنّاع القرار عندنا، و عند غيرنا من الدول غير المتطوّرة، يتّبعون نفس المنهج القديم، ربّما يكون مرجع ذلك إلى التعوّد، أو افتقاد البدائل الأسلم . و عندما يتكرّر فشلهم، المرّة تلو الأخرى، غالبا ما يرجعون ذلك الفشل إلى العديد من الأسباب و الاعتبارات، والتي لا يكون من بينها السبب الحقيقي أو الاعتبار الأساسي للفشل، ألا وهو التناول الأحادي في زمن التغيير الجذري الشامل .
الذي يجب أن نأخذه في اعتبارنا عند محاولة فهم أو مناقشة أيّة مشكلة و السعي إلى حلّها، هو أن الوضع حاليّا لا يمكن وصفه بالاستقرار أو الثبات النسبي .إذا ما استطعنا أن نخرج أنفسنا من محنة حياتنا اليومية و ما يكتنفها من مصاعب و مشاكل، و تأمّلنا بتركيز مسيرة الحياة، تحت أقدامنا، و من حولنا، على مدى العقود الأخيرة، تحقّقنا من أنّنا نمرّ عبر عصر غير مسبوق في التاريخ .. ما نحن بصدده ليس مجرّد تغيّرات كبرى، أو تطوير في هذا المجال أو ذاك، إننا بصدد تغيرات ثورية حقيقية .
هذه التغيّرات المتسارعة، تؤثّر على جميع مظاهر الحياة بلا استثناء، في البيت و المدرسة و المصنع و المكتب، و تعيد بناء نظم الطاقة و المواد الخام و الاتّصال و الانتقال و الاقتصاد .. بل وتعيد تشكيل نظم الممارسة الديموقراطية، و معنى السيادة الدولية . هذه التغيرات الثورية تعمّ المجتمعات البشرية جميعها بلا
استثناء، من أمريكا إلى اليابان، و من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا و استراليا

الرؤية المستقبلية

بفضل جهد بعض المفكّرين و الباحثين المستقبليين، أمكن التوصّل إلى بعض المؤشّرات الأساسية للتغيّر، التي يتزايد تأثيرها مع مرور السنين على مدى العقود الأخيرة، و التي تعكس التحوّل إلى مجتمع المعلومات . من دراسة علاقات التأثير المتبادل بين هذه المؤشّرات، أمكن الوصول إلى رؤية مستقبلية شاملة لأوضاع البشر في مجتمع المعلومات . هذه الرؤية المستقبلية لا غنى عنها في أي محاولة لطرح حلول لمشاكلنا الراهنة، أو لعمليات إعادة البناء المطلوبة للتوافق مع متطلّبات مجتمع المعلومات
الاعتماد على الرؤية المستقبلية الشاملة، و ليس فقط على أحد مؤشّرات التغيير، يفيدنا في الوصول إلى حلول باقية، أو مستدامة، لمشاكلنا، لا تقود إلى توليد مشاكل مستجدة في المستقبل، و يساعدنا في تصوّر مستقبل أي نشاط أو نظام بشري، و تفاصيل حياتنا خلال تحوّلنا من مجتمع الزراعة و الصناعة، إلى مجتمع المعلومات
الرؤية المستقبلية الشاملة، هي سبيلنا لوضع الاستراتيجية العامّة لبناء حياتنا الجديدة في عصر المعلومات، و إرساء الاستراتيجيات الخاصّة في كل مجال من مجالات النشاط البشري، بحيث نضمن عدم ظهور التناقض بين هذه الاستراتيجيات و بعضها البعض، أو مع الاستراتيجية العامة لإعادة البناء
بدون الرؤية المستقبلية الشاملة، سنفقد التكامل بين عمليات إعادة البناء المختلفة في مختلف مجالات حياتنا، و بين خطط التطوير المختلفة التي نأخذ بها
الرؤية المستقبلية، هي المرجع الأساسي الذي نعتمد عليه في عمليات التحوّل
السلمي الناجح إلى الحياة الجديدة في مجتمع المعلومات
و إلى الرسالة التالية لنستعرض الوهم السادس .. راجي عنايت

الأربعاء، سبتمبر ٠٥، ٢٠٠٧

الوهم الرابع


(4) إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

قد يعترض البعض على وصف الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية بالوهـم، و قد يقول البعض الآخر أنه من الصعب تصوّر حياة الإنسان، بدون عقيدة أو أيديولوجية، فأعظم إنجـازات البشرية كانت تقوم على عقيدة معيّنة أو فلسفة خاصّة أو أيديولوجية محدّدة . غير أن الوهـم الذي أتحدّث عنه، هو وهم تصوّر إمكان تطبيق عقيدة أو أيديولوجية، نابعة من مواصفات مجتمـعية معيّنة، على ظروف مستجدّة نابعة من مواصفات مجتمعية مختلفة ..
نحن في حاجة شديدة لمراجعة العقائد و الأيديولوجيات التي شاعت في عصر الزراعة، و أيضا في عصر الصناعة، لنرى مدى توافق السياق الذي خرجت منه مع أوضاعنا المجتمعية الراهنة و القادمة، بكلّ ما تتّسم به من تغيّرات جذرية متسارعة غير مسبوقة .
و نحن نعلم مدى صعوبة تنازل الفرد عن عقيدة آمن بها لسنوات سابقة . و خير مثال على هذا، عقيدة أن الأرض منبسطة ساكنة و أن الشمس تدور من حولها، ما زالت بعد مئات من سنوات التنوير التي كشف فيها علم الفلك طبيعة العلاقة بين الأجرام السماوية، و بعد أن التقطت مراكب الفضاء صورا و أفلاما تظهر الأرض ككرة، تجد من يتمسّك بها في بعض المجتمعات المتخلّفة . و السر في هذا هو أن اقتلاع العقيدة الخاطئة أو التي قد ولّى زمنها يحتاج إلى نوعين من الجهد، في الوعي و اللاوعي معا .
العيب في التطبيق ! ..
و من الأمثلة القريبة الواضحة على هذا، الوهم الذي يقع فيه من يقولون بأن الماركسية كعقيدة ما زالت صالحة كأساس للمجتمع البشري، و أن ما حدث من انهيار في الدول الاشتراكية يرجع إلى عيوب و أخطاء في تطبيقها .. و كذلك الوهم الذي بقع فيه من يعتقدون أن سقوط الاشتراكية معناه الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي . إلى هذه الأوهام يعود الكثير من المشاكل و المآسي التي يعاني منها المجتمع البشري حاليا .
الذي قلته ـ أكثر من مرّة ـ في كتاباتي عن المستقبل، هو أن الاشتراكية و الرأسمالية معـا، وجهان لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، بأسسه و مبادئه و عقائده .. و أن تلك العملة قد بدأت تفقد قيمتها و تختفي من التعاملات الحديثة . العمّال الذين تتحدّث عنهم الماركسية، هم عمّال عصر الصناعة : يعتمدون على العمل العضلي البسيط المتكرّر، الذي لا يحتاج إلى تفكير أو إعمال للعقل، و هي نفس صفات عمّال المجتمع الرأسمالي . و المجتمع الذي ترسمه الماركسية هو مجتمع الصناعة الجماهيري، الذي يقوم على التوحيد القياسي و النمطية، و يدار من أعلى وفقا لتسلسل الرئاسات الهرمي المركزي، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي .
فالماركسية بهذا، قامت أساسا لتتعامل مع المجتمع الصناعي، و تلتزم بخصائصه في العمل و الإنتاج و التنظيم الإداري و التركيب الاقتصادي . و هو نفس ما قامت عليه رأسمالية آدم سميث و ريكاردو .
لهذا،بصرف النظر عن سلبيات و إيجابيات هذا أو ذاك، فإن انقضاء عصر الصناعة و الدخول إلى عصر المعلومات، بأسسه و مبادئه المناقضة غالبا مع أسس و مبادئ عصر الصناعة، يجعل تصوّر استمرار الاعتماد على أي من الأيدلوجيتين، في التفكير و التنظيم و التخطيط، وهما كبيرا . خلاصة القول، لا توجد عقيدة أو أيديولوجية صالحة لكل زمان و مكان . و أكثر أوهام التفكير ضررا، تصوّرنا إمكان حلّ مشاكلنا، و إعادة بناء حياتنا، على أيديولوجية أو عقيدة نابعة من نظام مجتمعي سابق، لم يعد يسود حياتنا
و إلى الوهم الخامس في رسالة تالية .. راجي عنايت

الاثنين، سبتمبر ٠٣، ٢٠٠٧

الوهم الثالث


(3) وهم ثبات معاني المصطلحات

الكثير من الخلط و سوء الفهم الذي يسود حواراتنا يرجع إلى تصوّر البعض ثبات معاني الكلمات و المصطلحات و الأشياء .. و حقيقة الأمر أن معاني الأشياء تتغيّر بتغيّر النظام المجتمعي السائد في الحياة . إنّنا لا نصل إلى حلول لمشـاكلنا الحالية، لأنّنا نتعامل مع الكلمات و المصطلحات و الأشياء بمعناها القديم، أو بمعنى أدق المعنى النابع من ظروف مجتمعية سابقة غير الظروف السائدة .
عدم فهم المعنى المعاصر للكلمة، و عدم الانتباه لتغيّر معناها السابق بتغيّر الواقع المجتمعي، يقود إلى الكثير من الخلط و التضارب فيما نقوله، و يفقد حواراتنا جدواها . إنّنا نتناقش حول الاقتصاد و الديموقراطية و التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم و الأخلاق، فلا نصل إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك، الذي يسمح لنا بمواجهة مشاكلنا بشكل عملي، في كل مجال من هذه المجالات .. و السبب في هذا أن الكلمات و المصطلحات كائنات عضوية، تتغيّر بتغيّر النظم المجتمعية السائدة .
مثال ذلك ما يحدث عندما نتكلّم عن أمور الأسرة و مشاكلها، فنرى كل واحد ينطلق من قاموسه الخاص، و معنى الأسرة الذي يعنيه، فلا نصل إلى نتيجة ما . مصطلح " الأسرة "، يكون له معناه الخاص، وفقا لنوع المجتمع السائد :
زراعي، أم صناعي، أم معلوماتي .
في المجتمع الزراعي، الذي ما زالت الكثير من رواسبه باقية في حياتنا، ربّما في بعض أعماق الريف، كانت الأسـرة كبيرة الحجم تضمّ عدّة أجـال من الأبناء و الأحفـد و الأقارب، وتعمل كوحدة إنتاجيــة استهلاكية . كانت الأسرة تتكفّل بجميع احتياجات أفرادها، التي كانت محدودة و تنحصر في توفير المسكن و الطعام و التعليم و الرعاية الطبّية، و تنظيم العلاقة بين أفرادها وفقا للقيم السائدة .
عندما بدأ زحف عصر الصناعة منذ حوالي قرنين و نصف، شعرت الأسرة بضغوط التغيير، و تلقّت السلطة الأبوية ضربة محسوسة، و تغيّرت العلاقة بين الآباء و الأبناء . و مع تحوّل الإنتاج الاقتصادي الأساسي من الحقل إلى المصنع، لم تعد الأسرة الممتدّة كبيرة العدد صالحة للحياة الجديدة . لقد تطلّب المجتمع الصناعي من العامل في المصنع أن يكون قادرا على الانتقال من مكان لآخر، وفقا لحاجة العمل الصناعي، و مع الانتقال إلى المدن تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للتغيير، تخلّصت الأسرةمن الأقارب، و وصل بنا الأمر إلى " الأسرة النـووية "، و التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء .
و لكي يتفرّغ العامل لعمله في المصنع، نشأت مؤسّسات متخصّصة للقيام بالمهام التي كانت توكل تقليديا للأسرة، فأوكل تعليم الأطفال و الصغار إلى المدارس، و الرعاية الصحّية للمستشفيات، و الاهتمام بكبار السن و رعايتهم إلى الملاجئ و بيوت العجزة . مع كل هذه التغيّرات، كان لابد أن تتغيّر القيم الأسرية التي كانت سائدة في عصر الزراعة، لتحلّ محلّها قيم جديدة نابعة من احتياجات و عقائد عصر الصناعة .
و اليوم، و نحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، يتأسّس شكل جديد للأسرة، غير الذي عرفناه في عصر الزراعة أو الصناعة . فيصبح للأسرة شكلها الجديد و قيمها الجديدة، الأمر الذي سيكتمل، عندما يتم التحوّل إلى مجتمع المعلومات ..
المهم، عندما نتكلّم و نتناقش حول الأسرة، يكون علينا أن نحدّد عن أيّة أسرة نتكلّم .

انقضاء أجل ديموقراطية التمثيل النيابي

و نحن أيضا نتناقش و نتحاور حول الديموقراطية، دون أن نحدّد أيّة ديموقراطية نعني ..فعلى مدى التاريخ تغيّر مضمون و شكل الممارسة السياسية مع تغيّر الأسس المجتمعية السائدة .
البعض يقول ديموقراطية، و هو يعني الشكل الديموقراطي الناقص الذي كان سائدا طوال عصور الزراعة، و الذي لم يكن يتجاوز " الشورى "، مع بقاء صلاحيات صناعة القرار عند الحاكم أو الوالي أو الشيخ .. و التي عبّرت عنها قصص ألف ليلة بعبارة " دبّرني يا وزير .." ! . لقد كانت الشورى هي الحدّ الأقصى للديموقراطية على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة .
و البعض الآخر، عندما يقول ديموقراطية، فهو يعني الشكل السائد حاليا في عديد من الدول، ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها المجتمع الصناعي، لسدّ جانب من احتياجات اتّخاذ القرار التي تضخّمت مع دخولنا إلى الحياة الصناعية . ديموقراطية تقوم على تجميع الجماهير في أحزاب، و قيام الفرد بتوكيل من ينوب عنه في عملية المشاركة في اتّخاذ القرار، هذه الديموقراطية البرلمانية التي لم تعد تحقّق أحلام البشر، في الدول النامية و المتطوّرة معا .
و يندر أن تجد من يفهم المعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات .. يندر أن تجد من يتحدّث عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقّعية، ممّا نوضّح معانيه و طبيعته فيما يلي من حديث .
المهم، أن الحديث عن الديموقراطية يجري في اللقاءات دون الاتفاق على الحد الأدنى من الفهم، نتيجة عدم الانتباه للتغيّرات التي تطرأ على مفهوم الديموقراطية، من عصر إلى عصر .
من المدير .. إلى القائد
نفس الخلط يحدث في مجال حيوي آخر، هو الإدارة . و رغم أن الإدارة تعتبر عنصرا هاما في مجال النشاط الاقتصادي، فما زلنا نرى العديد من خبراء الإدارة و الاقتصاد عندنا، الذين يقفون عند مفهوم الإدارة الذي كان شائعا على مدى عصر الصناعة، دون أن ينتبهوا إلى عواقب إهمال التغيّرات التي طرأت على هذا المجال بالدخول إلى عصر المعلومات .
غاية ما نسمعه في الندوات و الموائـد المسـتديرة، حديث عن التجويد، و استعارة لبعض المصطلحات الشائعة، دون إدراك السياق الذي تنبع منه . لقد كان الكثير من المختصّين في مجال الإدارة، يبدون انزعاجا كلّما قلت أن التغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات تحتاج إلى إعادة بناء شامل للمؤسّسة أو الشركة أو الهيئة، العامة أو الخاصّة . و أن هرم تسلسل الرئاسات الذي كنا نأخذ به، قد أخلى السبيل لتنظيمات شبكية جديدة، لا تشبه في شيء التنظيمات التي عرفناها على مدى 200 سنة مضت . و أن رئاسة العمل تنتزع من يد المدير الآمر المحتكر لسلطة اتّخاذ القرار، لتوضع في يد قائد العمل المشارك الذي تكون مهمته الأولى تسهيل و تيسير عمل من يشاركونه .
المصطلحات كائنات حيّـة
ما قلناه عن الأسرة و الديموقراطية و الإدارة، ينسحب أيضا على الاقتصاد و التعليم و كافة مجالات النشاط البشري الأخرى .
وهم الاعتقاد بإمكان ثبات و استقرار مفهوم الكلمات و المصطلحات، يعوق أيّ تفكير نقوم به لاستشراف المستقبل، و يحيل حديثنا إلى حوار طرشان ! ..
بل أن مفاهيم الزمان و المكان تتغيّر أيضا مع تغيّر الأسس المجتمعية التي تقوم عليها حياتنا . في هذا يقول جون حريبين، عالم الطبيعة الفلكية، و الكاتب العلمي " .. لم يعد الزمان شيئا ينساب إلى الأمام بلا رجعة، وفقا لإيقاع ساعاتنا و تقاويمنا، فقد ثبت علميا أنّه بطبعه يدور و ينكمش و ينبسط ! .."، و هو ما قال به أينشتين في نظرية النسـبية . دخولنا إلى مجتمع المعلومـات، يدخلنا في علاقـات جديدة، في كلّ مجال، و أيضا مع الزمان و المكان .. خلاصة القول، أن المصطلحات كائنات حيّة، يتغيّر معناها و يتطوّر مضمونها مع الزمن .. لهذا، فإن الاتّفاق على التعريف المعاصر للمصطلح، أمر ضروري للوصول إلى تفكير أو حوار مثمر .
و إلى الوهم الرابع في رسالة تالية .. راجي عنايت

الأحد، سبتمبر ٠٢، ٢٠٠٧

الوهم الثاني

(2) وهم إمكان الاعتماد على الخبرات السابقة

الوهم الثاني، هو وهم الاعتماد على الخبرات السابقة في حلّ مشاكلنا الحالية . و معظم التخبّط الذي يعيشه العالم العربي، يعود إلى عدم القدرة على التمييز بين أوراق الماضي الذي انقضى، و بين أحوال المرحلة الانتقالية الحاضرة التي نعيشها، و بين مؤشّرات المستقبل الذي نمضي إليه .
الحدّ الأدنى في هذا المجال، أن يفهم المفكّر العربي خصائص كلّ من مجتمع الزراعة الذي عشنا واقعه لآلاف السنين و ما زلنا نقع في أسره بالنسبة للكثير من قيمنا و أفكارنا و عاداتنا . و خصائص مجتمع الصناعة الذي سادت قوانينه على مدى ما يزيد من قرنين معظم دول العالم، سواء التي تحوّلت من الزراعة إلى الصناعة أو التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية . و أخيرا، التمييز بين ذلك كلّه، و بين واقع مجتمع المعلومات الذي بدأ يفرض نفسه على حياة البشر، منذ ما يقرب من نصف قرن .. بدون هذا التمييز، لن يتمكّن المفكّر العربي من قراءة الأحداث الجارية، و فهم مغزاها .
و حتّى القلّة التي تعترف بزحف حقائق مجتمع المعلومات على حياتنا، كثيرا ما تقع في استخلاصات خاطئة، نتيجة لتطبيق أفكار و مبادئ و عقائد و فلسفات عصري الزراعة و الصناعة المنصرمين، على مجتمع المعلومات الذي يسود البشر حاليا .
تحيّة العلم، و طابور الصباح !
أذكر أن أحد وزراء التعليم، من الذين يحلو لهم التحدّث عن مجتمع المعلومات و تكنولوجيا المعلومات، أدلى بتصريح عند بداية تولّيه للوزارة، جاء نموذجا للخلط بين القديم و الجديد .
تكلّم الوزير عن أهميّة إصلاح التعليم، و تخليصه من التلقين، و تنقية الكتب المدرسية من الحشو الزائد عن الحدّ .. ثم قال بعد ذلك، ربّما متأثّرا بفاشستية منظمة الشباب التي ترعرع فيها معظم طاقم الوزراء عندنا، أنّه ينوي إعادة الانضباط إلى المدرسة المصرية، موضّحا كيف سيعيد إلى المدارس تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي ! ..
لم يستطع الوزير أن يميّز بين تعليم عصر الصناعة، و بين التعليم المنشود لعصر المعلومات . و قد خلط بين التوجّهات السليمة للتعليم في عصر المعلومات، كتخليصه من التلقين الذي تقتضيه طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الذي يستهدف تعويد التلميذ على إعمال العقل، لكي يكون مؤهّلا لدخول مجال العمل العقلي الذي يسود عمالة مجتمع المعلومات . خلط بين هذا و بين سمات التربية و التعليم في عصر الصناعة، التي عرفنا فيها تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي، و هي مع غيرها من مقوّمات عصر الصناعة تستهدف زرع النمطية التي يستلزمها الإنتاج في المجتمع الصناعي، و تقوم على فهم العمل باعتباره مجموعة من المهام الروتينية البسيطة المتكرّرة، التي لا تستدعي إعمال العقل و تشغيله .
صرح الصناعات الثقيلة !
و في مؤتمر شاركت فيه عن مستقبل الإدارة في القرن الحادي و العشرين، وقف وزير الصناعة متحدّثا عن ضرورة اللحاق بركب الدول الصناعية المتطوّرة، ثم أعلن عزمه على البدء في إقامة صرح للصناعات الثقيلة، باعتبار أن هذا هو هدف مصر الصناعي في القرن الحادي و العشرين ! .
كنت أتصوّر أنّه سيتحدّث عن خطط وزارته و استراتيجيتها للبدء في إدخال الصناعات المعلوماتية الجديدة، التي ستحلّ محل الصناعات الثقيلة التي أخذ بها المجتمع الصناعي، رغم غلظتها و استنزافها للمواد الخام و الطاقة و تلويثها للبيئة . توقّعت منه أن يتحدّث عن تشجيع الصناعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا الإلكترونية المتطوّرة، و نشر هذه الصناعات على أنحاء البلاد و إنهاء تكدّس المدن في المناطق و التجمّعات الصناعية، على أساس الاستفادة من مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة أينما وجدت . انتظرت أن يحدّثنا عن خططه للتدريب التحويلي، الذي يجب أن نخضع له العمالة الحالية، لكي تتحوّل من عمالة عضلية إلى عمالة عقلية، تحسّبا لمواجهة البطالة البنيوية الشاملة، التي تأتي بها التحوّلات الحالية في مجالات العمل و الإنتاج و الاقتصاد
لقد خلط الوزير بين أوراق الماضي و المستقبل

خلط في شعارات الوحدة و الديموقراطية

و نتيجة لخلط أوراق و أفكار و عقائد الماضي بالمستقبل، نجد من يخلط بين مقتضيات قيام المجتمع الصناعي التاريخية، و ما استوجبته من توحيد للكيانات السياسية الصغيرة في كيان كبير، لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و بين بقايا أحلام بعض العرب بقيام وحدة اندماجية سياسية و اقتصادية بين الدول العربية، لمواجهة أعداء الأمّة العربية، على نسق ما جرى في إيطاليا على يد غريبالدي، و في ألمانيا على يد بسمارك، و في بعض الدول الصناعية الأخرى، في الشرق و الغرب .. و يتواضع البعض الآخر ليطالب بنوع من الاتحاد، يشبه الاتّحاد الأوروبي المعاصر .
هذه الأحلام و المطالبات تكشف عن خلط بين أوراق الماضي و المستقبل .
الفاهم لطبيعة التحوّل السياسي في مجتمع المعلومات، يدرك أن أيّ تجمّع حالي بين كيانات اجتماعية أو سياسية، لا يمكن أن يتم على النسق الهرمي الذي التزم به المجتمع الصناعي كأساس تنظيمي للدولة القومية . بل على العكس من هذا، تفرض طبيعة مجتمع المعلومات أن تقوم الكيانات الأكبر على أساس التنظيم الشبكي، وفقا للمصالح المتبادلة بين الأطراف، و طالما استمرت تلك المصالح قائمة .
سينجح الجهد الحالي لإقامة الوحدة الأوروبية، بقدر ما يسود هذا الفهم بين الدول و الشعوب الأوروبية .. فنحن لسنا بصدد إقامة نظام ولايات أوروبية متحدة، على نمط الولايات الأمريكية المتحدة
.
و إلى الوهم الشائع الثالث، في الرسالة التالية .
راجي عنايت