الأربعاء، مايو ٢٧، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

التصادم مع الواقع


الجنزوري.. و خطته الخمسية


من الطبيعي أن تدخل الخطة الخمسية لمصر في صميم اهتمامي، باعتبار أن الخطّة، أيّ خطّة سنوية أو خمسية، لابد أن تنبع من استراتيجية طويلة المدى، بحيث تكون الخطة هي السبيل الذي نختاره من المتاح إلى المأمول . حرصت على قراءة كل ما يقوله د. كمال الجنزوري، وزير التخطيط في ذلك الوقت، في وسائل الإعلام المختلفة من صحافة إلى إذاعة إلى تليفزيون . وجدت أن ما يقدّمه لا يرقى إلى مستوى خطة، فكتبت مقال قصير بعنوان " خطة خمسية .. أم برنامج ردود أفعال ؟ " .
من بين ما قلته، أن الخطة لا تضيف جديدا إلى ما فعلته و تفعله الحكومة خلال السنوات الماضية . فهي تتناول المشاكل واحدة بعد الأخرى، و تحاول أن ترسم حلاّ لكل مشكلة بقدر ما تسمح به الظروف، دون أن ترجع إلى رؤية شاملة تستنبط منها هذه الحلول، فتعطي لكل مشكلة حجمها الحقيقي بالنسبة للمشاكل الأخرى، و دون إدراك كامل للعلاقات متبادلة التأثير بين هذه المشاكل . إنّها خطة ردود فعل، نبعت من مكاتب الخبراء و المختصّين و الفنيين، عند قمّة الجهاز البيروقراطي .
ثم قلت أن " اللـزمة " المتكرّرة، و التي تتردّد في مختلف بنود الخطة، هي " المزيد من كذا .. و المزيد من كيت .." . و هذا يعني أن واضع الخطة يتصوّر المستقبل و كأنّه استمرار للماضي، أو ـ على أحسن الفروض ـ المزيد ممّا هو حادث . و هذا خطأ أساسي و قاتل، قد يجوز في أحوال الاستقرار الحضاري الشامل، لكنّه لا يجوز في ظل الظروف دائمة التغيّر التي تمر بها البلاد، و التي تتّسم بالديناميكية العقائدية، الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .

تجاهل التحوّلات العالمية

و قلت أن أهم نقد يوجّه إلى هذه الخطة الخمسية، هو تجاهلها للتحوّلات الحضارية الكبرى التي تسود العالم .. " و لكن .. ما قيمة هذا الحديث الآن، و الخطة الخمسية الجديدة قد أجيزت، و بدأ النقاش حول البرامج التنفيذية للسنة الأولى منها ؟ .. كلّ ما أطمح إليه، هو أن نبدأ من الآن التفكير في أسلوب جديد لوضع الخطة الخمسية القادمة، و التي يجب أن تنبع من استراتيجية أبعد زمنا " .
ثم طرحت مجموعة الواجبات التالية :
· التفكير في طريقة ديموقراطية لوضع إطار الخطة، تتيح مساهمة القواعد، فأحلام شعب مصر لا يمكن أن تتحدّد من وراء مكاتب الصفوة العليا للجهاز التنفيذي .
· رفع كفاءة أجهزة الإحصاء و الرصد، و خلق القدر الكافي من قنوات التوصيل بين قاعدة الهرم و قمّته، حتّى يمكن لأجهزة التخطيط أن تقوم بعملها على أساس من الرصد الأمين لواقع مصر، في تطوّر ذلك الواقع من يوم لآخر .
· أن ندرس بجدّية، و على نطاق واسع، معالم المجتمع الجديد الزاحف على العالم، و الذي بدأ يحلّ محلّ المجتمع الصناعي . , أن نتعرّف على التحوّلات الأساسية التي يمرّ بها العالم. و التي تقلب ـ رأسا على عقب ـ ما تعارفنا عليه طوال القرون الثلاثة الماضية، و كلّ ما درسناه عن التخطيط و العمل و البطالة و التعليم و الطاقة و الحكومة و العقيدة .

لماذا قامت الدنيا، و لم تقعد ؟ !

لم أكن أتصوّر أن تحدث هذه الكلمات القليلة ذلك الأثر، الذي امتدت آثاره على شخصي لسنوات ! . لم أفهم ـ في ذلك الوقت ـ لماذا قامت الدنيا و لم تقعد، في أعقاب ما كتبت . كان من حقّي أن أتساءل لماذا ثارت ثائرة الوزير على كلماتي المحدودة، و الجرائد و المجلاّت و محطات الإذاعة و قنوات التلفزيون تحتشد كل يوم بتصريحات الجنزوري عن خطته الجديدة ؟ .
و فوجئت بعد أسبوعين بمجلة " المصوّر "، التي أكتب فيها، تجري مع الوزير حوار الأسبوع في سبع صفحات، لم يكتف الجنزوري فيها بالدفاع عن خطته، لكنه قال ما معناه أنّه عندكم من يكتبون عن الخطة دون أن يقرؤها أو يفهموها ! .. فكتبت ردّا على ذلك أنّني علّقت في كلماتي على ما أوردته وسائل الإعلام القومية، على لسان الوزير عن خطّته . و نظرا لأن الوزير لم يكذّب ما جاء على لسانه، اعتبرت ما قيل يتضمّن أفكاره عن خطته الجديدة، فعلّقت على ذلك .
بعد ذلك بأيام، تلقيت مكالمة من الدكتور يوسف والي، دون سابق معرفة شخصية بيننا، و كان، للحق، رقيقا و مهذّبا . قال " نريد أن نصفّي الخلاف الذي بينك و بين الأخ كمال، و ننهي هذه الخصومة .." . قلت له أن ما بيني و بين الوزيـر خلاف موضـوعي، و ليس خصـومة، رغم أنه تجاوز حـدّ الليـاقة عندما وصمني بعدم الفهم . و بعد حوار طويل ختمه بأن قال " أستأذنك في أن يطلبك الأخ كمال تليفونيا، لننهي هذا الموقف.."، فقلت على الرحب و السعة .
في اليوم التالي، اتّصل د. الجنزوري، و كان حديثه يفتقد رقّة د. يوسف والي . قال لي " أنـا زعلان منك علشان انت شتمتني ! " . أجبت بهدوء أنّني مؤدّب و لا أشتم أحدا، و كل ما فعلته أنّني علّقت رافضا إهانتك لي بعدم الفهم ..
المهم، أن المسألة انتهت بأن وعدني بإرسال نسخة كاملة من الخطة إلى منزلي . و حدث، فقرأت مقدمة الخطة، التي تتضمّن التوجّهات العامة التي تستند إليها تفاصيل الخطّة، فوجدت أن النقد الذي قدّمته في البداية ما زال قائما . فقلت هذا كتابة في المجلة، و انتهت بذلك الواقعة، على الأقل إلى أن جاء د. الجنزوري كرئيس للوزارة، بعد سنوات .

المفكّر .. و السياسي

ظلّ تساؤلي بلا جواب " لماذا قامت الدنيا و لم تقعد، في أعقاب كلماتي القليلة عن الخطة ؟ .
قيل لي أن كلماتي جاءت في وقت حسّاس بالنسبة للدكتور الجنزوري، فقد كان في ذلك الوقت مرشّحا لرئاسة الوزارة . و يبدو أنه قد حدث رجوع عن ذلك الترشيح، و ظهر اسم د. عاطف صدقي كبديل . و جاءت كلمتي، دون أن أدري، رأس رمح في عملية نقد رئاسية شاملة للجنزوري، تمهيدا لإعلان الاختيار الجديد لرئاسة الوزارة .
و أنا في هذا أستند إلى معلومات لا أعرف مدى صحّتها، لكنها تبدو بعد مرور الأيام معقولة . و هذا، يفسّر العصبية الشديدة التي تناول بها د. الجنزوري هذا الموضوع، كما يفسّر تدخّل د. يوسف والي، من أجل التوقّف عن توجيه نقد جديد .
تأكّدت بعد هذه التجربة، من محنة الاحتكاك بين الفكر و السياسة . ففي الوقت الذي يسعى فيه المفكّر إلى الحقيقة، دون اعتبارات أخرى، يعمد السياسي إلى تلوين الحقيقة بألف لون، لكي تجيء متّفقة مع المصلحة الآنية . لهذا تنشأ الخصومة التاريخية بين الساسة و أصحاب الرؤية المستقبلية، و هي ليست خصومة شخصية، و لكنّها النتيجة الطبيعية للتناقض في الأهداف و المنهج .

تجربة تالية مختلفة

دار الاحتكاك التالي مع الساسة و رجال الحكم، في مجال الإعلام . فقد كنت أقول دائما أن اقتحام المجتمع المصري للمستقبل، يمكن أن يتم من خلال رأسي حربة، هما : التعليم و الإعلام . لهذا كنت أكتب بشكل متواتر عن هذا، على أمل أن تحدث ذات يوم الاستجابة، التي تضعنا على أول طريق المستقبل . تجربتي مع التعليم طويلة و مأساوية، سيأتي ذكرها فيما بعد . و قد بدأت تجربتي مع الإعلام بمقال كان عنوانه " إعلام جديد، لحساب الشعب و الحكومة معا " .

و إلى الرسالة التالية لنرى ما حدث في مجال الإعلام