الأحد، مايو ١٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات


الديموقراطية التوقّعية ..
مزاوجة بين المشاركة و الوعي المستقبلي

من أهم الكتب التي تناولت موضوع الديموقراطية التوقّعية، كتاب " الديموقراطية التوقّعية .. البشر في سياسة المستقبل "، لمؤلفه كليمنت بيزولد . الكتاب يتضمّن سبعة فصول تناول علاقة الديموقراطية التوقّعية بالمدن و الدول و الأقاليم، و علاقتها بالتشريع، و بالسياسات و البرامج، و ممارساتها في مجال العمل، و في حركات المواطنين .. و يختتم بيزولد كتابه بالحديث عن مستقبل الديموقراطية التوقّعية .
و لم يكن أحق من ألفن توفلر بكتابة مقدمة الكتاب، فهو أوّل من نحت اسمها، و تكلّم عن مضمونها، ، عندما قال في أوّل و أشهر كتبه، صدمة المستقبل " في عالم تحكمه العقائد السياسية العتيقة، و تجتمع فيه اصطلاحات .. الجناح اليساري .. الجناح اليميني .. الليبراليون .. المحافظون ..كما لو كانت هذه الاصطلاحات ما زالت غنية بالمعاني . في مثل هذا العالم، من المفيد الوصول إلى فكرة جديدة، لا يمكن حشرها في خانة أيديولوجية مناسبة، و فكرة ( الديموقراطية التوقّعية ) هي واحدة من هذه الأفكار .." .

ما وراء السياسة

في مقدمة الكتاب يقول توفلر أن الديموقراطية التوقّعية يمكن أن يستجيب لها الناس في أي موقع على الخريطة السياسية . ليس لأنّها تقدّم كلّ شيء لكل إنسان ـ كما يدّعي الساسة اليائسون ـ و لكن لأنها تتعامل مع طبيعة " العملية " السياسية كشيء متميّز عن " البرنامج " السياسي . و هي لا تطلق دعايات من نمط رفع الحد الأدنى للأجور، أو تحقيق التشغيل الكامل للعاملين، أو التحكّم في البيئة، أو خفض ميزانيات التسلّح، الأمر الذي عادة ما تتضمنه البرامج السياسية .. إنّها ـ في مكان هذا ـ تحضّنا على التمعّن في ذات العملية التي نبعت من خلالها اختياراتنا السياسية، أيا كانت تلك الاختيارات .
بهذا، يمكننا القول بأن الديموقراطية التوقّعية لا تتعامل مع السياسة، و لكن مع ما وراء السياسية .
لقد استعار عصر الصناعة فكرة التمثيل النيابي من أصول تاريخية سابقة، و روّج لها على اتّساع سطح الأرض باعتبارها الشكل الأحدث، و الأكثر كفاءة، و الأكثر إنسانية، و الذي يتسق مع تصوّر الحكومة في المجتمع الصناعي .
و يقول توفلر أن عصر الصناعة يمضي إلى نهايته، مفسحا المجال لعصر جديد يختلف جدا عن سابقه، يجيء معه بنمط جديد للطاقة، و ترتيبات جديدة للسياسة الطبيعية، و مؤسسات اجتماعية جديدة، و شبكات جديدة للاتصال، ، و نظام جديد للعقائد .. و هذا كلّه يدفعنا إلى التفكير في ضرورة وجود هياكل و عمليات سياسية جديدة تماما .. و إلاّ، كيف تكون لدينا ثورة تكنولوجية، و ثورة اجتماعية، و ثورة معلوماتية، و ثورة أخلاقية و عرقية .. و لا تكون لنا بالمثل ثورة سياسية ؟!

أسباب الانهيار الحالي

عندما نفكّر في الانهيار السياسي ـ أو أزمة الكفاءة الحكومية ـ الذي نشهده من حولنا : شلل المجالس النيابية، و سخافة البيروقراطيات الحكومية العملاقة، و التذبذب الجنوني في بؤر الاهتمام السياسي، و التركيز على هذا ثم على ذاك،
دون أن نصل إلى فهم سليم لأي مشكلة، فضلا عن حلّها .
و يقول توفلر أن هذا السلوك المتردد، غير الكفء، من جانب الحكومات في العالم الصناعي، لا يمكن تفسره اعتمادا على الاصطلاحات التقليدية .. فالذي يحدث ليس بسبب أن السياسيين و البيروقراطيين المعاصرين أغبياء، كما أنه لا يرجع إلى آمر ما يسمّونه باليمين أو اليسار،و هو ليس لأن الأغنياء الجشعين يفسدون مؤسساتنا السياسية و يتحكّمون فيها، و إن كانوا ـ يعلم الله ـ يريدون ذلك من كلّ قلوبهم ! . كما أنه ليس صحيحا أن أزمة عدم توفّر الكفاءات ترجع إلى أن الفقراء الطماعين يطالبون بصلاحيات ضخمة جدا من النظام، و كذلك ليس لأننا نشهد ( الأزمـة العالمية للرأسمالية ) كما تنبّأ ماركس ..
إن هذا كلّه يعود ـ في حقيقة الأمر ـ إلى انتهاء المراحـل الأولى لما يمكن أن نطلق عليه ( الأزمـة العامة للصناعة )، التي تعتبر الرأسمالية و الاشتراكية ـ معا ـ فرعين منها .

المضي عكس الاتجاه

لقد أفرز عصر الصناعة بيئة محددة لاتّخاذ القرار، تقوم على أساس التجانس الاجتماعي . كما ولّدت الثورة الصناعية ضغوطا هائلة ـ ثقافية و سياسية و تكنولوجية ـ تدور كلّها حول خلق نمطية و توحيد قياسي في اللغة و القيم و الآلات و طرق العمل و المعمار و وجهات النظر السياسية، و في أسلوب الحياة بشكل عام .. إلاّ أن الثورة، التي تستجمع قواها اليوم، تحملنا بالتحديد إلى الاتجاه المضاد . إننا نمضي بسرعة نحو المزيد منم التنوّع، اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا، بشكل لم يحدث من قبل .. لهذا تتزايد صعوبة الوصول إلى الإجماع .
و إذا كانت الصناعة قد استجابت لتنوّع المستهلكين، في العقود الأخيرة، من خلال ما يطلق عليه الإداريون " تنويع السلع "، و إذا كانت الشركات قد تنافست في تقديم مختلف الطرز و النظم و الأحجام، فإن " مصانع الخدمات" في الحكومات الكبرى ـ بسبب تحجّر التنظيمات و جمودها، و فقدان حافز المنافسة ـ ما زالت تضخّ خدمات نمطية لجمهور تتعاظم لانمطيته و يتزايد تنوّعه و تباينه . فلا عجب إذن أن نرى هذه الهوّة بين احتياجات الناس و مطالبهم، و بين ما يحصلون عليه من الحكومة .. لا عجب أن نرى هذه الهوّة تتسع كل يوم، بشكل مخيف .

عدم الكفاءة الحكومية

النتيجة الحتمية لهذا، هو أن الكثير مما تقوم به الحكومة يجيء خاطئا، أو متأخّرا جدا عن وقته .. الناس لا يتلقون المساعدات عندما يكونون في أشد الحاجة إليها، و الذين ليسوا في حاجة لشيء تنهال عليهم المكاسب الوفيرة .. البرامج الموضوعة في العاصمة، لا تتفق ـ بالدرجة المناسبة ـ مع احتياجات الأقاليم و المحليات .. برامج العمل القديمة ـ التي كان من الواجب صرف النظر عنها منذ سنوات ـ ما زلنا نسمع قعقعتها المستمرّة، دون اعتبار لما تطحـنه أو تجرشه، و مدى ما يمكن أن نستفيد منها .. و البرامج الجديدة تتكاثر، متجاوزة قدرة أي شخص على إدارتها.. و بدلا من تقديم خدمات تستهدف الأفراد الحقيقيين، تهتزّ المصانع الحكومية بعنف، لتتمخّض عن إنتاج نمطي لزبائن غير موجودين ! ..
و هذا هو جوهر عدم الكفاءة الحكومية .

عندما تنصهر الأكباس

أزمة عدم الكفاءة الحكومية ـ باختصار ـ نوعية و كمّية في نفس الوقت ..
و التصادم الحتمي بين مؤسسات إصدار القرار، المصممة على أساس المجتمع النمطي القديم، و بين الحضارة الجديدة التي تندفع بسرعة نحو اللانمطية و التنوّع و التباين و الاختلاف، هذا التصادم الحتمي يمكننا أن نرى نماذج له في الأجهزة البيروقراطية، و في الهياكل التشريعية و التنفيذية، المقامة وفق مبادئ و نظريات عصر الصناعة .
و المعروف، أن أي نظام من نظم اتخاذ القرار، له حدّه الأقصى من القدرة على معالجة قدر معين من مسئولية اتخاذ القرار المطلوبة .
و نتيجة للتغيرات التي تسارعت في حياتنا، مع قيام ثورة المعلومات، و بدايات تشكّل مجتمع المعلومات، زاد الموقف تعقدا في مجال اتخاذ القرار، و ضاعف من تعقيده تصاعد السرعة المطلوبة في هذا المجال .. هكذا أصبح عبء اتخاذ القرار ـ في بعض الأحيان ـ أكبر ممّا يحتمل النظام .. عند هذه النقطة، تنصهر الأكباس، و ينقطع التيار ! ..
هذا هو،بالتحديد، ما يحدث لنظم اتخاذ القرار، في جميع الدول المتطوّرة تكنولوجيا، و التي قطعت شوطا أكبر في التحوّل من الحياة الصناعية إلى الحياة المعلوماتية ..
يقول ألفن توفلر " إنّها صدمة المستقبل السياسية .. " .. اتخاذ القرار السياسي يجب أن يتجاوز ما هو : "هنـا" و"الآن" .. فالثابت، أننا في أشد الحاجة إلى تصميم عمليات سياسية مناسبة لاتخاذ القرارات الجماعية، عمليات تكون على مستوى البيئة المستجدة لاتخاذ القرار و هو يستطرد قائلا أن تصميم نماذج عمليات اتخاذ القرار الجديدة، لن تقفز إلى أيدينا فجأة من فوق لوحات التصميم الخاصة بالمهندسين الاجتماعيين و السياسيين .. فهي لا تتكامل إلاّ بعد عمليات متكررة من المحاولة و الخطأ و التجريب، و استفادة من التجارب المبتكرة التي يقودها الناشطين من السياسيين و أصحاب الاهتمام العام .

و إلى الرسالةالتالية لنتعرّف على مضمون الديموقراطية التوقعية