الثلاثاء، يوليو ٢٨، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

كيف نخرج من الخريطة المفروضة على المخ ؟

الابتـكار هو طوق النجاة


خريطة المسارات التي جرى حفرها في المخ على مدى السـنين، تصبح غير صالحة لمعالجة المعلومات الجديدة، النابعة من الواقع الجديد . فالعقل البشـري لا يمكنه أن يرى إلاّ ما هو مهيّأ لرؤيته، من خلال الأنماط و النماذج القائمة فيه . و هذا هو السرّ في عجز القلّة الذكية، غير الانتهازية، و غير الجامدة، عن التعامل مع حقائق الواقع الجديد .
و لا بأس أن أورد هنا بعض ما قلته في هذا الصدد، في مناقشة ورقة " مصر و القرن الحادي و العشرين "، التي تقدّم بها هيكل، إلى مؤتمر جماعة خرّيجي المعهد القومي للإدارة العليا :
الذي أريد أن أوضّحه للأستاذ هيكل، و لغيره ممن يقتصرون في طرحهم على الواقع الراهن، أنّه حتّى إذا كان المستقبل ليس من بين اهتماماتهم، فإن قيامهم برصد الواقع الراهن يجيء قاصرا، إذا لم يتم من خلال رؤية مستقبلية واضحة، تستوعب النظرة الكلّية لجوهر ما يحدث الآن عندنا و حولنا، و التي تجمع بين الماضي و الحاضر و المستقبل .

مؤامرة الصمت المريبة ..

قلت تعليقا على ورقة الأستاذ هيكل أن القصّة ليست قصّة تفاؤل و تشاؤم، فالمنهج الذي أدعو إلى تأمّله، و الاعتماد عليه، و لو على سبيل التجريب، يقتضي نظرة إلى التاريخ أوسع من التي مارسناها، و ما زلنا نمارسها، دراسة و بحثا .. نظرة إلى التاريخ باعتباره تعاقبا لعصور حضارية كبرى، بدأت على مدى عشرة آلاف سنة بعصر الزراعة، ثم أعقبه عصر الصناعة الذي دام لما يقرب من ثلاثة قرون، ثم العصر الحالي، و الذي أميل ـ مع غيري من المهتمين بالمستقبل ـ إلى تسميته بعصر المعلومات .
فهم آليات التحوّل من عصر حضاري إلى آخر، يتيح لنا أن نتعرّف على جذور التغيرات الحالية، و ليس ظاهرها، و أن نصل إلى رؤية مستقبلية شاملة لها . بعد هذا و ليس قبله، يمكننا تطبيق معرفتنا هذه على الواقع الحالي لمصر، و أن نتعرّف على الأولويات في حركتنا عند التصدّي لحلّ مشاكلنا، و لتضييق فجوة التخلّف بيننا و بين المجتمعات الأكثر تقدّما . بعد هذا، و ليس قبله، يمكننا أن نبحث عن الخصائص التاريخية للشعب المصري، لنرى السياق الذي خرجت منه هذه الخصائص، و مدى المصداقية الحالية لذلك السياق، لكي نركّز على تنمية الخصائص التي تساعدنا انتقالنا إلى مقتضيات العصر الجديد .
قلت للأستاذ هيكل، لا أريد أن أفرض هذا المنهج على أحد .. لكن وسط الضياع و التشاؤم و التخبّط، و الفشل المتكرّر في الوصول إلى سبيل مثمر قابل للتطبيق، ألا يستحقّ الأمر مناقشة هذا المنهج، ثم الأخذ به أو تبرير رفضه؟، ألم يحن الوقت لكي نتواضع قليلا، و نتنازل عن الاستعلاء غير المفيد، و ننهي مؤامرة الصمت المريبة هذه ؟!.

النظر إلى الأشياء بعين جديدة

غياب الرؤية المستقبلية الشاملة، نتيجة للخضوع للمسارات التقليدية المرسومة على المخّ، و التي لا تصلح حاليا للتعامل مع التغيرات الراهنة و الحقائق الجديدة لعصر المعلومات، هو السبب في عجز القلّة الذكية المخلصة ـ و التي يعتبر الأستاذ هيكل بالقطع من بينها ـ عن التعامل مع الواقع الجديد .
نحن جميعا في أشد الحاجة إلى النظر إلى الأمور بعين جديدة، و من منظور مختلف، لكي تنفتـح أمامناالسبل الجديدة التي تقودنا إلى التوافق مع الإنجازات الجديدة لعصر المعلومات، و إلى فهم طبيعة المشاكل الكبرى التي تشغل البشر، و السبيل إلى حلّها .
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف ننظر للأشياء و الأمور بعين جديدة، متحرّرين من قبضة الخريطة التقليدية المحفورة على أمخاخنا ؟ . هنا تظهر الأهمية المتعاظمة لآليّات التفكير الابتكاري . لقد كتبت كثيرا، و تحدّثت في برنامج مستقبليات التلفزيوني على مدى عدد من الحلقات، عن أهمية الابتكار و التفكير الابتكاري في عصر التغيير الشامل الذي نعيشه . ثم جمعت ذلك كلّه في كتاب كامل، صدر عن دار نهضة مصر بعنوان " الابتكار .. و المستقبل " .

الابتكار كممارسة شعبية

في أحوال الاستقرار النسبي، و قيام الحياة على مبادئ و أسس عامة مسـتقرة، يصبح الابتـكار شاغل صفوة نادرة . كان ذلك هو حال البشر طوال عصر الزراعة و الصناعة، السواد الأعظم من الشعب ينشغل بعمل عضلي روتيني بسيط متكرّر، لا يحتاج إلى قدر ـ و لو صغير ـ من الابتكار . بينما تتولّى صفوة أو نخبة صغيرة على رأس المجتمع، مسئوليات اتّخاذ القرار بما يقتضيه هذا من تفكير و ابتكار .
الانقلاب الذي حدث في مجال العمالة، بدخولنا إلى مجتمع المعلومات، نتيجة للاعتماد على الكمبيوتر و الإنسان الآلي في مجالات العمل، بالمصانع و المكاتب، أنهى الحاجة إلى العمالة العضلية اليدوية التي كانت تشكّل السواد الأعظم في مجال العمل الصناعي . و تحوّلت العمالة إلى عمالة عقلية معرفية، تتصدّى للمشاكل، و تبحث عن بدائل الحلول لها، و تطبّق الحلّ الأمثل من بينها، ثم تراقب مدى صلاحيته . و هذه كلّها أعمال تعتمد على التفكير و الابتكار .. و هكذا تحوّل الابتكار إلى ممارسة شعبية ضرورية . و الابتكار الذي نتكلّم عنه هنا، ليس هو ما عرفه البشر طويلا من لحظات ابتكار و إلهام بين الشـعراء و الأدباء و الفنانين . إنّه عملية منظّمة يمكن لأي فرد أن يتدرّب عليها، و يمارسها باستخدام آليات و تقنيات تساعده على الوصول إلى الحلول الابتكارية . هذا هو الذي يجب أن تنتبه إليه القلّة الذكية الواعدة التي تحدّثت عنها . ذلك أن النظر إلى المتغيرات الشاملة الحادثة حاليا، لا يمكن تناولها من نفس المنظور التقليدي القديم، و اعتمادا على خبرات سابقة، بل علينا أن ننظر إليها من منظور جديد، اعتمادا على ما توفّره لنا آليات التفكير الابتكاري . هذا المنظور الجديد، هو الذي يساعدنا على إرساء أسس المنهج المناسب لفهم الأمور غير المسبوقة التي تحدث حولنا، و التعامل معها، و التعرّف على معالم المستقبل التي يحملها إلينا عصر المعلومات .