الجمعة، فبراير ٠٦، ٢٠٠٩

من عصر المعلومات إلى مجتمع المعلومات


حياتنا في مجتمع المعلومات

كلّ شيء في حياة البشر يتغيّر

بعد إدراكي لآليّات الدائرة النشطة التي صنعت ثورة المعلومات، بدأت أتساءل عن أثر ثورة المعلومات على كلّ مبدأ من مبادئ عصر الصناعة . ماذا يفعل تدفّق المعلومات، و تباين البشر، و تطوّر تكنولوجيا المعلومات، في المبادئ الأساسية الستّة التي قام عليها المجتمع الصناعي : النمطية، و التخصّص الضيّق، و التزامن، و التركيز، و عشق الضخامة، و المركزية ؟ .
التنوّع و التباين و التمايز بين البشر، و اختلافهم فيما يطلبونه من الحياة، نتيجة لانفتاحهم على معلومات و معارف جديدة، و تعرّفهم على أنماط مغايرة لأنماط حياتهم التقليدية، اعتمادا على تكنولوجيات الكمبيوتر و الاتصال المتطوّرة، وجّه ضربة كبرى لمبدأ النمطية و التوحيد القياسي الذي فرضه المجتمع الصناعي على البشر، بعد أن نجح في فرضه على الآلات و نظم الحياة .
و هذا في حدّ ذاته، كان السرّ في فشل و انهيار العديد من النظم التقليدية للمجتمع الصناعي . عندما تأمّلت هذا، وجدته ينسحب على أشياء محورية في الحياة . بعد سقوط النمطية، تداعى الإنتاج النمطي و ظهر الإنتاج حسب الطلب، تعددّت أشكال و ألوان و أحجام السلع المختلفة لتتّفق مع أذواق الجماهير المتنوّعة، و تراجع دور الإعلام النمطي الجماهيري بعد أن تفتّت الجماهير النمطية إلى العديد من الجماهير المتباينة، سريعة الانقسام .. و هكذا .

التخصّص الضيّـق

مع تزايد تقسيم مراحل العمل، ظهر التخصّص الذي أخذ يضيق يوما بعد يوم . العامل الذي يقف أمام خط التجميع، متخصّصا في عمل يدوي محدود، لم يعد العمل في حاجة إليه، بعد أن تكفّل الكمبيوتر، و الروبوت الذي بسيّره الكمبيوتر، بكل أنواع العمل الروتيني، في المصنع و المكتب . و مع تسارع المعلومات و المعارف، سقطت تخصّصات جديدة، و حلّت محلّها تخصّصات جديدة، بل لقد سقطت علوم بأكملها لتظهر علوم جديدة، لم يسمع بها أحد من قبل .
ماذا يعني هذا ؟، يعني أن التخصّص الضيّق أصبح خطرا على حياة الفرد . و يعني أن العصر يطلب من الفرد أن يكون قادرا على ملاحقة التطوّر في عمله، مستعدّا لتغيير تخصّصه و عمله، وفقا لما يتاح في مجال العمل .

بين التزامن و الزمن المرن

بعد انتشار المصانع، و مع التكلفة العالية للآلات، و اعتمادا على العمّال، اقتضى الأمر أنظمة
أشدّ دقّة في ضبط الوقت، و حساب التزامن بين العمليات المختلفة، لأنّه إذا تخلّف عامل أو مجموعة عمّال عن إنجاز عمل معيّن في وقت محدّد، ترتّب على ذلك تعطيل عمل مجموعة أخرى من العمال . و هكذا، ظهرت ساعة اليد، و ساعة الحائط، في البيت و المصنع و المكتب .
كما قادت ثورة المعلومات إلى تفتيت جماهيرية الإعلام، و الكيانات الهائلة للمؤسّسة الاقتصادية، قادت أيضا إلى تفتيت جماهيرية الزمن، أو التزامن . الاتجاه في مجتمع المعلومات، هو إلى أن تصبح ساعات عمل الإنسان مسألة تخضع لاختياره الحرّ . و قد ظهرت تطبيقات الزمن المرن في كلّ مكان . أصبح العمّال يختارون ساعات عملهم، صباحا أم مساء أم ليلا . و قد أثبتت التجربة العملية أنّ تنوّع مواعيد العمل يقود إلى المزيد من الإنتاج، و إلى انخفاض نسبة التغيّب عن العمل، بالإضافة إلى مكاسب أخرى .

من التركيز إلى التنوّع المكاني

ظهور السوق كوسيط بين المنتج و المستهلك، دفع إلى مبدأ التركيز .. تركيز السكن في المدن الكبيرة، حول مراكز النشاطين الصناعي و التجاري، و تركيز التلاميذ في المدارس .. بالضبط كما يجري تركيز العمّال في المصانع، و أيضا تركيز رؤوس الأموال في شركات و احتكارات كبرى .
لقد أضعفت ثورة المعلومات الحاجة إلى مبدأ التركيز المكاني . لقد تغيّرت طبيعة العمل، و أصبح بإمكان نسبة عالية من العاملين العقليين أن يقوموا بعملهم في بيوتهم، التي قد تبعد مئات الكيلومترات عن مركز عملهم، بفضل الكمبيوتر و وسائل الاتصال المتطوّرة .
كما أن التغيرات التي طرأت على العمليات الإنتاجية، و الصعود الاقتصادي لقطاع الإنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي، و للاقتصاد التعاوني، سينهي الحاجة إلى التركيز في المؤسّسات الإنتاجية، و نشوء تنوّع من الأشكال و المراكز الإنتاجية .

من عشق الضخامة، إلى الصغير الأجمل

عشق الضخامة كان سمة من سمات عصر الصناعة . لقد قاد انفصال الإنتاج عن الاستهلاك إلى مجتمعات تعشق الضخامة، و تسعى إلى كلّ ما هو كبير . لقد شاع لدى المنتجين أن ضخامة المشروع الإنتاجي، تعني التكلفة الأقل، و القدرة الأعلى للتنافس، و من ثمّ المزيد من الأرباح . لقد أصبح " الكبير "، مرادفا للكفاءة الأكبر .
و هكذا، سعت الحكومات و المؤسّسات الكبرى و التنظيمات بمختلف أنواعها إلى اعتناق فكرة الضخامة بحماس . حدث هذا في كل الدول الصناعية، في الشرق و الغرب . و لكن، مع بدايـات
ثورة المعلومات، فقدت تلك الديناصورات الضخمة فائدتها .
مع التغيّرات المتسارعة التي أحدثتها ثورة المعلومات، اكتشفت الشركات الكبرى انخفاضا مستمرا في معدّلات نموها . لم تعد السياسات الناجحة السابقة مجدية في التعامل مع الواقع المتغيّر، في الوقت الذي ازدهرت فيه الشركات الصغيرة، القادرة على الحركة السريعة للتكيّف مع التغييرات . و هكذا، ظهرت أسس جديدة لإعادة بناء الشركة الكبيرة، تتحوّل بها إلى مجموعة من الكيانات الصغيرة، سهلة الحركة، شبه المستقلّة، التي ترتبط مباشرة بقيادة الشركة الكبيرة .

من المركزية، إلى التنظيم الشبكي

مع نمطية القواعد، شاعت المركزية في عصر الصناعة، باعتبار أنها السبيل الأمثل للإدارة المحكمة، في الشركات و المؤسسات، و الحكومات أيضا . فنتيجة لضخامة المؤسّسات، نشأت التنظيمات القائمة على مركزية المعلومات و القرارات . و رغم ما يقال عن فصل السلطات التنفيذية و القضائية و التشريعية، فقد احتكرت السلطة التنفيذية سلطة اتخاذ القرار المركزي، حدث هذا في النظم الاشتراكية، و الرأسمالية أيضا .
و عندما وضعت ثورة المعلومات حدّا لنمطية البشر، فاختلف الناس، و تباينت أفكارهم، و مطالبهم من الحياة، بدأت المركزية تفقد أنصارها، في النظم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، و بدأ ظهور أشكال لامركزية جديدة، تعمل على نمط " الشبكة " و ليس " الهرم " .
بدأت تظهر أفكار جديدة للتنظيمات الشبكة، في مجال السياسة و الاقتصاد . وبدأ التفكير في ممارسات سياسية جديدة، تقوم على المشاركة، و ليس التوكيل، و تستدعي هبوط نسبة كبيرة من مسئولية اتخاذ القرار إلى القواعد و المحلّيات . و كما قلنا من قبل، بدأت الشركات الكبرى تتحوّل عن المركزية، إلى تنظيمات لامركزية، تتكوّن من أجزاء مترابطة، ذات ترتيب وقتي خاص فيما بينها، تعمل في إطار اســتراتيجية عامة، و لا تحتاج إلى مراجعة الإدارة المركزية .
بعد أن تفهّمت أثر ثورة المعلومات على مبادئ المجتمع الصناعي، بدأت التفكير في التغيرات المترتبة على ذلك، و آثارها علينا في المستقبل .

و في الرسالة التالية، نمضي في حوار مع الصديق الذكي