الاثنين، يونيو ٢٢، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل


أنصار المستقبل

دكتور إبراهيم حلمي ..

و ضحكات التخريمة الحضارية !


غير أن خبراتي مع القرّاء، لم تكن أبدا بهذه السلبية التي وجدتها عند الساسة و المتنفّذين البيروقراطيين، لقد اكتشفت جمهورا واسعا من القراء المستنيرين الراغبين في المزيد من فهم الواقع الصادق لحياتنا الحالية، و عناصر التغيير الشامل التي نمر بها، و شكل حياتنا القادمة التي يرسمها .
و في البداية حاولت أن ألتقي بمن سبقوني إلى خوض مجال التفكير المستقبلي، لكي أستفيد من خبراتهم، و لكي أحاورهم لأمتحن الفكر الذي أطرحه على محكّ خبرتهم و معارفهم .
و من بين الذين أفادني حوارهم كثيرا، المفكّر الراحل د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن، وزير التخطيط الأسبق، و أحد مؤسّسي اتّحاد دراسات مستقبل العالم . كنت أسعى إلى زيارته في منزله بصحبة السفير الراحل تحسين بشير، الذي كان صديقا قديما له .
عندما كنت أعرض عليه أفكاري، و تصوّري لكيفية اقتحام مصر، و باقي الدول النامية، لعصر المعلومات، توقّف طويلا عند حديثي عن إمكان الانتقال إلى مجتمع المعلومات، قبل اكتمال نموّنا الصناعي . عدت أطرح تصوّري، فقال ضاحكا " أنت تعني أن نقوم بتخريمة حضارية ؟! .."، فضحكت معه و أنا أقول " فعلا .. قد لا أعرف الآن الآليات التي يتحقق بها هذا، و لكنّي واثق أن تأجيل دخولنا إلى عصر المعلومات إلى حين استكمال نموّنا الصناعي، سيوقعنا في تخلّف صناعي معلوماتي مركّب .." . كان حوار الدكتور إبراهيم معي حول هذه النقطة، هو الذي جعلني أولي اهتمامي الشديد ـ بد ذلك بسنوات ـ بحديث المفكّر الياباني ماسودا في مؤتمر سالزبورج، حول التنمية الآنية المزدوجة الصناعية المعلوماتية، لدول العالم الثالث .
لكن هذا المجال الخارجي له حديث آخر ..

* * *

مع انتظام ظهور باب " مستقبليات " في مجلة المصور، كنت أسعد باتصال و لقاء العديد ممن استجابوا لرؤيتي المستقبلية، حول التغيّرات و التحوّلات التي يمرّ بها البشر، و التي تصنع مجتمع المعلومات .. كان من بينهم شباب في مقتبل حياتهم العملية، و أساتذة و مفكّرون قرأت لهم و لكن لم أكن قد حظيت بفرصة اللقاء الشخصي معهم .
من أوائل الذين اتّصلوا بي من الشباب، فتحي عبد الحميد و محمد شلبي، و من الأساتذة و المفكّرين و الكتّاب المهندس الراحل حافظ أمين، و د. رفعت لقّوشة، و د. محمود جبريل، و د. محمود محفوظ .

اللقاء الأوّل مع طلبة الثانوي

اتّصل بي الشاب محمد شلبي، ثم زارني بالمنزل، و عرفت أنه مدرّس لغة عربية بمدرسة ليسيه الحرّية بالإسكندرية . قال أنه يتابع كتاباتي في المصوّر، و أنه قد قرأ ما صدر من كتبي عن المستقبل، و جاء مفوّضا من إدارة المدرسة يدعوني لحوار عن المستقبل مع طلبة الثانوية العامة بالمدرسة . و أضاف قائلا أن الطلبة يريدون مناقشتك في كتابك " العالم سنة 2000 " بالتحديد .
لم يستمر تردّدي طويلا نتيجة للحماس الشديد من جانب محمد شلبي، فوافقت . و في اليوم المحدد سافرت إلى الإسكندرية، و قبل الوقت المحدّد كنت أقف بسيارتي أمام مدخل المدرسة . فوجئت بالمظاهرة التي رتبها محمد شلبي.. طلبة الثانوية من البنين و البنات يقفون على جانبي الدرج الذي يقود إلى داخل المدرسة، يصفّقون على سبيل التحية .. و أنا امضي متقدما كاتما ضحكتي لهذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه .
المهم، أنه عندما التقيت مع التلاميذ في المدرج، و بدأت تساؤلاتهم، اكتشفت أنهم قد قرءوا الكتاب بالفعل، و أن أسئلتهم تكشف عن فهم ملفت ! . و بقي اندهاشي، حتّى قال لي شلبي أنه اختار هذا الكتاب لبرنامج القراءات الحرّة، و أنه قد ناقشهم فيه على مدى عدّة أسابيع .
بقي الشاب المتحمس محمد شلبي على صلة دائمة بي، و تابعت نشاطاته، و تغيّرات مسار عمله، عندما ترك التدريس للعمل في برامج الكمبيوتر، ثم جهوده في تجهيز برامج الجامعة المفتوحة بكلية التجارة بالإسكندرية .. ثم عمله كخبير في التفكير الابتكاري بجامعة الدول العربية ، و أخيرا انضمامه آخر الأمر إلى "جيتراك "، مركز التدريب و الاستشارة، ثم عمله كخبير ابتكاري في العالم العربي .

نادي المســتقبل

عندما لمست حماسا للفكر المستقبلي لدى العديد من القراء، طرحت فكرة تكوين كيان أو مجموعة تفكير أو جماعة بحث، تتبادل الأفكار حول الرؤية المستقبلية التي تفيد في إعادة بناء حياتنا، بما يتيح لنا أن نتجاوز صفة التخلّف التي لحقت بنا طويلا .
و كانت الاستجابة الأولى، من الدكتور رفعت لقوشة، الأستاذ بجامعة الإسكندرية،طرح فيها صيغة إقامة " نادي المستقبل "، حتى يبعد بالتجمّع المنشود عن الصفة الحزبية، و يضفي عليه صفة التجمّع الثقافي، الذي يتيح الحوار و تبادل الأفكار حول المستقبل بشكل عام، و حول مستقبل مصر بشكل خاص . و قد حظي اقتراح د. لقوشة بحماس عدد من المتحمسين لفكرة البحث المستقبلي، من الشباب و الكبار . و قد أفردت باب " مستقبليات " في المصوّر لمساهمات جميع الذين رغبوا في طرح أفكارهم المستقبلية أو التنظيمية . كنت أسعى من وراء هذا إلى أن نتوصّل إلى صياغة بيان مستقبلي، يساعدنا على وضع رؤية مستقبلية بديلة للواقع المصري الحالي، تصلح أساسا لعملية إعادة بناء استراتيجية، تتيح لنا أن نلحق بركب المجتمعات الساعية إلى اقتحام مجتمع المعلومات من أوسع أبوابه .

الرؤية البديـلة

و من أجل توضيح أهمية الرؤية المستقبلية البديلة، كتبت قائلا أن النظام ـ أيّ نظام ـ سواء كان نظاما سياسيا ( حكومة )، أو نظاما اقتصاديا ( شركة ) ، أو نظاما كيميائيا ( مركّب كيميائي )، أو نظاما بيولوجيا ( جسم الإنسان )، يتعرّض دائما لنوعين من الضغوط : ضغوط داخلية و ضغوط خارجية .
و لنأخذ، على سبيل المثال، نظاما اقتصاديا، مؤسّسة أو شركة ما . هذه المؤسّسة تحقّق نموّها في وجه ضغوط داخلية ( تنظيمية أو إدارية أو عمّالية )، و ضغوط خارجية ( مؤسّسات منافسة، تغيرات في النظام الضريبي العام أو الجمارك، تغيرات في أسعار الصرف، مشاكل في البيئة ) . و من المعروف في دنيا الاقتصاد أنّه إذا ما وصلت الضغوط الداخلية إلى حدّ معين، مع تصاعد الضغوط الخارجية إلى حدّ معين، ينهار النظام، و تتبدّد المؤسّسة .
المخرج الوحيد لهذا الوضع المأساوي، هو أن تكون لدى تلك المؤسّسة رؤية بديلة شاملة، يمكن أن يعاد بناء المؤسسة بالكامل على أساسها، لإنقاذها من مأزق الضغوط المزدوجة الواقعة تحت تأثيرها .
و نفس الشيء ينطبق على الحكومة . أي حكومة من الحكومات التي تعاقبت على مصر، لم تكن لديها الجرأة لإحداث تغييرات جذرية تتوافق مع التغيّرات الكبرى التي يمرّ بها العالم، و التي تستجيب لها الدول المتطوّرة قدر طاقتها . و عندما كنت أطرح في محاضراتي أو لقاءاتي الأسس الجديدة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مجتمع المعلومات، كانت ردود فعل الحاضرين تتراوح بين اليأس و الغضب، و هم يتساءلون " متي ينتبه صناع القرار في مصر إلى ما تطرحه من حقائق ؟، و هل تعتقد أنهم سيستجيبون يوما ما لما تفرضه حقائق التحوّل من تغييرات و عمليات إعادة بناء ؟ .." .
كنت أعترف لهؤلاء بأنني لا أعرف إجابة عن هذه التساؤلات، و لكن الذي أعرفه جيدا، أن تصاعد التغيّرات النابعة من التحوّل إلى مجتمع المعلومات، سيقود إلى تصاعد الضغوط الداخلية و الخارجية، على النظم الحاكمة في العالم بدرجات متفاوتة، و أن ما أسعى إليه من كتاباتي و محاضراتي، هو أن أشيع الوعي بأهمية التفكير المستقبلي، و بأهمية طرح رؤية مستقبلية شاملة نابعة من مصالحنا و فهمنا، و بضرورة تكاتف أصحاب الفكر المستقبلي و سعيهم إلى وضع إطار بيان مستقبلي، يمكن لصانع القرار الحالي، أو من سيحلّ محلّه، أن يلجأ إليه عندما تتصاعد الضغوط، مهدّدة بالانفجار ..! .

و إلى الرسالة التالية، لنرى نتائج محاولة تعميم الفكرة على العالم العربي .