الأربعاء، يناير ٢١، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل


التكنولوجيا الابتكارية

كيف تغيّر حياتنا ؟ ..

يشرح يونيجي ماسودا في كتابه الهام، كيف تغير التكنولوجيا الجديدة حياتنا و قيمنا، فيقول ..
بشكل عام، تغيّر التكنولوجيا الابتكارية النظم الاجتماعية و الاقتصادية، من خلال المراحل الثلاث التالية :
المرحلة الأولى، و فيها تقوم التكنولوجيا بالعمل الذي كان الإنسان يقوم به في السابق .
المرحلة الثانية، و فيها تجعل التكنولوجيا من الممكن القيام بعمل، لم يكن بإمكان الإنسان أن يقوم به من قبل .
المرحلة الثالثة، تتحوّل فيها البنية الاجتماعية و الاقتصادية القائمة إلى نظم اجتماعية و اقتصـادية جديدة .

يساعد على فهمنا لمراحل ماسودا الثلاث، أن نطبّقها على التحوّل من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي :
1 ـ قامت تكنولوجيا الصناعة بنفس العمل الذي كان الإنسان، و الحيوان، يقوم به في عصر الزراعة .
2 ـ تم تطوير تكنولوجيا الصناعة لتوفير إمكانات في العمل، لم يكن بإمكان الإنسان أن يقوم بها، و لن يكون بإمكانه ذلك .
3 ـ نتيجة للمرحلتين السابقتين، حدث تحوّل في الهياكل الاجتماعية و الاقتصادية للمجتمع الزراعي، فظهرت النظم الجديدة للمجتمع الصناعي .

كانت الأسرة في المجتمع الزراعي وحدة اقتصادية متكاملة : تنتج، و تستهلك إنتاجها، و تتكفّل بالخدمات المطلوبة، و نتيجة لزحف الصناعة، و ظهور الإنتاج على نطاق واسع، انفصل الإنتاج عن الاستهلاك، و ظهرت السوق بمعناها الصناعي، لإجراء التكامل بين الإنتاج و الاستهلاك . و انتزعت من الأسرة العديد من المهام، فأوكل التعليم للمدارس، و العلاج للمستشفيات، و الأيتام إلى الملاجئ . و حدث نفس الشيء في تقسيم العمل، و أدوات اتخاذ القرار .

من الصناعة إلى المعلومات

هذا تطبيق عاجل على مرحلة التحوّل السابقة، فما هو تطبيق ماسودا على التحوّل الحالي ؟ .

يحدد ماسودا المراحل الثلاث للتحول من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات كالتالي :
أوّلا : الوصول إلى التسيير الذاتي ( الأوتوماتية )، كآخر تطوّر للمجتمع الصناعي، حيث تقوم تكنولوجيا المعلومات ( الكمبيوتر و الاتصالات المعتمدة على الكمبيوتر ) بالعمل العقلي نيابة عن الإنسان
ثانيا : الوصول إلى خلق المعارف اعتمادا على التكنولوجيا المتطوّرة، أيّ تطوير عمل الكمبيوتر، بحيث يتجاوز العمل كحاسب إلكتروني، و بحيث يصبح في إمكانه أن يتيح للمعلومات و المعارف الداخلة إليه أن تتفاعـل، و تلـد معارف جديدة، لم يكن الإنسان الذي يعمل على ذلك الكمبيوتر يعرفها . و بمعنى أوسع، أن يصبح بإمكان التكنولوجيا الجديدة أن تضخّم العمل العقلي، بطريقة لم يكن، و لن يكون، بإمكان العقل البشري أن يصل إليها .
ثالثا : نتيجة للمرحلتين السابقتين، تتيح التكنولوجيا المتطوّرة ابتكار النظم الجديدة، و ليس فقط المعارف الجديدة . و هذا، يفرض مجموعة من التحوّلات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية .

الأوتوماتية، أو التسيير الذاتي

و يشرح ماسودا بالتفصيل ما طرحه من المراحل التي تقود إلى تأسيس مجتمع المعلومات .

بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني بذلك الأوتوماتية أو التسيير الذاتي، يقول أنّ الأوتوماتية قد جرىتعريفها فيما سبق، بأنّها تولّي الكمبيوتر، و الآلات العاملة بالكمبيوتر ( الروبوت )، مختلف نواحي النشاط العقلية للإنسان في عملية الإنتاج، مثل التعرّف و الفهم و إجراء الحسابات و الذاكرة و الحكم على الأشياء، و التحكّم فيها . إلاّ أن التوسّع في تكنولوجيا ( الكمبيوتر ـ الاتّصالات )، يغيّر هذا المضمون التقليدي . من ذلك :
· ستحمل تكنولوجيا ( كمبيوتر ـ اتّصالات ) معها الإدارة الذاتية للإنتاج . فالإنتاج الصناعي، هو ببساطة، تطبيق القوانين العلمية لتحويل المواد الخام إلى سلع نافعة . و كانت وظيفة الكمبيوتر، هي أن يقوم بالتغذية المرتدّة ( فيد باك ) بشكل سريع في عملية الإنتاج، مستجيبا للتغيّرات التي تطرأ على العملية الإنتاجية . غير أن ما سيتحقّق في المستقبل القريب، هو الإدارة الذاتية الكاملة للمشروعات الصناعية، فلا تحتاج المصانع إلى عمل يدوي بالمرّة
· و ستأتي هذه التكنولوجيا معها بالتسيير الذاتي للخدمات و العمليات ذات التوجّه المعرفي . كلّما صادفنا نشاطا بشريا، له طبيعة معرفية، و يخضع لنظام منطقي، أمكننا برمجة الكمبيوتر ليؤدّي نفس العمل .. مثل الأعمال المكتبية، أو التي تتصل بإصدار الفواتير، و إعداد الحسابات .
· ثم نأتي أخيرا إلى التسيير الذاتي للنظم، و هو نوع التسيير الذاتي الذي يخلق نظما موحّدة، يمكن أن تربط بين العديد من الوظائف الفرعية ذاتية التسيير، في أماكن مختلفة، منفردة بتغذيتها المرتدّة الذاتية لكل منها . مثال ذلك، نظم التحكّم المتكاملة في المرور، و مسار قطارات السكك الحديدية .. و حتّى نظم الهبوط على القمر .

ابتكار النظــم

نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة، و هي ابتكار الأنظمة . ممّا يعني ظهور نظم ( اقتصادية ـ اجتماعية ) جديدة، تحل محلّ القائمة . و يعطي ماسودا مثلا بما قامت به الآلة البخارية من تعجيل و تصعيد للثورة الصناعية، جالبة التغييرات التي استحدثت نظما اقتصادية و سياسية جديدة . على هذا، يمكننا القول بأن عصر المعلومات الذي يتحقّق عن طريق تكنولوجيا المعلومات ( كمبيوتر ـ اتصالات )، سيجيء بتغيّرات اجتماعية، أكبر بكثير من التي جاءت بها الثورة الصناعية . و يقول أن علماء المستقبل منهمكون حاليا في تصوّر هذه التغيّرات في النظم في ظلّ مجتمع المعلومات، فنظام القيمة المادّية الذي شاع في عصر الصناعة، سيتحوّل إلى نظام جديـد يطلق عليه اسم " القيمة الزمنـية "، أو " قيمة الوقت "، كما يرون أن النظام الاقتصادي القائم على التنافس الحرّ، يتحوّل نظام جديد يقوم على التعاون . كما يتوقّعون تحولات شاملة في نظام الممارسة الديموقراطية، و في التعليم، و في الإدارة .. إلى آخر ذلك، و من ثمّ تحوّلات شاملة في القيم السائدة .

تزاوج رؤى الشرق و الغرب

هذا التزاوج بين رؤى الشرق، متمثّلة في كتابات يونيجي ماسودا، و رؤى الغرب، متمثلة في كتابات آلفين توفلر، أتاح لي أن أتوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة للتغيّرات الجذرية المتسارعة التي يمرّ بها العالم، و التي تقود إلى شيوع مجتمع المعلومات .
هذا الوضوح حول الرؤية المستقبلية الشاملة، كان سبيلي إلى رسم خريطة، تتضمّن مسببات التغيير التي قادت إلى انهيار النظام الصناعي و قيام مجتمع المعلومات، و تتضمّن أيضا أهم التغيّرات التي ستطرأ على حياة البشر في عصر الصناعة، و التي تتبادل التأثير فيما بينها لتسارع من إحداث عملية التحوّل إلى مجتمع المعلومات .
لقد حصرت المسبّبات الرئيسية للتغيير، في ثلاثة عناصر :
· الدائرة النشطة لثورة المعلومات .
· التناقص المتواصل في وقود الحفريات، و المواد الخام .
· التزايد المتواصل في تلويث البيئة .

ثورة المعلومات، و الدائرة النشطة

تنتظم عناصر هذه الدائرة على محيطها، و تؤثّر في دفع بعضها البعض على التوالي، على صورة تفاعل متسلسل . عناصر هذه الدائرة هي : تسارع المعلومات و تدفّقها، و تطوّر التكنولوجيا التي تتعامل مع المعلومات، و ما يقود إليه سيل المعلومات المتزايد من تمايز و تفرّد بين البشر الذين يتأثّرون بذلك السيل .
و مسألة تنوّع البشر و تمايزهم، و خروجهم من أسر النمطية التي فرضها عليهم عصر الصناعة، من المسائل الجوهرية التي ساعدت بشدّة على انهيار الكثير من مبادئ و نظم عصر الصناعة . و كل عنصر من عناصر الدائرة النشطة يحثّ العنصر الآخر، فتنوّع البشر يراكم المعلومات، و تراكم المعلومات يقود إلى تمايز البشر.. و هكذا، يقود هذا التاعل المتسلسل إلى ما نعرفه اليوم باسم " ثورة المعلومات " .

استنزاف الطبيعة

بالإضافة إلى الدائرة النشطة، توجد عدة عوامل أخرى تدفع إلى انهيار مجتمع الصناعة، و من أهمّها استنزاف مخزون الأرض من وقود و خامات، و الوصول بتلويث البيئة إلى نقطة اللاعودة .
لقد آمن عصر الصناعة بأن الطبيعة موجودة في انتظار من يستغلّها، بصرف النظر عن العواقب . و لم يتصاعد الوعي باستنزاف المخزون و تلويث البيئة، إلاّ بعد تدفّق المعلومات و المعارف، و إدراك الجميع إن الأمور لا يمكن أن تمضي بنفس الطريقة .

كانت عناصر التأثير الثلاثة، مع تطوّر تكنولوجيا المعلومات الابتكارية، من أهمّ أسباب تحوّل ثورة المعلومات، إلى مجتمع معلومات . و إلى الرسالة التالية لنستعرض " حياتنا في مجتمع المعلومات "