الجمعة، أبريل ١٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات

من كتاب لي تحت الطبع يحمل عنوان :
سقوط صندوق الانتخابات عن عرشه
ــ
من ديموقراطية التمثيل النيابي

إلى ديموقراطية شبه مباشـر
ة

إذا كان الركن الأوّل لديموقراطية القرن الحادي و العشرين هو " أفول الأغلبية، و تنامي قوّة الأقليات "، فالركن الثاني لها هو " الديموقراطية شبه المباشرة " . أو التحوّل من الاعتماد على من يمثّلوننا في المجالس النيابية، إلى تمثيلنا لأنفسنا .. المزيج بين تمثيل الآخرون لنا، و تمثيلنا لأنفسنا، يصنع ما نطلق عليه الديموقراطية شبه المباشرة .
انهيار " التراضي "، يهدم جوهر مضمون التمثيل . يقول توفلر " ممثلونا المنتخبون أصبحوا يعرفون أقل فأقل، حول التنوّع الواسع للمعايير التي يجب أن يعتمدوا عليها في اتخاذهم لقراراتهم .. لم يعد النائب يمثّل حتّى ذاته ! " .
لسان حال الناخبين يقول " إذا كان نوابنا الذين انتخبناهم لا يستطيعون عقد صفقات باسمنا، يكون علينا أن نقوم بالعمل بأنفسنا .. و إذا كانت القوانين التي يضعونها تصبح بشكل متزايد بعيدة عن مطالبنا و غير مستجيبة لها، فعلينا أن نسعى لفرض قوانيننا بأنفسنا . و هذا يقتضي الاعتماد على مؤسسات جديدة، و تكنولوجيات جديدة أيضا .." .

ديموقراطية " اصنعها بنفسك "

منظّرو و قادة المجتمع الصناعي الأول، الذين اخترعوا آليات التمثيل في مؤسسات اليوم الديموقراطية، كانوا مدركين
جيدا لاحتمالات الديموقراطية المباشرة، في مواجهة ديموقراطية التمثيل النيابي . و في الدستور الثوري الفرنسي لعام 1793، كانت هناك ملامح لديموقراطية " اصنعها بنفسك " المباشرة . غير أن نواقص الديموقراطية المباشرة و حدودها كانت معروفة جيدا، و مقنعة أكثر في ذلك الزمان.. ثار اعتراضان لدي من كانوا ينظّرون للفيدرالية في وجه مثل هذا الابتداع . أوّلهما : أن الديموقراطية المباشرة لا تتيح فسحة من الوقت لمراجعة و تأمّل ردود فعل الجمهور العاطفية و المؤقّتة . و ثانيهما : أن وسائل الاتصال في ذلك الحين لم يكن بإمكانها أن تستوعب مثل هذه الآليات .." .
غير أن ما نشهده اليوم من إنجازات هائلة في مجال الاتصال، يتيح للمواطن المتعلّم الاعتماد على التكنولوجيات المتقدّمة في الكمبيوتر و أقمار الاتصال و التليفونات و آليات التصويت و قياس الرأي العام، أن يقوم بالمشاركة في إبداء رأيه في القرارات السياسية المطروحة، بشكل عملي .
إعادة توزيع مسئولية اتخاذ القرار

من القمّــة إلى القاعــدة

بعد الحديث عن مبدأي أفول الأغلبية، و الديموقراطية شبه المباشرة، ننتقل إلى الدعامة الثالثة لديموقراطية القرن الحادي و العشرين، و التي تقوم على مبدأ إعادة توزيع مسئولية اتخاذ القرار، و هبوطها المتدرّج من القمّة إلى القاعدة . و هذا يعني بشكل آخر : تفكيك الاختناقات الحادثة في عملية اتخاذ القرار، و وضع مسئولية القرارات عند المستوى الذي يجب أن تكون عنده .
و هذا يعني أن بعض المشاكل لا يمكن حلّها عند المستوى المحلّي.. و البعض الآخر لا نستطيع حلّه عند المستوى القومي .. و البعض الثالث يحتاج العمل عند عدّة مستويات، في نفس الوقت . أضف إلى هذا جميعه، أن المستوى المناسب لإصدار قرار ما، لا يبقى على حاله، و أن الأوضاع تتغيّر بمرور الزمن .
المستويات تحت القومية
و اليوم، تتناقض التنظيمات السياسية بشكل كبير مع هذا الفهم . لقد حدث تحوّل في طبيعة المشاكل، لكن لم يتم تحوّل مناظر على مستوى عملية اتخاذ القرار . لهذا، بقيت نسبة هائلة من عملية اتخاذ القرار عند المركز، و الحرص دائما على دعم و تقوية المؤسسات الخاصّة باتخاذ القرار عند ذلك المستوى . و على العكس من ذلك، لم يعد هناك الكثير من القرارات التي تتخذ عند المستويات الأقل، مع بقاء الهياكل المطلوبة لذلك متخلّفة بشكل كامل .

التعامل مع الرشوة و الفساد

العديد من المشاكل التي تتمسّك الحكومات القومية بتولّي معالجتها، تكون خارج تحكّمها .. أو هي أكبر بكثير من أن
تتصدّى لها حكومة بمفردها . لذلك نحتاج بشدّة إلى ابتكار مؤسسات جديدة على المستوى الدولي، نستطيع أن ننقل إليها الكثير من القرارات التي تكون ضمن مسئولية الدولة حاليا . فالدولة القومية لا تستطيع بمفردها أن تتعامل مع القوى البعيدة عن تحكّمها، كالتي تتمتّع بها الشركات متعدية الجنسيات، و التي هي ـ بطبيعتها ـ منافس قوي للدولة القومية، إذا ما كان اعتماد الدولة على تشريعاتها القومية فقط .
يتناول توفلر هذه النقطة، من زاوية خاصة .. فالمؤسسات الأمريكية التي تبيع منتجاتها خارج البلاد، تضار بشدّة من جرّاء القوانين الأمريكية، التي تمنع الرشوة .. فالحكومات الأخرى تتيح ـ بل و تشجّع ـ شركاتها على تقديم رشاوى للزبائن الأجانب . كذلك تواجه الشركات متعددة الجنسيات، التي تمضي في عملها وفق مسئولية حماية البيئة، منافسة غير عادلة من الشركات التي ليس لديها مثل هذا الالتزام .. و لن يختفي هذا إلا بعد أن نتوصّل إلى بنية تحتية مناسبة، على مستوى العلاقة بين الدول .

وكالات عالمية جديدة

يقول توفلر : نحن نحتاج إلى وكالات عالمية جديدة، توفّر لنا إنذارا مبكّرا في حالة إصابة محصول زراعي، و تقوم بتحقيق التعادل بين و الاستقرار لأرجحة أسعار الموارد الأساسية .. و تستطيع أن تضع حدّا لانتشار لهيب تجارة السلاح المتضخّمة .. نحن في حاجة إلى جماعات أو اتحادات أو فرق من التنظيمات غير الحكومية، التي تكون قادرة على مهاجمة مختلف المشاكل العالمية .
و يستطرد توفلر قائلا، أننا سنحتاج إلى اختراع وكالات جديدة لتقنين و تنظيم أوضاع العملات، و الحدّ من تقلباتها .. كما سنحتاج إلى بدائل ـ أو تحوّلات كاملة ـ للعديد من المنظمات العالمية : مثل صندوق النقد الدولي، و البنك الدولي، و حلف شمال الأطلنطي ( و هذه مسألة غاية في الأهمية، لأن احتكارات السلاح و البترول و المقاولات في الولايات المتحدة الأمريكية، قد أفسدت هذه المنظمات العالمية، و عكست مسارها بحيث أصبحت تشكل خطرا كبيرا على البشرية جمعاء ) . ثم يقول توفلر أننا نحتاج أيضا إلى اختراع وكالات تعمل على نشر مزايا التكنولوجيا، و حدودها و آثارها الجانبية . ثم يقول : و علينا أن نسرع في بناء وكالات قوية عابرة للدول، للتحكّم في الفضاء الخارجي .. كما يجب ان نعيد بناء الأمم المتحدة من القمّة إلى الأساس ( و هذه مسألة غاية في الأهمية، و تعتبر من الضروريات الأساسية . لكن السؤال الذي يطرح نفسه، و يكون على توفلر أن يجيب عليه : كيف سنلزم بناة الإمبراطورية الأمريكية بهذه الإجراءات التي لا يمكن تناسيها ؟ ) .

أهمية الهبوط بمستوى القرار

بالنسبة للعلاقات بين الدول، نحن عند مستوى السذاجة و التخلّف السياسي، الذي كنّا عنده قوميا، عندما بدأت الثورة الصناعية منذ 300 سنة . و عندما ننقل بعض من مسئوليات اتخاذ القرار من المستوى القومي إلى المستوى الأعلى، العالمي أو العام، فإن ذلك يرفع جانبا من المعاناة التي تشكو منها القيادات المركزية عند قمّة الدولة القومية .. لكن هذا يشكّل نصف المهمة المطلوبة، نتيجة لضرورة الهبوط بقدر كبير من القرارات المركزية في اتجاه مستويات القواعد .
يقول توفلر في هذا " اللامركزية السياسية ليست ضمانا للديموقراطية، فالاحتمال الأكبر أن نواجه مظالم أنصار
المحلية . و السياسات المحلّية غالبا ما تكون أكثر فسادا من السياسات القومية .. بل إن ما يجري تحت لافتة اللامركزية ـ مثل ما حدث في حكومة نيكسون تحت مسمّى إعادة التنظيم ـ يكون في أغلب الأحيان شبه لامركزية، لحساب السلطة المركزية .." .
خلاصة القول، و رغم كلّ ما يثار من اعتراضات، لن تستطيع الحكومة ـ أي حكومة ـ أن تمارس عملها بالكفاءة المطلوبة منها، دون توزيع أساسي ملموس للسلطة المركزية التقليدية، التي عرفناها على امتداد عصر الصناعة .. فقد أصبح معروفا، أن أي بنية سياسية ـ حتّى لو سخّرت لخدمتها أقوى أجهزة الكمبيوتر ـ لن تتجاوز قدراتها حدّ التعامل مع قدر معيّن من المعلومات، و لا يمكنها أن تتخذ سوى كمّ معيّن و نوعية معيّة من القرارات .
أضف إلى هذا، أن الهياكل الحكومية مطلوب منها أن ترتبط ببنية الاقتصاد، و بالنظم المعلوماتية الجديدة . و في هذا المجال، نشهد اليوم تحوّلا لامركزيا في الإنتاج و النشاط الاقتصادي . و الواقع يقول أن السياسات الاقتصادية الموحّدة التي تحمل ختم العاصمة، تكون لها انعكاسات متباينة جدا على كلّ من الاقتصاديات الفرعية .. نفس السياسة التي تنعش اقتصاد منطقة ما، قد تخرّب اقتصاد منطقة أخرى .. و من هنا تجيء أهمية خضوع قدر كبير من السياسة الاقتصادية لعمليات اللامركزية .