الأربعاء، ديسمبر ١٧، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل


لقاء ساليزبورج..

ماسودا .. و التجربة اليابانية

كنت مقتنعا بالأثر المحوري لتدفّق المعلومات و المعارف في تحوّلنا إلى مجتمع المعلومات . و مع ذلك، لم أكن أفهم كيف يمكن أن تنقلنا تكنولوجيا معيّنة من مجتمع إلى آخر يختلف تماما في طبيعته . و تشاء الصدفـة أن أعثر على إجابة لهذا التساؤل في مدينة سالزبورج الجميلة بالنمسا ! .
سافرت إلى هناك في بداية التسعينيات، لكي أشارك في أحد مؤتمرات " جمعية مستقبل العالم " التي أنتمي إليها . و أيضا لتقديم ورقة حول " الدول النامية، و مشاكل العبور إلى المستقبل " . كان الموضوع يشغل بالي، و يحظى بتفكير متواصل عندي : ما الذي تفعله مصر، و غيرها من الدول النامية، التي أخذت بجانب من التنمية الصناعة، و إن كانت لم تستكملها بعد، عندما تتصدّى لدخول مجتمع المعلومات ؟ .
كانت لدي بعض الأفكار، ناقشت فيها ـ من بين من ناقشتهم ـ الراحل دكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن . كان يقول أن علينا أن نستكمل تنميتنا الصناعية، لكي يتأسس مجتمع الصناعة على أرضنا، قبل أن نفكّر في الدخول إلى مجتمع المعلومات، كما حدث الأمر بالنسبة لمعظم الدول الصناعية . و كنت أقول له، أننا سنمضي سنوات في استكمال تنميتنا الصناعية، نكون قد تخلّفنا فيها كثيرا عن الدول التي تدخل حاليا إلى مجتمع المعلومات . فضحك، رحمه الله قائلا " تريد أن ندخل في (تخريمة ) حضارية ؟ ! " . قلت " نحن الآن ما زلنا نعيش ـ إلى حدّ بعيد ـ وفق قيم المجتمع الزراعي، و قد بدأنا جهدا متواضعا لإشاعة قيم المجتمع الصناعي، و لا معنى لأن نواصل ترسيخ قيم المجتمع الصناعي التي مضى زمنها، ثم نبدأ في تغييرها للأخذ بقيم مجتمع المعلومات" . و الحق، أنه لم تكن قد استكملت بعد معرفة الطرق العملية لتحقيق تلك ( التخريمـة ) .

المعجزة اليابانية

عندما انتهيت من طرح ورقتي في مؤتمر سالزبورج، و هممت بالانصراف من القاعة، اقترب منّي رجل ياباني مسنّ، يسير بحرص في خطوات بطيئة، و اقترح عليّ أن نجلس معا في بهو الفندق الذي عقد فيه المؤتمر، لأنّه يريد أن يناقشني فيما قلته . رحّبت بذلك، و مضينا معـا بنفـس الخطوات البطيئة إلى البهو، و جلسنا في ركن منعزل .
قدّم نفسه قائلا " إسمي يونيجي ماسـودا، من المفكّرين المسـتقبليين باليابان .. و قد أعجـبتني تساؤلاتك في الورقة التي قدّمتها، و أريد أن أستفهم منك عن بعض الأوضاع في مصر، بالنسبة لمدى تأثير المجتمع الزراعي و المجتمع الصناعي على حياتكم .." .
تكلّمنا طويلا، إلى أن قال لي آخر الأمر " أقترح عليك أن تقرأ أحد كتبي الذي تناولت في أحد فصوله هذه المسألة.."، قلت مبتسما " و اللغة ؟! ". قال إنه بالانجليزية، و ستجده في مكتبة جمعية مستقبل العالم ..تحت إسم ( مجتمع المعلومات، باعتباره مجتمع ما بعد الصناعة ) .." .
عندما حصلت على نسخة من الكتاب، و بدأت القراءة، اكتشفت أنني كنت أجلس إلى أحد صنّاع التحوّل المعلوماتي في اليابان ..
قبل أن أورد شيئا ممّا جاء بالكتاب، في الفصل الذي يتحدّث فيه عن أفكاره في تجاوز الفجوة الصناعية و المعلوماتية آنيا، بالنسبة للدول النامية، أحب أن أتكلّم عن التجربة اليابانية لاقتحام مجتمع المعلومات، و التي شارك فيها ماسودا .
ماذا فعلت الحكومة اليابانية ؟
يبدأ الكتاب بفصل عنوانه " مجتمع المعلومات البازغ في اليابان "، و فيه يحكي جانبا من دوره، هو و مجموعة من المفكّرين اليابانيين، من خلال تنظيمهم، " الجمعية اليابانية لتطوير استخدام الكمبيوتر "، و هي جمعية أهلية لا تستهدف الربح . في عام 1972، تقدّمت تلك الجمعية إلى الحكومة اليابانية بدراسة تحمل اسم " خطّة لمجتمع المعلومات : هدف قومي لعام 2000 " . كانت هذه الخطّة تقدّم السبيل إلى إدخال مجتمع المعلومات إلى اليابان، و هي ترسم صورة لمجتمع معلومات مرغوب فيه، يمكن تحقيقه عند عام 1985 . و قد جرى تعيين ماسودا كمدير مشروع، لتلك الخطّة الطموحة .
كانت الخطّة تتضمّن " خطة مضغوطة على المدى الأوسط "، و كانت تحتاج إلى استثمارات تبلغ 3 ملايين دولار، بين 1972 و 1977 . ثم " الخطّة الأساسية طويلة المدى "، التي تحتاج إلى استثمارات تبلغ 65 بليون دولار، ما بين 1972، و 1985 . و يوضّح كتاب ماسودا توزيع تلك الاستثمارات على الخطط المختلفة، لا مجال هنا لتفصيلها .
المهم أن الحكومة اهتمت بخطّة الجمعية، و راجعتها مع مختلف المصادر الداخلية و الخارجية، ثمّ رصدت الأموال الضرورية للبدء في التنفيذ .. و بهذا بدأ دخول اليابان إلى مجتمع المعلومات .
بعد هذا، أعود إلى التساؤل الذي قادني إلى الحديث عن المفكر الياباني الذي رحل عن عالمنا يونيجي ماسودا : كيف تغيّر بعض التكنولوجيات نسق حياتنا و مجموعة قيمنا ؟ . لقد وجدت إجابة عليه في كتاب ماسودا، تحت عنوان " التأثير المجتمعي لعصر المعلومات " ..

و إلى الرسالة التالية لنرى ماذا يقول ماسودا .