الجمعة، أبريل ٢٤، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

خصــوم المسـتقبل

بين المستقبل و التنبؤات الجوّية

في بدايات اهتمامي بالمستقبل و الرؤية المستقبلية، و خلال لقائي بالجمهور، كان يتردد سؤال حول مشروعية التفكير المستقبلي، باعتبار أن المستقبل بيد الله . فكنت أقول أن ما أفعله، و يفعله معظم المفكرين المستقبليين، هو البحث عن الاحتمالات الأقوى لما يجري من تغيير في حياة البشر، و عن أثر ذلك التغيير على حياتنا القادمة، حتّى نستعد له .
كنت أعطي مثالا بالتنبؤات الجوّية التي ترد كل يوم في النشرات الجوّية . فخبراء الأحوال الجوّية، يرصدون حركة الرياح و تغيّرات الضغط، و غير ذلك من المؤثّرات، ليقدموا لنا أقوى الاحتمالات في حالة الطقس للغد، و ربما الأيام التي تليه . و الإنسان العاقل، يقرأ هذه النشرة، فيستعد لغده بالطريقة المناسبة . إذا كان الطقس سيكون باردا، يعمد إلى ارتداء الثقيل من الملابس، و إذا كان ممطرا، يحمل مظلّته لاتّقاء الأمطار، و هكذا ..
إن ما يفعله المفكّر المستقبلي، هو أقرب ما يكون إلى هذا : التعرّف على الاحتمالات الغد، للبحث عن أفضل الوسائل لمواجهتها .

الخوف من التغيير

رغم أنّ التغيير هو سنّة الحياة، فمعظمنا يخافه، إلى حدّ إنكار حدوثه مهما بدا واضحا . فالتغيير معناه عدم القدرة على مواصلة الحياة بنفس الطريقة التي اعتدنا عليها، ممّا يتطلّب البحث عن طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء و التعامل معها .
و في مصر، يظهر هذا الخوف بشكل أعمق، نتيجة لبقاء نسبة كبيرة من النمط الزراعي في حياتنا . فالمجتمع الزراعي لم يكن يعرف التغيير إلاّ بمرور أزمان طويلة، كانت التغيرات التكنولوجية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بطيئة للغاية . و ربما كان يمضي عمر الإنسان في المجتمع الزراعي دون أن يصطدم بأي من التغيّرات .
و عندما قامت الثورة الصناعية في الدول الكبرى، تتابعت التغيّرات الجذرية، و تغيّرت الأسس التي تقوم عليها الحياة، و سعى أبناء تلك الدول إلى إعادة بناء حياتهم على الأسس الجديدة . أمّا نحن، فنتيجة لظروف الاسـتعمار المتتابعة، فقد فرضـت علينا بعض الأوضاع الجديدة، و قبل بها البعض، رغم تناقضها مع خريطة التطوّر الفعلية في مصر، و عدم اقتحامنا لمقتضيات المجتمع الصناعي . أي أننا لم نتعامل مع التغيير مباشرة، و إنّما تعاملنا معه بالوكالة ! .
و مع انقضاء عصر الصناعة في منتصف القرن الماضي، انفجرت ثورة تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات في أنحاء العالم، و أصبحت التغيّرات متلاحقة متسارعة، و ظهرت الحاجة الشديدة للتفكير المستقبلي في الدول المتطورة، لرصد مؤشّرات التحوّل، و دراسة العلاقات المتبادلة بين هذه المؤشّرات، في محاولة لإرساء رؤية مستقبلية تساعد على إعادة البناء في مجالات الحياة المختلفة، بما ينسجم مع الأوضاع المستجدّة .
مع أننا تخلّصنا من الاستعمار في ذلك الوقت، لكن الأوضاع السياسية للمنطقة و العالم شغلتنا عن التفكير المستقبلي الجاد، و اكتفينا بتبنّي ما يصل إلينا من الدول التي سبقتنا في مضمار التقدّم . لم يكن باستطاعتنا أن نتصدّى لذلك الجهد، للبحث عن آفاق مستقبلنا في مصر، نتيجة لشيوع التفكير التقليدي، و لإصرارنا على التعامل مع الواقع الجديد بأدواتنا القديمة .
لهذا أدركت أهميّة التأكيد على ضرورة تبنّي منهج تفكير جديد، يساعدنا على فهم الواقع الجديد و التعامل معه . و من ثمّ، طرحت موضوع التفكير الناقد في كتاباتي أكثر من مرّة، باعتباره الحد الأدنى من التفكير الذي يساعد على الدخول إلى المستقبل .

التفكيـر الناقـد

كان المصطلح جديدا علينا في مصر، رغم اعتماد عدد من صفوة المفكّرين المصريين لجوهره... كان من الضروري إن أطرحه بشكل مبسّط و متكرر، على أمل إنقاذنا من الخوف المرضي الذي يسببه التغيير، و على أمل التخلّص من أسر الأفكار و المبادئ و العقائد القديمة، التي تسيطر على تفكيرنا، بل و على تفكير الطبقات المتعلّمة عندنا .
سعيت إلى التعرّف على أحدث المدارس التي تجيب على سؤال محدّد : كيف يجب أن نفكّر اليوم ؟ . و من بين مدارس " التفكير الواضح " و " التفكير الاختراقي "، وجدت أن مدرسة " التفكير الناقد " هي التي تشتدّ حاجتنا إليها في مصر .
يقول ستيفن بروكفيلد، الأستاذ بجامعة كولومبيا، في كنابه " تطوير ممارسة التفكير الناقد "، أن التفكير الناقد نشاط مثمر و إيجابي . و أنّه عملية و ليس نتيجة، ففيه نتساءل بشكل متواصل حول الافتراضات المستقرّة، و لا نتصوّر يوما أننا وصلنا إلى الحقيقة الشاملة . و هو لا ينكر التأثير العاطفي للتفكير الناقد، فطرح أسئلة ناقـدة حول قيمـنا و أفكارنا و أنماط سلوكنا، التي التزمنا بها طويلا، يثير لدينا القلق، لكنّنا نشعر بالراحة عندما ننجح في الوصول إلى طرق جديدة .

و يطرح بروكفيلد أربعة مكوّنات أساسية للتفكير الناقد :

( 1 ) التعرّف على الافتراضات و تحدّيها : ممارس التفكير الناقد يبدأ بالتعرّف على الافتراضات التي تقوم عليها أفكاره و قيمه و أسس عمله . ثمّ عليه أن يمتحن مدى مصداقيّتها حاليا، سواء كانت تتّصل بطريقته في تنظيم عمله، أو بتوجّهاته السياسية، أو بأسس علاقاته الحميمة مع الآخرين . إنه يتساءل عن مصداقية الرؤى التي تتدفّق عليه من تصريحات المسئولين و من وسائل الإعلام . وهو يكون مستعدّا للتخلّي عن تلك الافتراضات القديمة، عند اكتشاف عدم توافقها مع واقع حياته الحالي، و البحث عن افتراضات بديلة أكثر انسجاما مع خبراته العملية المعاصرة .
( 2 ) أهمّية تحدّي السياق : ممارس التفكر الناقد يكون واعيا بأن الممارسات و التصرّفات و الهياكل تخرج دائما من سياق معين، يعكس الثقافة و العصر الذي عشنا فيه . و من هنا تجيء أهمّية الوعي بالسياق الذي يخرج منه كلّ شيء في حياتنا .
( 3 ) تصوّر و استكشاف البدائل : التفكير الناقد يتضمّن القدرة على تخيّل و استكشاف بدائل لطرقنا الحالية في التفكير و الحياة .
( 4 ) التشكّك التأمّلي : عندما نتحقّق من وجود بدائل لما هو ثابت في عقائدنا و سلوكياتنا، و ما ارتضيناه من هياكل لحياتنا الاجتماعية، نصبح أكثر تشكّكا في دعاوى الحقيقة المطلقة أو النهائية . هذا هو ما يطلق عليه بروكفيلد اسم " التشكّك التأمّلي " . فمجرّد قبول الفكرة من الجميع، أو لزمن طويل، لا يعني أن نصدّقها دون مراجعتها أوّلا، و بعد التأكّد من عدم تناقضها مع واقعنا الراهن .

* * *

يقول بروكفيلد أن ممارس التفكير الناقد ينشغل بخلق و إعادة خلق حياته الشخصية و العملية و السياسية . وهو لا يأخذ عناصر هويته كأمر واقع، بل يكون مدركا للآفاق الواسعة لمجالات تنمية خبراته . و هو يرى المستقبل مفتوحا لجهده و تأثيره، و ينظر إلى العالم باعتباره قابلا للتغيير، من خلال الجهد الشخصي و الجماعي، بالتضامن مع الآخرين الذين يشاركونه رؤيته .
هذه فكرة عاجلة، وشديدة الاختصار، لعملية التفكير الناقد، التي أجدها ضرورية لكل من يسعى إلى التفكير في الحاضر و يحاول استشراف المستقبل ...

و قد تأكدت من أهمية التكير الناقد عند مواجهتي لنوعيات من خصوم التفكير المستقبلي .. و إلى الرسالة التالية .