الثلاثاء، يوليو ٢١، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

ما الذي ينقصنا ؟ ..
النظام ... هو المنطق الذي يحكم الحياة

قبل أن أتحدّث عن آخر محاولاتنا لتأسيس كيان مستقبلي معترف به، أورد لقاء يوضّح سر إصراري على تأسيس مثل ذلك الكيان، و مدى ارتباط ذلك بمصلحة مصر و شعب مصر . منذ عدّة سنوات، تلقيت دعوة من المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، رئيس تحير مجلة " الشباب "، لأحضر اللقاء الذي نظّمه بجريدة الأهرام، و الذي سيجمع بين العالم المصري الأمريكي الدكتور أحمد زويل، في أولى زياراته لمصر بعد ترشيحه لجائزة نوبل، و بين مجموعة من شباب مصر الذين يدرسون في كلية العلوم، التي تخرّج فيها د. زويل قبل ذلك بسنوات عديدة .
تتابعت أسئلة الشباب الطموح، يريد أن يستدل على طريق النجاح في تحقيق ذلك الطموح، طامعا في الاستفادة من خبرات الزميل السابق في كلية العلوم ! . و كان السؤال الذي يلحّ على الجميع، هو " لماذا نجح و تفوّق خارج مصر عندما سافر للدراسة في أمريكا ؟" . و كان من أهم ما قاله د. زويل، أنّ السر الأوّل لتفوّقه بالخارج هو وجود " نظام "، يسّر له أن يظهر أبعاد تفوّقه .
و تجرّأ أحد الطلبة و سأل " لماذا، و قد حققّ كل الذي حقّقه علميا في أمريكا، لا يعود إلى مصر و يواصل أبحاثه في جامعاتها، ليستفيد منه هو و أقرانه من طلبة العلوم ؟ " .. فقال بكل شجاعة ما معناه أن غياب " النظام " في مصر، لا يسمح له بتطوير كشوفه العلمية التي توصّل إليها هناك .. و قد أكبرت فيه هذه الشجاعة و الأمانة في القول .

عن أي " نظام " نتكلّم ؟ ..

و من المفيد أن نفهم معنى و أبعاد كلمة " النظام" التي أوردها د. زويل . النظام الذي نتحدّث عنه، لا يقتصر على النظام السياسي، و طبيعة الحكم، و الأسس الإدارية و التنفيذية التي نمضي وفقا لها، لكنّه يتضمّن ذلك كلّه، و يتجاوزه .. النظام " SYSTEM "، يعني المنطق الذي تقوم عليه حياتنا، و الذي نتمسّك به دائما في وجه المصاعب و المغريات، و الذي تنبع منه استراتيجياتنا و أولوياتنا .
مع كلّ ما يقال و يجري عندنا، ما الذي ينقصنا ؟ .. ما الذي يحول في مصر بيننا و بين التوصّل إلى النظام الأوفق المطلوب، الذي ترتقي في ظلّه الحكومات و الأفراد ؟ . و ما هو السرّ في عدم قدرتنا على تبنّي المنطق الأسلم، الذي يخلّصنا من النواقص الحالية، و يتيح لنا أن نحل مشاكلنا المتشابكة، دون أن يترتّب
على ذلك المزيد من المشاكل في المستقبل ؟ .. ذلك المنطق الذي يتيح لقدرات و طاقات شباب مصر العلمية و الفكرية أن تنطلق، بمثل ما انطلقت طاقات د. زويل ؟ .

بين عدم الرغبة، و عدم القدرة

هناك عدّة أسباب جوهرية تمنعنا من تحقيق ذلك الحلم و التوصّل إلى ذلك الفهم، تتراوح بين عدم الرغبة، و عدم القدرة، أهمّها :
أولا : تناقض الفهم المطلوب مع المصالح المستقرّة .
لا شكّ أن النظام الحالي، أو بمعنى أدق اللانظام الحالي، يتيح للبعض منافعا معنوية و اقتصادية، على حساب الآخرين . و أي تغيير في الأوضاع القائمة ، سيترتّب عليه ـ حتما ـ انتقاصا لهذه المصالح، التي لم تكن قائمة على أساس عادل، و من هنا تأتي المقاومة الشرسة لأي جهد يستهدف إرساء أشكال جديدة لمنطق حياة البشر في مصر .
ثانيا : عدم الرغبة في تغيير الثوابت التقليدية .
التغيّرات الكبرى، التي تفرض نفسها على حياة البشر، كالانتقال من الزراعة إلى الصناعة على سبيل المثال، تهزّ بعنف الثوابت التقليدية و التاريخية، و في نفس الوقت ترسي ثوابت جديدة، نابعة من طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها البشرية .
المشكلة تكمن في أن تلك الثوابت التقليدية، هي التي تتيح للأفراد التعامل مع الحياة، بأقلّ قدر من جهد التفكير و إعمال العقل . هذه الثوابت التاريخية ـ أيّا كانت درجة مصداقيتها ـ هي التي يستند إليها الأفراد في تحديد المواقف إزاء المستجدّات، و يعتمدون عليها في تسهيل عملية الاختيار بين البدائل المطروحة . لهذا، فإن الدعوة إلى إسقاط تلك الثوابت، أو تعديلها، يلقى مقاومة لاشعورية قوية . و في زمن التغيّرات الجذرية المتسارعة، الذي نمرّ به حاليا، يكون رد الفعل الغريزي لمعظمنا، هو التمسّك العصبي بهذه الثوابت، حتّى و لو لم تكن قادرة على الوصول بنا إلى برّ الأمان، وسط أمواج التغيير التي تدهمنا .
ثالثا : عدم القدرة على الفهم .
و هذا السبب يتّصل بقلّة من الأذكياء، غير المستفيدة ماديا أو معنويا من الوضع القائم، تؤمن بعدم جدوى التمسّك بالثوابت التقليدية أو التاريخية، تدرك جسامة التغيّرات الحالية، و ترصدها ة تدرسها، و تستخلص منها أفكارا، لكنّها تفعل ذلك كلّه معتمدة على الخبرات و النظريات و العقائد التي كانت سائدة قبل تدافع هذه التغيّرات . إنّها تستصعب فكرة استنباط منطق جديد، نابع من المتغيّرات، بينما نحن وسط دوّامتها، فتفشل في فهم جوهر المتغيرات، و استنتاج شكل الحياة التي تقود إليه .
هذه القلّة، رغم موقفها هذا، من الممكن أن ينعقد عليها الأمل، في ريادة حركة التغيير التي ترسي نظم حياتنا الجديدة، في مواجهة الانتهازية و الجمود الفكري .

النظام المعلوماتي ذاتي الترتيب

هذه القلّة الذكيّة المتحرّرة، المترفّعة عن المكاسب الانتهازية، يرجع عجزها لسبب لا ذنب لها فيه ! .. قد يبدو غريبا إذا ما قلنا أن ذلك السبب يتّصل بطبيعة عمل المخ البشري، كنظام معلوماتي ذاتي الترتيب . بمعنى أن نظمه تنبع من داخله، و ليس نتيجة لبرمجة من خارجه . الغرابة التي يمكن أن تبدو عليها مثل هذه الأقوال يمكن أن تتبدّد إذا ما تابعنا الطرح التالي .هناك نوعان من النظم المعلوماتية : النظم السـلبية، و النظم الإيجابية النشطة .. في النظم السلبية تكون المعلومات، و السطح الذي يجري
تسجيلها عليه، متّسمان بالسلبية و الركود . في هذه النظم يأتي كلّ النشاط و العمل من مصدر خارجي، يقوم بالربط بين المعلومات و تحريكها . أمّا في النظم الإيجابية النشطة، تكون المعلومات و السطح في حالة نشاط متّصل، و فيه تقوم المعلومات بتنظيم نفسها، دون عون من منظّم خارجي .. و هذا هو ما يشير إليه تعبير " ذاتية الترتيب " . و هذا هو النوع الذي ينتمي إليه المخّ البشري .

خريطة المخّ، و أمطار الجبل

شبكة الأعصاب في المخّ، تسمح للمعلومات الواردة أن تنظّم نفسها في تتابع من الأوضاع المستقرّة وقتيّا، ثم تمضي في أعقاب بعضها وفقا للنظام الخاص بها في المخّ . و خير مثال مادي لذلك، سفح الجبل الذي تسقط عليه الأمطار لأوّل مرّة، فيشقّ الماء مسالك عشوائية له، وفقا لتضاريس الجبل، و يمضي من خلالها إلى الوادي، صانعا النهر . و كلّما هبطت الأمطار بعد ذلك، اتخذت نفس المسارات، و عملت على تعميقها، أي أن الجبل قد أصبح نظاما ذاتي الترتيب، تمضي في الأمطار عبر المسالك المحفورة .
و هذا هو ما يجري في حالة المخّ البشري، المعلومات الواردة تقوم بترتيب نفسها على شكل تتابع من الخطوات . و مع الزمن، يصبح ذلك التتابع نوعا من المسارات و الأنماط المفضّلة للمخّ . هذه الأنماط، بعد تأسّيسها، تصبح مفيدة للغاية، إذ أنها تسمح لنا بالتعرّف على الأشياء . بمجرّد تنشيط النمط، نجد أنفسنا نسبح في اتجاهه، لنرى الأشياء وفقا لخبراتنا السابقة .
لهذا، كلّما نظرنا إلى الحياة حولنا نراها وفقا لأنماط و نماذج جاهزة لدينا . و هذا هو الذي يجعل عملية الإدراك عندنا على درجة عالية من القوّة و الكفاءة .
و لكن ما الذي يحدث إذا ما نشأت تغيّرات جذرية، تقيم حياتنا على أسس جديدة، و تجعل خبراتنا التقليدية غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد ؟ ..

و إلى الرسالة التالية لنتعرّف على طوق النجاة