ما الذي ينقصنا ؟ ..
النظام ... هو المنطق الذي يحكم الحياة
النظام ... هو المنطق الذي يحكم الحياة
قبل أن أتحدّث عن آخر محاولاتنا لتأسيس كيان مستقبلي معترف به، أورد لقاء يوضّح سر إصراري على تأسيس مثل ذلك الكيان، و مدى ارتباط ذلك بمصلحة مصر و شعب مصر . منذ عدّة سنوات، تلقيت دعوة من المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، رئيس تحير مجلة " الشباب "، لأحضر اللقاء الذي نظّمه بجريدة الأهرام، و الذي سيجمع بين العالم المصري الأمريكي الدكتور أحمد زويل، في أولى زياراته لمصر بعد ترشيحه لجائزة نوبل، و بين مجموعة من شباب مصر الذين يدرسون في كلية العلوم، التي تخرّج فيها د. زويل قبل ذلك بسنوات عديدة .
تتابعت أسئلة الشباب الطموح، يريد أن يستدل على طريق النجاح في تحقيق ذلك الطموح، طامعا في الاستفادة من خبرات الزميل السابق في كلية العلوم ! . و كان السؤال الذي يلحّ على الجميع، هو " لماذا نجح و تفوّق خارج مصر عندما سافر للدراسة في أمريكا ؟" . و كان من أهم ما قاله د. زويل، أنّ السر الأوّل لتفوّقه بالخارج هو وجود " نظام "، يسّر له أن يظهر أبعاد تفوّقه .
و تجرّأ أحد الطلبة و سأل " لماذا، و قد حققّ كل الذي حقّقه علميا في أمريكا، لا يعود إلى مصر و يواصل أبحاثه في جامعاتها، ليستفيد منه هو و أقرانه من طلبة العلوم ؟ " .. فقال بكل شجاعة ما معناه أن غياب " النظام " في مصر، لا يسمح له بتطوير كشوفه العلمية التي توصّل إليها هناك .. و قد أكبرت فيه هذه الشجاعة و الأمانة في القول .
عن أي " نظام " نتكلّم ؟ ..
و من المفيد أن نفهم معنى و أبعاد كلمة " النظام" التي أوردها د. زويل . النظام الذي نتحدّث عنه، لا يقتصر على النظام السياسي، و طبيعة الحكم، و الأسس الإدارية و التنفيذية التي نمضي وفقا لها، لكنّه يتضمّن ذلك كلّه، و يتجاوزه .. النظام " SYSTEM "، يعني المنطق الذي تقوم عليه حياتنا، و الذي نتمسّك به دائما في وجه المصاعب و المغريات، و الذي تنبع منه استراتيجياتنا و أولوياتنا .
مع كلّ ما يقال و يجري عندنا، ما الذي ينقصنا ؟ .. ما الذي يحول في مصر بيننا و بين التوصّل إلى النظام الأوفق المطلوب، الذي ترتقي في ظلّه الحكومات و الأفراد ؟ . و ما هو السرّ في عدم قدرتنا على تبنّي المنطق الأسلم، الذي يخلّصنا من النواقص الحالية، و يتيح لنا أن نحل مشاكلنا المتشابكة، دون أن يترتّب
على ذلك المزيد من المشاكل في المستقبل ؟ .. ذلك المنطق الذي يتيح لقدرات و طاقات شباب مصر العلمية و الفكرية أن تنطلق، بمثل ما انطلقت طاقات د. زويل ؟ .
بين عدم الرغبة، و عدم القدرة
هناك عدّة أسباب جوهرية تمنعنا من تحقيق ذلك الحلم و التوصّل إلى ذلك الفهم، تتراوح بين عدم الرغبة، و عدم القدرة، أهمّها :
أولا : تناقض الفهم المطلوب مع المصالح المستقرّة .
لا شكّ أن النظام الحالي، أو بمعنى أدق اللانظام الحالي، يتيح للبعض منافعا معنوية و اقتصادية، على حساب الآخرين . و أي تغيير في الأوضاع القائمة ، سيترتّب عليه ـ حتما ـ انتقاصا لهذه المصالح، التي لم تكن قائمة على أساس عادل، و من هنا تأتي المقاومة الشرسة لأي جهد يستهدف إرساء أشكال جديدة لمنطق حياة البشر في مصر .
ثانيا : عدم الرغبة في تغيير الثوابت التقليدية .
التغيّرات الكبرى، التي تفرض نفسها على حياة البشر، كالانتقال من الزراعة إلى الصناعة على سبيل المثال، تهزّ بعنف الثوابت التقليدية و التاريخية، و في نفس الوقت ترسي ثوابت جديدة، نابعة من طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها البشرية .
المشكلة تكمن في أن تلك الثوابت التقليدية، هي التي تتيح للأفراد التعامل مع الحياة، بأقلّ قدر من جهد التفكير و إعمال العقل . هذه الثوابت التاريخية ـ أيّا كانت درجة مصداقيتها ـ هي التي يستند إليها الأفراد في تحديد المواقف إزاء المستجدّات، و يعتمدون عليها في تسهيل عملية الاختيار بين البدائل المطروحة . لهذا، فإن الدعوة إلى إسقاط تلك الثوابت، أو تعديلها، يلقى مقاومة لاشعورية قوية . و في زمن التغيّرات الجذرية المتسارعة، الذي نمرّ به حاليا، يكون رد الفعل الغريزي لمعظمنا، هو التمسّك العصبي بهذه الثوابت، حتّى و لو لم تكن قادرة على الوصول بنا إلى برّ الأمان، وسط أمواج التغيير التي تدهمنا .
ثالثا : عدم القدرة على الفهم .
و هذا السبب يتّصل بقلّة من الأذكياء، غير المستفيدة ماديا أو معنويا من الوضع القائم، تؤمن بعدم جدوى التمسّك بالثوابت التقليدية أو التاريخية، تدرك جسامة التغيّرات الحالية، و ترصدها ة تدرسها، و تستخلص منها أفكارا، لكنّها تفعل ذلك كلّه معتمدة على الخبرات و النظريات و العقائد التي كانت سائدة قبل تدافع هذه التغيّرات . إنّها تستصعب فكرة استنباط منطق جديد، نابع من المتغيّرات، بينما نحن وسط دوّامتها، فتفشل في فهم جوهر المتغيرات، و استنتاج شكل الحياة التي تقود إليه .
هذه القلّة، رغم موقفها هذا، من الممكن أن ينعقد عليها الأمل، في ريادة حركة التغيير التي ترسي نظم حياتنا الجديدة، في مواجهة الانتهازية و الجمود الفكري .
النظام المعلوماتي ذاتي الترتيب
هذه القلّة الذكيّة المتحرّرة، المترفّعة عن المكاسب الانتهازية، يرجع عجزها لسبب لا ذنب لها فيه ! .. قد يبدو غريبا إذا ما قلنا أن ذلك السبب يتّصل بطبيعة عمل المخ البشري، كنظام معلوماتي ذاتي الترتيب . بمعنى أن نظمه تنبع من داخله، و ليس نتيجة لبرمجة من خارجه . الغرابة التي يمكن أن تبدو عليها مثل هذه الأقوال يمكن أن تتبدّد إذا ما تابعنا الطرح التالي .هناك نوعان من النظم المعلوماتية : النظم السـلبية، و النظم الإيجابية النشطة .. في النظم السلبية تكون المعلومات، و السطح الذي يجري
تسجيلها عليه، متّسمان بالسلبية و الركود . في هذه النظم يأتي كلّ النشاط و العمل من مصدر خارجي، يقوم بالربط بين المعلومات و تحريكها . أمّا في النظم الإيجابية النشطة، تكون المعلومات و السطح في حالة نشاط متّصل، و فيه تقوم المعلومات بتنظيم نفسها، دون عون من منظّم خارجي .. و هذا هو ما يشير إليه تعبير " ذاتية الترتيب " . و هذا هو النوع الذي ينتمي إليه المخّ البشري .
خريطة المخّ، و أمطار الجبل
شبكة الأعصاب في المخّ، تسمح للمعلومات الواردة أن تنظّم نفسها في تتابع من الأوضاع المستقرّة وقتيّا، ثم تمضي في أعقاب بعضها وفقا للنظام الخاص بها في المخّ . و خير مثال مادي لذلك، سفح الجبل الذي تسقط عليه الأمطار لأوّل مرّة، فيشقّ الماء مسالك عشوائية له، وفقا لتضاريس الجبل، و يمضي من خلالها إلى الوادي، صانعا النهر . و كلّما هبطت الأمطار بعد ذلك، اتخذت نفس المسارات، و عملت على تعميقها، أي أن الجبل قد أصبح نظاما ذاتي الترتيب، تمضي في الأمطار عبر المسالك المحفورة .
و هذا هو ما يجري في حالة المخّ البشري، المعلومات الواردة تقوم بترتيب نفسها على شكل تتابع من الخطوات . و مع الزمن، يصبح ذلك التتابع نوعا من المسارات و الأنماط المفضّلة للمخّ . هذه الأنماط، بعد تأسّيسها، تصبح مفيدة للغاية، إذ أنها تسمح لنا بالتعرّف على الأشياء . بمجرّد تنشيط النمط، نجد أنفسنا نسبح في اتجاهه، لنرى الأشياء وفقا لخبراتنا السابقة .
لهذا، كلّما نظرنا إلى الحياة حولنا نراها وفقا لأنماط و نماذج جاهزة لدينا . و هذا هو الذي يجعل عملية الإدراك عندنا على درجة عالية من القوّة و الكفاءة .
و لكن ما الذي يحدث إذا ما نشأت تغيّرات جذرية، تقيم حياتنا على أسس جديدة، و تجعل خبراتنا التقليدية غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد ؟ ..
و إلى الرسالة التالية لنتعرّف على طوق النجاة