الجمعة، أغسطس ١٠، ٢٠٠٧

غياب الرؤية عند النخبة .. هي مشكلة المشاكل عندنا


· : ما هي مشكلتنا الأساسية في مصر حاليا ؟ .. هل هي فقط
ـ سيطرة النظام الحاكم ؟ .
ـ ضعف الأحزاب ؟ .
ـ انتشار الفساد و نهب الموارد ؟ .
ـ غياب الديموقراطية، وعيا و تطبيقا ؟ .
ـ ضعفنا في مواجهة مخططات الرأسمالية العالمية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ؟ .
ـ عجز الدول العربية و الإسلامية عن خلق كيان واحد قوي ؟ .
· أم هي، قبل أي شيء آخر : سيادة التوجّه الغيبي، و الاعتماد على النقل و تغييب العقل ؟ .
و هي، و هو الأهم : فشل النخبة في التعامل مع الواقع العالمي الحالي شديد التغير، و عدم قدرتها على فهم المؤشرات الأساسية للتغيير، و انعكاساتها على حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسـية و منظومة القيم السائدة .
و هي، بنفس الدرجة من الأهمية، عدم قدرة القيادات الفكرية في مختلف المجالات على ممارسة التفكير الناقد، الذي يحرر العقل من قبضة التعوّد، و يسمح له أن ينظر إلى الأشياء في صورتها الحقيقية و حجمها الحالي الفعلي .. و عدم استعداد هذه القيادات للاعتماد على التفكير الابتكاري الذي يفتح أمامها أبواب الحلول الجديدة، غير المسبوقة، الصالحة للتعامل مع الواقع الجديد .
* * *
المشكلة الكبرى، هي أن هذا الذي أقوله يبدو أمام القيادات الفكرية المصرية، أشبه باللوغاريتمات غير المفهومة .. و غير اللازمة ! . و أنا هنا لا أتكلّم عن الانتهازيين من عبيد السلطة، و الأفاقين من أقطاب النشاط الاقتصادي، و المنافقين من محترفي الوعظ و الإرشاد .. أنا أتكلّم عن المصريين المحترمين المخلصين المتعلمين، الممسكين بناصية الثقافة و الفكر في مصر .. الذين باغتهم تغيّر الأرض التي يقفون عليها، و سقوط الأفكار و النظريات التي أفنوا حياتهم في دراستها، و الحصول على أعلى الشهادات و الجوائز فيها، فعزّ عيهم أن يتنازلوا عن حصيلتهم التي انتهت صلاحيتها، و أن يقفوا موقف الساعي إلى التحصيل، في مواجهة الواقع المستجد على الجميع .
و النتيجة ؟ .. هي أن هذه النخبة الفكرية أو الصفوة العقلية، في غيبة القدرة على التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري، راحت تتخـبّط في اجتهادات غير موفّقة، و غير قائمة على فهم حقيقي لما يحدث عندنا، و في العالم من حولنا ( مثال : إذا كان خبير القانون الدستوري لا يعلم شيئا عن البنية الأساسية لمجتمع المعلومات، هل يستطيع أن يشارك في بناء مصر، أو في وضع دستور لحساب مستقبل مصر ؟! ) .
* * *
حقائق مساعدة
هذا هو مجرّد تجميع لبعض الحقائق التي تستحق التفكير، للمساعدة في الوصول إلى الفهم اللازم للتعرّف على الرؤية المستقبلية الشاملة المطلوبة .
المجتمع البشري يمر بمرحلة تغيّر كبرى من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، و هي أكثر عمقا و أثرا من المرحلة التي سبقتها، عند التحوّل من مجتمع الزراعة إلى مجتمع الصناعة .. و هذا يعني أن هذا التحوّل يكون شاملا، يعيـد صياغة الأسس الاجتماعـية و الاقتصـادية و السياسية التي فرضها المجتمع الصناعي على مدى ما يزيد عن قرنين، كما يفرض منظومة جديدة للقيم
ـ نحن بصدد أسس جديدة لكل شيء في الحياة، و نظريات علمية جديدة في كل مجالات التخصص .. بل نحن بصدد سقوط علوم بأكملها، و ظهور علوم مستجدة أكثر اتفاقا مع تكنولوجيات عصر المعلومات ـ يترتّب على هذا، عدم صلاحية معظم خبرات مجتمع الصناعة للتعامل مع واقع مجتمع المعلومات .
ـ و بنـاء عليه، يكون على كبار الخبراء في نواحي نشاطنا الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي، الذين تأسست معارفهم و خبراتهم و فق علوم و نظريات عصر الصناعة، أن يتعرّفوا على أبعاد التغيرات التي حدثت في مجال نشاطهم، حتّى يعيدوا النظر فيما استقر عليه رأيهم طويلا .. و حتّى يتخلّصوا من تناقضهم مع الواقع الجديد للبشر .
يجب أن يتوقّف الجدل العبثي ، حول : بأيهما نبدأ الإصلاح الاقتصادي أم الإصلاح السياسي ؟ .. إنقاذ التعليم من الحضيض الذي وصل إليه، أم محاولة تخفيف عبء الحياة على العاملين، أم السعي إلى خلق فرص عمل جديدة حقيقية لمواجهة تفاقم مشكلة البطالة ؟ .. في ظل التغيرات التي تحدثنا عنها لن تنجح أي محاولة جزئية للإصلاح أو إعادة البناء في هذا الجانب أم ذاك، دون أن ينبع ذلك كلّه من رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تربط بين التحولات البشرية العامة و الواقع الحقيقي المعاصر لمصر .. و ترسم على أساسها الاستراتيجيات و الخطط .
علينا أن توقّف على تعليق سيادة النقل على العقل فوق شماعة جماعة الإخوان المسلمين، و غيرها من الجماعات الشبيهة، أو على التأثيرات الوهابية القادمة من السعودية .. فالحقيقة أن النظام الحاكم في مصر ـ على مدى ما يزيد عن نصف قرن ـ كان مصرّا على فرض الأوضاع التي ترسّخ وجوده، اعتمادا على مجموعة من العقائد المتناقضة ـ يسارا و يمينا ـ مع الحرص دائما على تحجيم قدرة الإنسان المصري على التفكير المثمر، من المهد إلى اللحد .
يجب أن نسعى بجد إلى فهم طبيعة التغيرات الحقيقية التي يأتي بها مجتمع المعلومات، و أن نميّز بينها و بين حملات التضليل التي تسعى بها الرأسمالية العالمية الكبرى إلى الاستيلاء على مكاسب البشر من هذا المجتمع، و تزوير الحقائق لحساب المزيد من المكاسب .. عدم الفهم الجيّد لطبيعة مجتمع المعلومات أتاح لعملاء الرأسمالية أن يفرغوا مبدأ العولمة من مضمونه الإيجابي الحقيقي، و يحولونه إلى مجموعة من الإجراءات التي تضاعف سيطرتهم .
حقيقة هامّة و أخيرة
لا تتحقّق الأشياء لمجرّد أننا نستحسنها، أو نراها الأفضل و الأمثل .. بل تفرض نفسها نتيجة لنوع الحياة التي نختارها . و الخيار الأهم بالنسبة لنا هو التحوّل إلى مجتمع المعلومات، و تدارك ما تخلّفنا عنه في هذا المجال، و سبقتنا إليه العديد من الدول في مختلف قارات العالم
· و حتّى نفهم هذا، نقول أن الرقّ أو نظام العبيد، ظلّ سائدا على مدي عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة، رغم كل ما نادى به المصلحون، و تغنّى به الشعراء، و قام به الثوّار .. و لم يبدأ انقضاء نظام الرق إلاّ بسيادة عصر الصناعة، باعتبار أن طبيعة العمل الصناعي لا تحتاج إلى شراء لحم و دم العامل، بل تكتفي بجهده .
· و نفس الشيْ ينسحب على قضية مساواة المرأة بالرجل، و التي لم تتحقق طوال عصر الصناعة في أكثر الدول تقدما .. نتيجة لأن طبيعة العمل العضلي السائد في عصر الصناعة، كان متناقضا مع قدرات المرأة ( خاصّة في ظروف الحمل و الولادة و الإرضاع ) . و الانتقال من العمل العضلي إلى العمل العقلي في مجتمع المعلومات، سيضعف العوائق السابقة .
· ·
هل يوجد في مصر من يشعر بأهمية هذا ؟

في إعادة بناء التعليم .. لم ينجح أحد

لماذا يفشل الخبراء الأذكياء ؟ ..
في إعادة بناء التعلـيم .. لم ينجح أحـد !
بـداية، يجب أن نتّفق على بعض الحقائق :
· نحن في زمن تغيير جـذري متسارع، ينقلنا إلى واقع جديد، لا تفيد خبراتنا السـابقة في التعامل معه .
· الحلول الجزئية المنفصلة، لا تصلح إلاّ في حالات الثبات النسبي، و استقرار الأسس التي تقوم عليها الحياة .
· في حالة التغيير الشامل، لا بد من التعرّف على مؤشرات ذلك التغيير الأساسية، متنامية التأثير .. تمهيدا للتفكير في إرساء إطار رؤية مستقبلية شاملة تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط .
· في عمليات إعادة البناء ، نعتمد على الرؤية المستقبلية الشاملة، في ضمان التوافق بين مختلف العمليات في مختلف المجالات .. فلا يجوز ـ مثلا ـ أن نحاول إعادة بناء التعليم، دون أن يحدث هذا بشكل متزامن مع إعادة بناء الاقتصاد، و العمل، و الممارسة السياسية .
· لن تفيد الخبرة، و لن يفيد الذكاء، ما لم يتم توظيفهما في إطار المنهـج الذي يسمح بتكوين الرؤية المستقبلية الشاملة .
حقائق مسـاعدة :
· يفيدنا أن ننظر إلى التاريخ باعتباره تتابعا لمراحل كبرى، تحددها طبيعة التكنولوجيات الأساسية، التي تعتمد عليها العمالة السائدة، و ليس كتتابع ممالك و إمبراطوريات، و حروب و غزوات .
· مثال ذلك، الحياة في العصر الذي كانت فيه الزراعة هي العمالة السائدة ، في أي مكان على الأرض.. على مدى عشرة آلاف سنة، سادت نفس الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و نفس منظومة القيم الخاصّة .. مع كل الاختلاف بين الجنسيات و الأعراق .. و مع تتابع و تباين الحضارات الإقليمية .
· في انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، يفيدنا أن نستفيد من دراسة طبيعة التحولات التي حدثت، عند الانتقال من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة .
التعليم .. و الفيل الشهير !
خير مثال على التخبّط، و هزيمة الذكاء و الخبرة، موضوع التعليم في مصر .. كلما تابعت حوارات المختصين و المجتهدين، على شاشات التلفزيون أو في الصحف، أو حتّى في المؤتمرات المتخصصة، تذكرت قصة الفيل و المكفوفين الستة ..
و القصّة ـ لمن لا يعرفها ـ تقول أن ستّة من المكفوفين مضوا في الغابة، فصادفوا فيلا لأول مرّة في حياتهم . و قفوا حوله، و حاول كل واحد منهم أن يصفه من واقع الجزء القريب منه .. الذي تحسس خرطومه، قال أنه يشبه الثعبان .. و الذي أمسك ساقه قال أنه عمود ضخم .. و الذي تحسس أذنه، قال أنه رقيق مفلطح .. إلى آخر القصة . و العبرة غير خافية " عند النظر إلى المستجد، لا تنفع النظرة الجزئية " .
و أحدث تجربة لي كانت مع حلقة في برنامج "البيت بيتك" بالقناة المصرية الثانية، أدارها الأستاذ محمود سعد، و شارك فيها عدد من الخبراء، مسئولين و غير مسئولين .. في نهاية الحلقة بدا محمود سعد حائرا، لم يقتنع ـ مثلي ـ بشيء من الذي قيل، فناشد كل من شاهد البرنامج من الكتاب و المفكرين أن يسهموا بجهدهم في محاولة الوصول إلى كلام معقول مقنع ! ..
بفضل توجيهات السيد الرئيس !
أطمئن الأخ محمود : لقد تحدثت بالتفصيل عن التعليم في مجتمع المعلومات، و عن خصائص إنسان عصر المعلومات، و كيف تختلف عن خصائص إنسان عصر الصناعة، و التي اختلفت عن خصائص إنسان عصر الزراعة .. تحدثت في هذا على القناة المصرية الأولى، عام 1995، في وقت يعتبر جيدا ـ بعد نشرة التاسعة مساء ـ و على مدى عشرات الحلقات !.. ومع ذلك لم يحاول أهل الخبرة و الذكاء، من المسئولين في وزارة التعليم، و من هم أعلى منهم في المستوى، أن يفهموا أو أن يستفيدوا ..
كل الذي حدث: هو أنني اكتسبت عداوة الوزير، الذي اشتهر بترديده عبارة " بفضل توجيهات السيد الرئيس "، و بادعاءاته حول " النهضة التعليمية في مصر التي يتحدّث عنها الخبراء العالميين، من أمريكا و غيرها (!) ..
و النتيجة : زادت أحوال التعليم سوءا، حتّى وصلنا إلى الوضع المشين الحالي، الذي ستظهر مخاطره في العقود القادمة .
أقول للأخ محمود : إعادة بناء التعليم، بحيث يساهم في بناء إنسان مجتمع المعلومات، لا يمكن أن يتم بمعزل عن رؤية مستقبلية عامة، تنبع منها الأولويات و فق الإمكانات، و تتم بالتنسيق ـ على سبيل المثال ـ مع عمليات إعادة البناء التالية :
· إعادة بناء الإعلام الفعّال، الذي يلتزم بالمصداقية، و الذي يحمل رسالة الشعب إلى الحكومة، في نفس الوقت الذي يحمل فيه رسالة الحكومة إلى الشعب .
· و إعادة بناء الممارسة السياسية، بعيدا عن التشوهات و الأكاذيب الحالية، لكي نحقق الديموقراطية القائمة على المشاركة الفعلية للشعب، في القواعد، و دون توكيل أو تمثيل .
· و إعادة بناء نشاط المجتمع المدني، باعتباره السند الحقيقي للنمو و التصحيح، و ليس الخصم الذي يجري التضييق عليه، بكل الوسائل الممكنة .
· و إعادة بناء الاقتصاد، على أساس فهم الطبيعة الجديدة لاقتصاد مجتمع المعلومات، و على أساس فهم الاختلاف الجذري بين اقتصاد السلع، و اقتصاد المعلومات، و الشكل الجديد لقانون الملكية .. و على أساس السعي لجبر عمليات الانفصال التي أحدثها عصر الصناعة : بين العاملين و أصحاب العمل، و بين المستهلكين و المنتجين، و بين المدخرين و المستثمرين، و أخيرا بين الإنسان و الطبيعة .
المخترعون يمتنعون !
و ما أدعو إليه، ليس خوضا في المجهول، أو تنبؤا من تنبؤات نوستراداموس، أو هو اختراعا من اختراعات كونداليزا رايس من نمط " الفوضى الخلاّقة " ..أنا أدعو إلى جهد من التفكير العلمي الجاد المنظّم، مع قدرة على فهم الأشياء من خلال التفكير الناقد، الذي يهتم بمراجعة الافتراضات و السياقات، و استعداد لممارسة التفكير الابتكاري الذي يخلصّنا من سيطرة الفكر التقليدي على عقولنا، من أجل :
· أن نعرف طبيعة الحياة التي يمضي إليها البشر، في ظل النظام الجديد .. نظام مجتمع المعلومات .
· أن نعرف طبيعة الإنسان المنسجم مع المجتمع الجديد، المستفيد منه، المساهم في تطويره و تنميته، حتّى نختار نظم الحياة و التعليم و الحكم و التفكير التي تساعد على ذلك .
· أن تكون لدينا الشجاعة للتخلّي عن كل ما هو متناقض مع صالح الحياة التي نختارها، من مخلّفات الماضي المنصرم .
هذا هو الحد الأدنى من الجهد المطلوب، حتى نصل إلى الذكاء الإيجابي، و الخبرة المعاصرة .. ممّا يساعدنا على معرفة ما هو مطلوب لكي نصل إلى تعليم مجتمع المعلومات، و ليس إلى إحياء تعليم مجتمع الصناعة، استجابة لنوستالجيا قدامى رجال التعليم ..
و إلى حديث تفصيلي عن تعليم مجتمع المعلومات ـ لمن له صبر المتابعة ـ في مقال قادم
.