الخميس، أغسطس ٢٧، ٢٠٠٩

محنة التفكير، في زمن التغيير

البحث عن خريطة جديدة للتفكير

العلم ـ الفهم ـ العمل


ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة المأزق الحالي ؟ .. كيف يستطيع أن يخرج من الفقّاعة المنطقية التي تشكّلت حول عقله نتيجة لمفاهيم و مدارك أثبتت التطورات التي حدثت في مجال المعرفة البشرية، و في نسق الحياة السائد، أنّها عتيقة أو خاطئة ؟ . الخروج من المأزق يقتضي الاعتماد على ثلاثة عناصر، وفقا لتتابعها : العلم ـ الفهم ـ العمل .
أن يعلـم صانع القرار، يعني أن يفتح جميع القـنوات المتاحة، لكي تتدفّق منها المعلومات من كلّ اتّجاه، و أن يسخّر كل التكنولوجيات المتطوّرة المتاحة لتحقيق هذا الهدف، حتّى تتوفّر له المعلومات المتجدّدة كل يوم و كل ساعة، لكي يتعرّف منها على طبيعة التغيّرات الجذرية المتسارعة التي تطرأ على المجال الذي يتحرّك فيه .
لكن المعلومات، في حد ذاتها، لا تكفي . و كما يقال، نحن نغرق في فيض من المعلومات، لكنّنا ما زلنا جوعى للمعرفة . فالمعلومات تحتاج إلى معالجتها، حتّى يمكن أن تتحوّل إلى معارف مفيدة . و هنا تنشأ مشكلة جديدة .. في أوضاع الاستقرار النسبي، و عند التصدّي لمجرّد التحسين و التجويد، وفقا لنفس الأسس القائمة، تكفي عملية معالجة المعلومات و تحليلها للوصول إلى المعرفة المطلوبة . لكن الأمر يختلف عندما نسعى إلى فهم جديد لعناصر الواقع المستجد، و هنا تظهر أهمّية التفكير الابتكاري و الفهم القائم عليه .
فهم المعلومات، و المعارف الناتجة عنها، بأدوات و خبرات و نظريات و أوضاع قديمة منصرمة، لا يفيد في حل المشكلات أو إعادة البناء من أجل التوافق مع الأوضاع المستجدّة .

أولويات العمل

الفهم القائم على الابتكار، و على النظر إلى الأشياء بعين جديدة، و من منظور مختلف، هو الذّي يتيح تشكّل الرؤية الصحيحة المطلوبة، لما هو حادث و ما هو قادم .
و الوصول إلى الرؤية الشاملة، هو الذي يتيح لنا أن نحدّد الأولويات.. و هو أيضا الذي يوفّر لنا أمرا بالغ الأهمية، أعني بذلك الرؤية الواضحة للعلاقات المتبادلة بين هذه الأولويات، و علاقتها بالهدف الذي نسعى إليه .
عندما يتحقّق الفهم، و تتضح الرؤيـة، و تتحدّد الأولويات، يبدأ العمل بعد وضع استراتيجياته و خططه، و يمضي التنفيذ وفقا لتلك الخطط و أولوياتها . فالأولوية هي رأس الحربـة التي نقتحـم بها الواقع الحالي . و تحديد الأولويات يخرجنا من حالة الإغماء التي تصيبنا كلّما فكّرنا في عمليات إعادة البناء المطـلوبة، و هو الذي يتيح لنا أن مضي في مسارات معيّنة دون غيرها، و لا نفقد في الوقت نفسه العلاقة بين الأولوية و الهدف، و لا العلاقات المتبادلة بين تلك الأولويات .
حتّى الآن، كان حديثي منصبّا على صناعة القرار بشكل عام، بالنسبة للقيادات و الأفراد، من الوزير إلى مدير الشركة إلى رب الأسرة . و لكن، كيف ينطبق هذا على صناعة القرار في مصر الدولة ؟، كيف يتحوّل العلم و الفهم عند قيادة مصر إلى عمل ؟

معنى المشــكلة

المأزق الذي تحدّثنا عنه، يبدو أكثر استحكاما على مستوى القيادات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، عندما تتصدّى للمشاكل التي تتدافع حولها، دون سابق إنذار، و التي لا تجدي معها الحلول التقليدية و السوابق التي جرى الأخذ بها .
دعونا نتساءل : ما هي المشكلة ؟ ، و ما الذي يعنيه الواحد منّا عندما يقول أن مشكلة ظهرت له ؟
المشكلة ـ ببساطة ـ هي عبارة عن تغيير في بيئة النظام ، الداخلية او الخارجية، سواء كان ذلك النظام مركّبا كيميائيا، أم جسدا بشريا، أم فردا في مجتمع، أم شركة أو مؤسّسة، أم حكومة، أم منظّمة عالمية . إذا كان ما حدث اليوم، على نسق ما حدث أمس، فليست هناك مشكلة .. لكن إذا ما طرأ تغيير فيما يحيط بي من أشياء أو علاقات أو ظروف، شعرت بوجود مشكلة أو عدّة مشاكل . و أيضا، إذا ما حدث التغيير بداخلي، جسديا أو عاطفيا أو عقليا، شعرت بوجود مشكلة أو عدّة مشاكل .
و من هنا، لا تهبط علينا المشكلة من فراغ، أو مصادفة، إنّها النتيجة الطبيعية للتغيرات الخارجية أو الداخلية التي تطرأ علينا .
إذا كانت التغيّرات مسبوقة، أي شبيهة بتغيرات سابقة مررنا بها، أمكن التصدّي للمشاكل الناتجة عنها بحلول معروفة لنا، و جاهزة في رصيد خبراتنا، و هكذا تنتهي المشكلة . أمّا إذا كانت غير مسبوقة، فالأمر يقتضي أن نبتكر لها حلولا غير مسبوقة .
و هذا هو المأزق الذي تجد نفسها فيه قيادات العمل السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي حاليا، قيادات أقصى اليمين و حتّى أقصى اليسار .. إنّها تتعامل مع مشاكل جديدة، ساعية إلى حلّها بأدوات تقليدية قديمة . و هذا هو ما يجعل تصدّيها لحل المشاكل متمخّضا عن مشاكل أكبر، فتصبح عملية اتّخاذ القرار شاقّة و محبطة للغاية .


خريطة جديدة للتفكير

لقد تكلّمت من قبل عن " الفقّـاعة المنطقـية " الخاصّة التي يعيش فيها الفرد، و التي تستمدّ كيانها من مفاهيمه و مدركاته الخاصّة، تبدو أفكاره و ردود فعله داخلها منسجمة مع بعضها و منطقية للغاية .. و إذا كانت مفاهيمه عتيقة و مدركاته خاطئة، فإن هذه الأفكار و ردود الفعل تصبح غير منطقية و لا تقود إلى نتائج سليمة .
المطلوب من كل قائد سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي حاليا، أن يتخلّى عن فقّلعته المنطقية الخاصّة به، و أن يفهم أن التصدّي للمشاكل الحالية غير المسبوقة، يقتضي رسم خريطة جديدة للتفكير، تقوم على افتراضات و مدارك و مفاهيم جديدة، غير التقليدية السابقة، يمكن رسم طريق الحلول عليها .. و هذا هو ما يقودنا للوصول إلى القرار السليم في الوقت المناسب .
و هنا .. نصل إلى عمق المأزق ..
ما الذي يمكن أن يعتمد عليه القائد في عملية إرساء خريطة التفكير الجديدة، التي ستكون أداته للتصدّي للتغيّرات الزاحفة المتسارعة غير المسبوقة ؟.

الشائع حول حلّ المشاكل

الشائع حاليا ـ على مختلف المستويات ـ أن السبيل الأمثل لحلّ مشكلة ما، هو جمع أكبر قدر من البيانات عنها، و معالجة هذه البيانات، للوصل إلى معلومات عن الوضع .. و كذلك تحليل المشكلة إلى أصغر عناصرها، و الاعتماد على الجدل و المنطق في الوصول إلى حلّ لها .
لقد كان هذا ناجحا على مدى عشرات السنين، لحلّ المشاكل و تحسين مجال العمل و تجويد الإنتاج، عندما كانت المفاهيم و المدارك الأساسية و التي تأخذ بها الغالبية تتمتّع بحالة من الاستقرار النسبي، نتيجة لاستقرار العناصر الأساسية في أسلوب الحياة المأخوذ به .
غير أن هذا لم يعد كافيا للتعامل مع الواقع المستجدّ ..
و المطلوب حاليا، هو الوصول إلى طريقة أو منهج أو آلية تساعدنا على تغيير المفاهيم و المدارك، و إعادة النظر في الافتراضات التي قام عليها هيكل تفكيرنا التقليدي .. و هذا لا يتحقّق إلاّ بالاعتماد على التفكير الابتكاري، و آليّاته المتاحة .
السرّ في هذا أن تغيير المفاهيم ليس أمرا سهلا، ممّا يقتضي القيام بمناورة متعمّدة للتحلّل من سيطرة المفاهيم القديمة على العقل، و الخروج من الفقّاعة المنطقية التي نعيش داخلها، و التي تجعلنا نبدو ـ على غير الحقيقة ـ منطقيّين أمام أنفسنا .