الأحد، فبراير ٠٣، ٢٠٠٨

اقتصاد عالمي جديد لكوكب الأرض


لقاء المفكّر المستقبلي الياباني ماسودا في سالزبورج

الدول النامية

و كيف تعبر إلى مجتمع المعلومات
قبل أن تستكمل نموّها الصناعي ؟

في مدينة سالزبورج الجميلة بالنمسا، حضرت منذ ما يزيد عن عشر سنوات أحد مؤتمرات "جمعية مستقبل العالم"، كعضو محترف . و بعد أن ألقيت كلمتي، حول تصوّري لإمكان عبور دول العالم الثالث إلى مجتمع المعلومات، بالرغم من عدم إستكمالها لنموّها الصناعي، قال لي أحد المسئولين عن الجمعية أن يونيجي يريد أن يتحدّث معي حول هذا الموضوع . كانت هي المرّة الأولى التي ألتقي فيها بالمفكّر الياباني يونيجي ماسودا، وكانت الأخيرة إذ أنّه رحل عن عالمنا بعد ذلك اللقاء بثلاثة أعوام .
كان ماسودا في ذلك الوقت يقترب من التسعين، بطيئ الحركة، خافت الحديث . قال أنّه مهتمّ بموضوع دخول الدول النامية إلى مجتمع المعلومات، و أنّه قد أفرد لذلك فصلاً كاملاً في كتابه عن "مجتمع المعلومات" . و عندما سألته عن إمكان الحصول على ترجمة إنجليزية لذلك الفصل، إبتسم قائلا أن الترجمة الإنجليزية للكتاب قد ظهرت في الأسواق حديثاً
حرصت على أن أحصل على نسخة من الكتاب، و سعدت بقراءته .. و عرفت من هو ماسودا الذي كنت أتحدّث معه . إكتشفت أن ماسودا كان ضمن المجموعة الرائدة التي بادرت بوضع بيان، حول خطّة تطوير اليابان معلوماتيا، تمهيداً لدخولها إلى مجتمع المعلومات . و عرفت أنّه لم يقتصر على التفكير والتخطيط، بل عمل كمدير تنفيذي للهيئة التي أشرفت على إنجاز مهمّة تحويل اليابان، من عام1972 وحتّى عام 1985. تلك المهمّة التي رصدت لها الحكومة اليابانية استثمارات بلغت 65 بليون دولارا .

فجوة التخلّف المزدوجة

يقول ماسودا أن فجوة التخلّف في تكنولوجيا المعلومات بين الدول النامية و الدول الصناعية، تعتبر أكثر خطورة من فجوة التخلّف الصناعي التي تفصل بينهما . فالفجوة الصناعية تكون وليدة قصور في تكنولوجيات الإنتاج، و العقبة الأساسية في سبيل تجاوزها، تكمن في عجز الموارد المالية بالدول النامية. لكن الفجوة المعلوماتية، تعني الغياب النسبي لتكنولوجيا معالجة و نقل المعلومات، ممّا يدخل فيه العامل البشري، و مدى التطوّر الفكري، و قدر تطوّر الأنماط السلوكية، في هذه الدول
هذه العقبة، الخاصّة بالتحوّل التكنولوجي، و إستعداد البشر للتعامل مع هذا التحوّل، تعتبر أكثر صعوبة في تخطَيها، إذا قيست بعقبة نقص الموارد المالية، التي يمكن تخطيها بضربة حظ مالية، مثل إكتشاف البترول أو الغاز أو الخامات الأولية الثمينة .
مخاطر إستمرارهذه الفجوة " المعلوماتية -الصناعية " المزدوجة، بالنسبة للدول النامية، يقود -في تقدير ماسودا- إلى خصومات فوضوية حادّة، تشيع كالوباء بين الجنس البشري بأكمله . و هو يرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب

أولا : تزايد الإنقطاع الحضاري
الملاحظ أن شعوب الدول النامية، يتوفّرلدي بعضها الفضول الإيجابي والإهتمام بإنتاج الدول المتطوّرة، و هذا يتيح لها تنفيذ خطّة الدخول إلى الصناعة . إلاّ أن الفجوة المجتمعية بين شعوب الدول الصناعية المتطوّرة و شعوب هذه الدول النامية، تحدث إنفصاماً حضاريا و ثقافيا كاملا . هذه الفجوة الحضارية، تقف حائلا امام الإتّصال العقلي، الضروري لقيام التفاهم المتبادل
ثانيا : الموارد و البيئة و الإنفجار السكّاني
الكثير من الدول النامية، سعت إلى تحقيق أهدافها القومية في التصنيع و التحديث، و تطوير مستويات الحياة . لكن إذا واصلت هذه الدول النامية إندفاعها في إتّجاه التصنيع، بإتباع نفس المسار الذي إتّبعته الدول المصنّعة سابقا، فستصبح مهمّتها في حلّ مشاكلها الجارية أكثر صعوبة . و نعني بذلك المشاكل التي من قبيل إستنزاف الموارد الطبيعية، و تخريب المحيط الطبيعي، و الإنفجار السكّاني . و هذا، يقود الدول النامية إلى مواجهة العديد من الأزمات و الكوارث

ثالثا : التنمية المشوّهة، في إتّجاه العسكرية و الشمولية
دخول الدول الصناعية إلى مجتمع المعلومات، قد يتم بطريقة مشوّهة للغاية، تقود إلى قيام نظم عسكرية، ذات طبيعة ديكتاتورية شمولية . و قد يتمخّض هذا عن مزيد من التناقضات بين الدول المتطوّرة و الدول النامية، و عن خصومات حادّة و صراعات أمنية . و سيجعل هذا الدول الصناعية المتطوّرة أكثر ميلاً إلى إستخدام التكنولوجيات المعلوماتية في الأغراض العسكرية . كما أن تخلّف الدول النامية عن الدخول إلى مجتمع المعلومات، يغري الدول المتقدّمة باستخدام هذه التكنولوجيات سلمياً، للتحكّم في حياة أفراد الدول النامية، و نشاطاتهم الإجتماعية
التصنيع و المعلوماتية معاً

يرى يونيجي ماسودا أن التصدّي لهذه الإحتمالات المخيفة، لا يكون إلاّ بتقريب جانبي الفجوة "الصناعية-المعلوماتية" المزدوجة، بهدف تجاوزها نهائياً . و السبيل إلى ذلك، هو التطوير المتزامن لتكنولوجيا التصنيع و تكنولوجيا المعلومات، في الدول النامية . إذا تم هذا بالوسائل و المناهج المناسبة، يمكن أن يساهم في خلق نظام عالمي شامل جديد .
و ما يعنيه ماسودا بالوسائل و المناهج المناسبة، هو
أولا : ضرورة إقامة نظم للمساعدات التقنيّة الدولية، بقيادة حكومية .
ثانبا : إدخال التكنولوجيا الصناعية، يكون بالتأكيد على الصناعات الخالية من مسبّبات التلوّث، و غير المستنفذة للموارد، و المعتمدة على العمالة العقلية .
ثالثا : إدخال التكنولوجيا المعلوماتية، يكون بالتأكيد على إنشاء بنية تحتية معلوماتية، و التركيز على الأنظمة المعلوماتية الإجتماعية، بما في ذلك النظم الصحّية و التعليمية
تصنيف الدول النامية

بالنسبة للبند الأوّل، الخاص بنظم المساعدات التقنية، يؤكّد ماسودا على أهمّية الإنتباه إلى عدم القيام بزرع نظم نمطيّة موحّدة، بالنسبة لجميع الدول النامية . و يطالب بتنوّع في أنماط المساعدة التقنية، وفقاً للتباين الشديد و التمايز الواسع بين الدول النامية حاليّاً .
و مع ذلك، فهو يحاول تصنيف الدول النامية في مجموعتين أساسيّتين :
الأولى هي الدول التي أنجزت -فعلاً- المرحلة الأولى الأساسية في التصنيع، ممّا يجوز معه وصفها بالدول نصف المتطوّرة .
أمّا الثانية فهي الدول التي لم تبدأ بعد التصنيع، و هذه تنقسم إلى:(ا) دول غنيّة بمواردها الطبيعية، (ب) دول فقيرة، تعتمد في الأغلب على الزراعة و الثروة الحيوانية .
الدول نصف المتطوّرة، بإمكانها أن تتبع سياسة التعاون بين رأس المال القومي و رأس المال الأجنبي أمّا الدول النامية الغنيّة بمواردها، فيكون عليها أن تعتمد على رأس مال الدولة، في إدخال التكنولوجيات المتقدّمة . و لا يكون أمام الدول الفقيرة سوى أن تتلقّى المساعدات التكنولوجية من الدول المتطوّرة
نظام جديد لتقسيم العمل دولياً

بالنسبة للبند الثاني، بند إدخال التكنولوجيات الصناعية في الدول النامية، يقول ماسودا أن الدول الغنيّة بمواردها الطبيعية، يكون من الضروري لها أن تعتمد على الصناعات التي تتضمّن توفيرا في العمالة الفنّية( المديرون و المهندسون)، و ذلك ضمن خطوات النظام الدولي الجديد لتقسيم العمل، و من أجل التطوّر الإقتصادي لهذه الدول .
و يرى ماسودا أنّه من المتوقّع، في ظل النظام الدولي الجديد لتقسيم العمل، أن يوكل أمر صناعات الحديد و الصلب، و تكرير البترول، بشكل أساسي، إلى الدول التي تتوفّر فيها المواد الخام . و من هنا، وجب الإهتمام بتقديم المساعدات إلى هذه الدول، فيما يتّصل بالتكنولوجيات المانعة لتلوّث البيئة .
و هو يرى ضرورة إعتبار الحفاظ على الموارد الطبيعية مسئولية دولية، تتقاسمها الدول الصناعية المتطوّرة و الدول النامية معاً .
و إدخال التكنولوجيات الصناعية الموفّرة للعمالة العقلية -في رأيه- يكون له أثره المزدوج : ففيه حلّ لمشكلة النقص في المديرين و المهندسين، بالإضافة إلى أن هذه التكنولوجيات الصناعية، لا يمكن فصلها عن التكنولوجيات المعلوماتية المتقدّمة، و من ثمّ فإن الأخذ بها يمكن أن ينظر إليه بإعتباره أحد أشكال إدخال التكنولوجيا المعلوماتية
البنية التحتيّة المعلوماتية

و أخيرا، نصل إلى البند الثالث، الذي يتّصل بإدخال التكنولوجيا المعلوماتية . لقد أثبتت التجربة العملية، أنّه بالنسبة للدول الفقيرة المحرومة من الموارد الطبيعية، و التي تتصدّى لإقامة البنية التحتية الأولى للمعلومات، من الضروري قيامها بإنشاء شبكة إتّصالات، على إتّساع الدولة . و يجب أن تتجاوز هذه الشبكة خطوط الإتّصال للبرق و التليفون، إلى إقامة شبكة إتّصال رقمية(إلكترونية)، تسمح باستخدام الكمبيوتر في نقل و تبادل المعلومات، و تكون ضمن شبكة المعلومات العالمية التي تعتمد على الأقمار الإصطناعية للإتّصالات
و بالنسبة للدول النامية التي تتصدّي لإدخال النظم المعلوماتية، يؤكّد ماسودا على أهمّية التركيز على النظم المعلوماتية الإجتماعية، التي تتيح تطبيق تكنولوجيا المعلومات في المجالات الإجتماعية، مثل التنمية الإقليمية و الرعاية الصحّية و التعليم .
ثم يقول ماسودا: إن المشاكل التي كانت تعتبر مستحيلة الحل في الماضي، مثل محو الأمّية و إستئصال الأمراض المتوطّنة، أصبح من الممكن - للمرّة الأولى - حلّها إعتماداً على التكنولوجيا
نتائج التنمية المتزامنة

إذا ما تم هذا، على الأسس المذكورة، يصبح من الممكن أن تتحقّق النتائج المتكاملة التالية :
أولا ؛ تضييق الفجوة الصناعية المعلوماتية
إذا مانجحت الدول النامية في إدخال تكنولوجيا الصناعات الصائنة للموارد، و المحافظة على البيئة، والتي تقلّل الإحتياج إلى العمالة العقلية، و نجحت أيضاً في إدخال تكنولوجيا المعلومات التي تركّز على نظم التعليم بالنسبة للمناطق النائية .. إذا ما حدث هذا، فإنّه يقود إلى رفع مستوى التعليم، و إلى إمكان تدريب عمـّال الصناعة الحديثة و مهندسي المعلومات، و إرساء أسس التنمية المستقبلية، بالنسبة للصناعات ذات الإعتماد المكثّف على المعارف .
ثانيا : الإعداد لنظام بيئي عالمي
و حيث أنّ هذه الدول ستتّجه إلى تنمية التكنولوجيا الصناعية التي لا تقود إلى تلويث البيئة، أو إلى إستهلاك المواد الخام، فإن مثل هذه التنمية تساهم في تأسيس النظام البيئي العالمي الجديد .
ثالثا : كبح الإنفجار السكّاني
إدخال نظم الرعاية الصحّية في جميع أنحاء الدولة، ستكون له نتائجه السلبية المؤقّتة على المسألة السكّانية، إذ أنّه سيقود إلى تحسّن المستوى الصحّي، ممّا يطيل متوسّط المدى العمري . لكن هذا، مع إرتفاع مستوى التعليم، سيؤدّي إلى إرتفاع مستوى الفهم و الوعي بالحاجة إلى تنظيم النسل، ممّا يقود آخر الأمر إلى كبح الإنفجار السكّاني

* * *

هذا هو بعض ما طرحه الكاتب المستقبلي الياباني يونيجي ماسودا، فيما يتّصل بمواجهة الفجوة المزدوجة، التي أصبحت تفصل ما بين الدول المتطوّرة و الدول النامية . و هذا هو جانب من حلمه العملي، الذي يدور حول إنشاء نظام إقتصادي عالمي للكوكب الأرضي .. يبقى أن نتأمّل هذا، و نفكّر في سبل تجاوز التخلّف و اللحاق بركب التقدّم، فهذه قضيّتنا قبل أن تكون قضيّة أي شخص آخر، أو جهة أخرى .