الأحد، مارس ٣٠، ٢٠٠٨

الحكومة .. و مجتمع التعددية

مجرّد اعتماد المؤسّسة على التكنولوجيا المعلوماتية المتطوّرة، لا يعني إنها أصبحت قادرة على مواجهة التغيّرات التي طرأت على مجال العمل . مع التغيرات الشاملة التي سادت حياة البشر، على مدى العقود الأخيرة، لم يعد بإمكان المؤسّسة، و خاصة الكبيرة في مجال الأعمال و التنظيمات الحكومية، أن تواصل نشاطها بشكل ناجح دون أن تعيد بناء ذاتها بشكل كامل على أسس معلوماتية .
و في هذا يقول الكاتب المستقبلي و خبير الإدارة المتطوّرة بيتر دراكر " يتحرّك مركز الثقل في العمالة بشكل سريع، من العمالة اليدويّة و المكتبية، إلى عمالة معرفيّة تقاوم نموذج العمل بالتحكّم و الانضباط والأوامر من أعلى، الذي استمدّه النشاط الاقتصادي من النموذج العسـكري، منذ سنوات عديدة " .
و هو يوضّح هذا بقوله أن رجال الأعمال - في بداية ازدهار المجتمع الصناعي - لم يجدوا حولهم في مجال التنظيم و الإدارة سوى التنظيم الكبير الدائم للجيش . لذلك لم يكن مستغرباً أن يصبح نظام التحكّم و الأوامر النموذج الأمثل للقيادات التي تكفّلت بإنشاء شبكات السكك الحديدية، و مصانع الصلب، و البنوك الحديثة، و المتاجر الكبرى . و نموذج التحكّم بالأوامر هذا، الذي يقوم على قلّة صغيرة للغاية في القمّة تصدر الأوامر لأعداد ضخمة للغاية عند القاعدة تطيع هذه الأوامر، بقي مأخوذا به على مدى ما يزيد عن مائة سنة

وظيفة اجتماعيّة جديدة

و فيما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأنا ندرك أن الإدارة ليست مجرّد إدارة النشاط الاقتصادي، وأنّها تتجاوز هذا إلى كلّ مجهود بشري يضم مجموعة متباينة المعارف والمهارات في مؤسّسة واحدة . فكان أن اتّسع نطاق الإدارة ليتجاوز المؤسّسات الحكومية و الاقتصادية، لكي يتضمّن المستشفيات و الجامعات وغير ذلك من المنظّمات الثقافية و الفنّية و الدينية و الاجتماعية، التي تجاوزت في نموّها و انتشارها المؤسّسات الاقتصادية و الحكومية بعد الحرب العالمية الثانية . حتّى بالنسبة لجماعات النشاط التطوّعي، أصبح نشاطها يخضع لمنطق الإدارة، و الذي يتضمّن تحديد الإستراتيجية و الأهداف السليمة، وتطوير أداء البشر من العاملين، و قياس مستويات الأداء، و تسويق خدمات المؤسّسة .
على مستوى العالم، أصبحت الإدارة وظيفة اجتماعية جديدة

أهميّة التحليل والتشخيص

و مع تعاظم سيادة التكنولوجيّات المتطوّرة، أصبح على المؤسّسات أن تهتم بعمليات التحليل والتشخيص، أي بالوصول إلى المعلومات، فبغير هذا تغرق هذه المؤسّسات في طوفان البيانات التي تتدفّق من داخل تلك التكنولوجيّات . و الغريب، أن معظم مستخدمي الكمبيوتر ما زالوا يستخدمون هذه التكنولوجيا الجديدة لمجرّد تسريع نفس العمليات التي كانوا يقومون بها من قبل .
الواضح هو أن مجرّد اتّخاذ المؤسّسة أولى خطواتها، يتجاوز استهداف البيانات إلى البحث منها عن المعلومات، تطرأ تغيرات على عمليات اتّخاذ القرار فيها، و على بنيتها الإدارية، و على الطريقة التي يتم بها إنجاز العمل داخلها . هذه التحوّلات قد بدأت اندفاعها السريع على امتداد العالم، و بصفة خاصة بالنسبة للشركات الضخمة ذات النشاط الدولي .
في المؤسّسة القائمة على المعلومات، تشيع المعرفة أساساً عند القاعدة، داخل عقول المختصّين الذين يقومون بمختلف الأعمال، و الذين يقودون أنفسهم . و نحن نمضي في اتّجاه إنجاز العمل، بشكل واسع، بواسطة الجماعات أو الفرق ذات المهام المحدّدة . و فريق المهمّة المحدّدة - بطبيعته - ينهي التتابع التقليدي للعمل في المؤسّسة : البحث و التطوير و الإنتاج ثم التسويق . فالعمل يصبح متزامنا، عندما يعمل الإخصائيّون في مختلف التخصّصات مع بعضهم البعض، داخل الفريق أو المجموعة

قائد واحد للأوركسترا الكبير

يساعدنا على فهم آليّات العمل في المؤسّسة المعرفية الجديدة، تأمّل الأوركسترا السيمفوني الكبير .
في الفرق السيمفونية الكبيرة الحديثة، يشترك في العزف مئات العازفين فوق المسرح . و وفقا للنظريات التقليدية في الإدارة، كان المفترض أن يكون على رأس كل مجموعة من الآلات نائب قائد مختصّ بعمل هذه المجموعة . إلاّ أن الواقع العملي يفيد وجود قائد واحد، يعزف له كل واحد من الموسيقيّين، الذين يكون كلّ واحد منهم قمّة في تخصّصه، دون وسيط بين العازف و القائد .
على أساس هذا يمكن أن نفهم متطلّبات المؤسّسة القائمة على المعرفة . لقد أمكن أن يعمل مئات العازفين مع قائدهم، لأن كل منهم يكون على مستوى مرتفع من المعرفة في تخصّصه . هذا المستوى من المعرفة هو الذي يحدّد لعازف الفلوت أو الكمان أو الإيقاع أو قائد الأوركسترا مهمّته، و ما يجب عليه أن يفعله خلال تقديم العرض .
و في المستشفي، يشترك جميع الإخصائيّين في مهمّة واحدة، رعاية وعلاج المريض . و"النوته" التي يعملون وفقها هي "تشخيص" حالة المريض، ممّا يملي إجراءات معـيّنة على العاملين في معمـل الأشعة السينية، و على المختصيّن في التغذية، أو العلاج الطبيعي، و كل أفراد فريق العمل في المستشفى

هدف بسيط واضح عام

و من هذا نرى أن المؤسّسة القائمة على أسس معرفية, تحتاج إلى وجود أهداف واضحة و بسيطة و عامّة، يمكن ترجمتها إلى تحرك أو فعل محدّد . و لأن "العازفين" في المؤسّسة المعلوماتية يكونون من الإخصائيّين، فإنّه يكون من غير المجدي أن يخبرهم أحد كيف يقومون بعملهم .
لهذا، يجب أن يتركّز بناء المؤسّسة القائمة على المعرفة حول أهداف، تحدّد بوضوح توقّعات إدارتها فيما يتصّل بأداء العاملين فيها . و يجب أن يعتمد نظامها على التغذية المرتدّة(فيد باك)، التي تساعد على المقارنة بين النتائج و التوقّعات، حتّى يمكن لكل فرد أن يمارس التحكّم الذاتي .
و من بين مقتضيات المؤسّسة المعرفية، أن تكون لكل عامل بها مسئوليته المعلوماتية . و مفتاح الوصول إلى مثل هذا النظام، هو أن يسأل كل واحد نفسه:
من في هذه المؤسّسة يعتمد على ما لدي من المعلومات ؟، و بالنسبة لأيّ معلومات ؟،
و أيضا، من الذي أعتمد على معلوماته من العاملين فيها ؟ .
و يشير بيتر دراكر إلى نقطة معيّنة تقتضي الالتفات، فيقول أن مسئولية الفرد المعلوماتية تجاه الآخرين في مؤسّسته يجري تفهّمها بشكل متزايد، و بصفة خاصة في الشركات متوسّطة الحجم . لكن مسئولية الفرد المعلوماتية تجاه نفسه مازالت تلقى تجاهلاً إلى حدّ بعيد . ما زال الكثيرون يعتقدون أنه بحصولهم على المزيد من البيانات، يمكنهم الوصول إلى المزيد من المعلومات . و يرى دراكر أن هذا كان افتراضاً وارداً فيما مضى، عندما كانت البيانات قليلة أو محدودة . و اليوم، مع تدفّق البيانات، يصل بنا هذا إلى تضاعف حمولة البيانات بأكثر ممّا نحتمل، ممّا يقود إلى افتقاد المعلومات المطلوبة

الأسئلة المطلوبة

على المديرين التنفيذيّين و الإخصائيّين المحترفين أن يفكّروا من خلال تساؤلات مطلوبة حول ما تعنيه المعلومات بالنسبة لكلّ منهم، و البيانات اللازمة لذلك . عليهم أن يعرفوا ما الذي يفعلونه في المؤسّسة، ثم عليهم أن يكونوا قادرين على اتّخاذ قرار بشأن الذي يجب عليهم أن يفعلوه، و أخيراً أن يتمكّنوا من تقييم ما يفعلونه و يحدّدون مدى جودته .
على ضوء هذا كلّه ، يكون على الهيئات الحكومية، و المؤسّسات الاقتصادية، و اتّحادات العمّال، وعلى الهيئة العسكرية، بل و على المدارس و الجمعيات غير الحكومية، عليها جميعا أن تغيّر من عاداتها القديمة، و أن تصل إلى العادات الجديدة التي تتّفق مع ما أوردناه .
و لكن، لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة هامة، هي أنّه بقدر نجاح المؤسّسة في ظل الظروف السابقة تكون مصاعب وآلام عملية التحوّل هذه . فإن مثل هذه الإجراءات تهدّد وظيفة و وضع و فرص العديد من العاملين في المؤسّسة . و بصفة خاصة أصحاب مدد الخدمة الطويلة، من متوسطي العمر الذين في مواقع الإدارة الوسيطة، و الذين يميلون أن يكونوا الأقل قدرة على الحركة، و الأكثر إحساساً باستقرارهم في أعمالهم، و في مراكزهم الوظيفية، و في علاقاتهم و سلوكهم