الجمعة، مايو ٠٨، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

خصوم المستقبل :

بين الحلّ الإسلامي

و الحل الماركسي

أصحاب العقائد القويّة و الأيديولوجيات الحاكمة يفشلون عادة في اكتشاف انقضاء زمن الافتراضات التي تقوم عليها عقائـدهم . و من ثم عدم قدرتهم على امتحان مدى مصداقية تلك الافتراضات في ظل التغيّرات الجذرية المتلاحقة في حياة البشر .
قبل أن أضع أفكاري في الكتب، كنت أكتب أوراقا حول التفكير المستقبلي، و التحوّلات التي تقودنا إلى مجتمع المعلومات . عرضت واحدة من هذه الأوراق على الصديق أحمد حمروش، رئيس اللجنة المصرية للتضامن، فقرأها و اقترح عرضها على الأستاذ محمد حسنين هيكل، فتحمّست لذلك الاقتراح . ثم اكتشفت بعد ذلك أنّه لم يأخذ الورقة مأخذ الجد، و وقف عند التعليق على خطأ مطبعي ! .

في مواجهة الماركسيين

قال حمروش " لماذا لا تناقش ورقتك في لجنة الفكر السياسي .. هذه فرصة للحوار المثمر، خاصّة و أنّ رئيس هذه اللجنة هو الدكتور فؤاد مرسي .." . تحدّد موعد للقاء، و قد جلس على رأس المنضدة الدكتور مرسي، و جلست في مقابله، بينما اصطفّ على الجانبين مجموعة من غلاة الماركسيين، أعضاء اللجنة، أعرف بعضهم و لا أعرف البعض الآخر .
طرحت أفكاري حول مرحلة التحوّل الحالية في العالم، من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات .. لماذا تمت ؟، و ماذا يترتّب عليها من تغيّرات كبرى في جميع مجالات حياة البشر ؟.
فلاحظت التململ على الحاضرين، و الرفض الضمني لكلام يخرج عن نطاق القاموس الماركسي، و كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير، كما يقولون، ما قلته من انقضاء صلاحية كل من الاقتصاد الرأسمالي و الاقتصاد الاشتراكي، في التعامل مع الواقع الجديد، باعتبار أن الرأسمالية و الاشتراكية هما وجهان لعملة واحدة هي عصر الصناعة، و رؤيتان مختلفتان للتعامل مع واقع المجتمع الصناعي . و رحت أشرح هذا على ضوء التطورات التي أحدثتها ثورة المعلومات .
كانت ردّة فعل الحاضرين، مزيج من الرفض و الوجـوم، ثم توجّه أحدهم إلى الدكتور مرسي
سائلا بسخرية " ما هو رأيك يا دكتور فيما يقال ؟ ! ". تحيّر دكتور مرسي قليلا، ثم قال " لا أعرف ماذا أقول له .. إن ما يقوله أشبه بما يقوله جورباتشوف هذه الأيام .." .
أدركت في ذلك الوقت صعوبة مراجعة صاحب العقيدة ـ و لو كانت الاشتراكية العلمية ـ لافتراضاته، دون وجود أداة مثل التفكير الناقد تساعده على ذلك .

في جامعة الإسكندرية

بعد هذا، جاءت تجربة اللقاء مع أعضاء نادي هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية . عندما تلقيت الدعوة للحديث عن المستقبل و عن مجتمع المعلومات، وسط نخبة من الأسـاتذة و العلمـاء، تحمّست لذلك اللقاء، و اعتبرته فرصة لحوار ناضج مسئول .
الذي لم أكن أعلمه، أن النادي كان قد مرّ بتحوّل كبير، بعد استبعاد العناصر التقدّمية من أعضاء مجلس إدارته، ليقتصر مجلس الإدارة على مجموعة من الأساتذة الإسلاميين .
قبل المحاضرة، استقبلني بحفاوة أحد الأساتذة، أظنّه على ما أذكر عميدا لكلية العلوم أو رئيسا لأحد أقسام الكلية . بعد أن احتسينا القهوة، قادني إلى قاعة اللقاء، التي حفلت بجمع كبير من أعضاء هيئات التدريس بالجامعة .
كان موضوع المحاضرة " الرؤية المستقبلية، و مجتمع المعلومات " . و كان لا بد أن أبدأ بطرح منهجي في التوصّل للرؤية المستقبلية، و تحدثت عن التحوّلات الكبرى في حياة البشر، من عصر الزراعة، إلى الصناعة، إلى المعلومات، و كيف لعبت التكنولوجيات الابتكارية العظمى دورا أساسيا في إعادة صياغة مختلف مجالات حياة البشر، الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية . ثم طرحت التحوّلات الحالية من مبادئ مجتمع الصناعة إلى مبادئ مجتمع المعلومات .

لماذا نعتمد على علوم الغرب ؟ !

عندما انتهيت من كلامي، و قبل أن يبدأ النقـاش مع جمهور الحاضرين، حدثت مفاجأة أدهشتني . الأستاذ الدكتور الوقور الذي استقبلني، و قادني إلى القاعة، و الذي قدمني في بداية الأمر، و جلس إلى جواري، وجدته يهب واقفا، و يصيح بأعلى صوته هاتفا بشعار طويل لا أذكر نصّه حاليا، و لكن أذكر قوله في النهاية " .. و الإسلام مستقبلنا .." .
رسمت ابتسامة ساذجة على وجهي، لإخفاء دهشتي و حيرتي فيما هو مطلوب منّي أن أفعله . و ما أن انتهت موجة التصفيق ـ التي مازلت لا أعلم إن كانت موجّهة لكلماتي أم لهتاف الأستاذ الوقور ! ـ حتّى بدأت أسئلة الحاضرين .
كان محور تساؤلات ذلك الجمع العلمي حول استنكار الاعتماد على العقل في مكان النقل ! . قال أحد الأساتذة أن ما أقوله من أفكار وارد من الغرب، قد ينطبق على مجتمعاتهم، لكنه لا يصلح لنا كأمّة إسلامية . و تساءل ـ و هو أستاذ جامعي ـ عمّا يدفعنا إلى علوم و معارف الغرب، بينما لدينا منبع العلم و المعرفة .
قلت أن النهضة العلمية الإسلامية، في بغداد، قامت على ترجمة المراجع الإغريقية و الهندية و الفارسية . اطّلع العلماء المسلمون على ما سبق من علوم الغرب و الشرق، و فكّروا، و ابتدعوا،
و أضافوا إلى تلك العلوم، ما حفلت به مراجعهم في الطب و الكيمياء و الرياضيات و الجغرافيا، إلى آخر ذلك، ممّا صنع ما نطلق عليه الحضارة العلمية الإسلامية . و لم يجدوا من يلومهم على الاستفادة من علوم الآخرين .
و الغرب، الذي كان يعيش في جهالة القرون الوسطى، قرأ إنتاج علماء الإسلام، و ظلّ يدرّسه في معاهده و جامعاته على مدى عدّة قرون، و أضاف إليه، ممّا صنع بدايات النهضة الأوروبية الحديثة
.. و هنا أيضا، لم يجدوا من يؤاخذهم على هذا .

الرؤية المستقبلية، و الحلّ الإسلامي

ثم نهض أحد الجالسين في الصفوف الأولى، و سألني قائلا " و ما هي علاقة ما قلته لنا عن التحوّل إلى مجتمع المعلومات بالحلّ الإسلامي ؟ " .
قلت له صادقا " أنا لا أعرف ما تسمّيه بالحلّ الإسلامي .. لا شكّ أنّك أدرى به منّي " . ثم قلت له أنّني تكلمت عن مجموعة من التحوّلات تقودنا إلى مجتمع المعلومات، مثل التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، و من القولبة و النمطية إلى التنوّع و التمايز و احترام ذاتية الفرد، و من التزامن إلى الزمن المرن الذي يوسّع نطاق حرية الفرد، و من العمل العضلي البدني المتكرّر الذي لا يستوجب التفكير، إلى العمل العقلي الذي يعتمد على التفكير و الابتكار.. تكلّمت عن هذا و غيره، فهل وجدت شيئا ممّا أوردته متناقضا مع الحلّ الإسلامي الذي تقول به .
بعد صمت قصير قال " لا .." . فقلت مبتسما " هذا هو الذي يهمّني في الأمر .." .
هنا أيضا أدركت أهمية إشاعة التفكير الناقد، من اكتشاف الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها فكرنا و عملنا، و فحص مدى مصداقية تلك الافتراضات في ظل الواقع المتغيّر الذي نعيشه، ثم البحث عن افتراضات جديده نابعة من الواقع الجديد، تحكم فكرنا و عملنا .

و إلى الرسالة التالية، لنرى كيف تنتصر السياسة على الفكر