السبت، مارس ٢٢، ٢٠٠٨

ما هذا الجمود و انعدام الخيال؟


الأجيال التي تصنع الحضارة

و الأجيـال التي تعيشها ..

بعض الأجيال تولد و قد كتبت عليها مسئولية تأسيس حضارة، و البعض الآخر لكي يحافظ عليها و يصونها .. و اليوم، في كل مجال من الحياة الاجتماعية، في عائلاتنا، و مدارسنا، و أعمالنا.. في نظم الطاقة التي نعتمد عليها، و نظم اتصالاتنا، تواجهنا الحاجة إلى خلق أشكال جديدة تناسب مجتمع المعلومات .. و ملايين الناس في العديد من الدول قد شرعوا ـ بالفعل ـ في القيام بهذه المهمة . و لن نجد في أي مجال مثل هذا القدر من التخلّف و انعدام المصداقية، و الخطورة أيضا، مثل هذا الذي يتم في حياتنا السياسية !.. كما أننا لا نرى في أي مجال من مجالات حياتنا هذا القدر من انعدام الخيال، و العجز عن التجريب، و الإهمال، و عدم تفهّم طبيعة التغيرات الأساسية، كما هو الحال في مجال الحياة السياسية .
حتّى أولئك الذين يظهرون ابتكارا عاليا في حياتهم العملية الخاصة، في مكاتبهم أم معاملهم، في مطابخهم أم مدارسهم، في بيوتهم أم شركاتهم .. حتّى هؤلاء يبدوا أنهم قد تجمّدوا في مكانهم، إزاء أيّ اقتراح يفيد أن دستورنا أو هياكلنا السياسـية قد أصبحت غير مجديـة، و تحتاج إلى إعادة نظر شاملة . في هذا يقول المفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر قائلا : عملية التغيير السياسي العميق، تبدو مخيفة للغاية، مع مخاطرها القريبة .. إلى الحد أننا أصبحنا ـ فجأة ـ نقبل الواقع المفروض، مهما كان سرياليا و ظالما و جائرا، باعتباره أفضل ما يمكن أن يحدث
ليس انقلابا مباغتا

ما ينتظرنا ـ مع اشتداد الصراع الأعظم ـ ليس تكرار لأي دراما ثورية سابقة .. ليس إطاحة بالنخبة الحاكمة عن طريق " حزب طليعي " ـ بقيادة مركزية ـ تسانده الجماهير . . و ليس عن طريق انقلاب دموي إرهابي . فإقامة بناء سياسي جديد، يلائم مجتمع المعلومات، لن يأتي عن طريق انقلاب هائل وحيد، و لكن نتيجة لتتابع آلاف الابتكارات و الصدامات، على مستويات مختلفة، في أماكن مختلفة، على مدى عقود
و هذا لا يستبعد احتمال العنف، غير أن ذلك يعتمد على مدى مرونة و ذكاء النخب الحاكمة، و ما فوقها و ما تحتها من نخب حالية . إذا ما أظهرت هذه المجموعات قصر في النظر، و فشل في التخيل، و تخوّفا، كما كان الأمر دائما مع الجماعات الحاكمة سابقا، فإنّها ستقاوم المجتمع القادم بعناد، و من ثمّ تصعّد مخاطر العنف و التخريب .
و لا شك أن الظروف تختلف من دولة لأخرى، لكن لم يحدث على مدى التاريخ أن كان هناك هذا العدد الهائل من البشر المتعلمين العقلاء، الذين يتسلّحون ـ جماعيا ـ بنطاق لا يصدّق من المعرفة . لم يحدث أن كان هناك العديد جدا من البشر المتمتعون بمستويات عالية من الرفاهة، و إن لم تكن مستقرة، و مع ذلك تسمح لهم بالوقت و الجهد للاهتمام و النشاط المدني . لم يحدث أن كان مثل هذا العدد قادرا على السفر و الاتصال و التعلّم من الثقافات الأخرى
مؤسسات سياسية بديلة

يقول توفلر " كلّما أسرعنا في تصميم المؤسسات السياسية البديلة، وفقا للمبادئ الثلاثة الزاحفة ـ قوّة الأقلية، و الديموقراطية شبه المباشرة، و توزيع مسئولية اتخاذ القرار ـ كانت فرص نجاحنا أكبر في أن يتم التحوّل سلميا .. " .
و هذا يعني أنه لكي نتجنّب الانقلابات العنيفة، يجب أن نبدأ من الآن التركيز على مشكلة انقضاء جدوى التنظيمات السياسية الحالية، في جميع أنحاء العالم . هكذا يستطرد توفلر مطالبا بعدم الاقتصار على طرح الموضوع على الخبراء، و رجال القانون، و المحامين، و السياسيين، و لكن بطرحه على الجمهور فعليا، على المنظمات المدنية، و اتحادات العمال، و رجال الدين، و جماعات حقوق المرأة، و الأقليات العرقية و الجنسية .. على العلماء و ربات البيوت و رجال الأعمال .
ثم يشير توفلر إلى نقطة غاية في الأهمية، فيقول أن أحد منا لا يعلم تفاصيل ما سيحدث في المستقبل، و ما هو الذي سيكون أصلح من غيره بالنسبة لمجتمع المعلومات .. لهذا، لا يجب أن ينصب تفكيرنا على عملية إعادة بناء هائلة وحيدة، أو في تغيير ثوري جامح وحيد، مفروض من أعلى .. و لكن يجب أن نفكّر في آلاف التجارب الواعية اللامركزية، التي تسمح لنا باختبار النماذج الجديدة لعملية اتخاذ القرار السياسي، على المستويات المحلية و الإقليمية، قبل تطبيقها على المستويات القومية و عبر القومية
لكن، قبل أن ندخل في تفاصيل ما يطرحه توفلر، حول مستقبل الممارسة السياسية في مجتمع المعلومات، يجب علينا أن نتأمّل أوّلا ـ مع التدقيق ـ الأسباب التي تؤكّد أن ديموقراطية التمثيل النيابي قد استنفذت أغراضها

الانتماء إلى الحياة الجديدة

يقول الكاتب المستقبلي روبيرت ثيوبالد و صاحب الأفكار الجيدة في تصّور ديموقراطية مجتمع المعلومات " تصبح مشاركة المواطنين في صناعة القرار ممكنة و مطلوبة، إذا كان بإمكاننا أن نحلّ قيم و رؤى عصر المعلومات محل قيم و رؤى عصر الصناعة. و هو نفس ما حدث عند انتقالنا من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة .
التحوّل السابق تم عبر أجيال، مع اختلاف رؤية كلّ جيل عن الذي سبقه، و ممّا خلق نوعا من التوتّر بين الأجيال . المشكلة حاليا، هو أنه ليس لدينا الوقت الكافي لانتظار حدوث التغيير عبر أجيال، و أن كلّ واحد منا مطالب بأن يعيد اختبار أفكاره عن الحياة و النجاح، على ضوء التغيرات العريضة التي تتعرّض لها حضارتنا . و يقول ثيوبالد " معظمنا يجد هذا الواجب شاقا بشكل غير عادي، لغياب النماذج التي نهتدي بها . لكننا سنكتشف بعد قليل بأن القيم المطلوب منّا تبنيها أكثر إنسانية، و أكثر قبولا من التي يطلب منّا التخلّي عنها ..و مع ذلك لن يكون التغيير سهلا .."

السلطة الحكيمة

ما نحتاجه، هو الفهم السليم للسلوك البشري . فلا صحة للقول الذي يتردد كثيرا حول أن الناس يتصرفون بما يتّفق مع مصالحهم، في لحظة إقدامهم على التصرّف . فلم يثبت من التجارب العملية أن الناس عرفوا أين تقع مصلحتهم، أو
عرفوا التصرف الأسلم لبلوغ الهدف، أو التزموا بهذا في تصرفهم، انهم قد يسعون إلى هدف في وقت ما، ثم إلى هدف
آخر في الوقت التالي . و يقول ثيوبالد " الحقيقة ببساطة هي أن الناس يختلف تعريفهم للنجاح، و أن تعريف الفرد يتأسس وفقا لمداركه، و لماضيه، و لخبرته الشخصية، و احتمالاته الوراثية .."
و هو يقول أن السعي لتغيير سلوك البشر يتضمّن التالي :
أولا : مساعدتهم على إعادة تقييم معنى خبراتهم السابقة .
ثانيا : تمكينهم من اكتشاف رؤى المستقبل، التي ستغيّر أهدافهم، إلى اتجاهات يرغبون فيها أكثر .
ثلثا : تعليمهم المهارات التي تساعد على جعل أقوالهم و تصرفاتهم تيسّر وصولهم إلى الأهداف المنشودة .
كأفراد، عليهم تعلّم ممارسة إعادة تقييم ماضيهم، و تصوّر مستقبلهم الجديد، و لا مناص من أن البدء في تعلّم محاولة التأثير على المجتمع الذي يعيشون فيه .. وهذا هو الذي سيقود إلى تحقيق ديموقراطية توقّعية فعّالة .. و مع كلّ هذا، فطبيعة الأمور تقول أن هذا سيقتضي بعض الوقت لظهور التغيير المنشود، بحكم القصور الذاتي الهائل للمجتمع، و مقاومة البنية البيروقراطية لأي تغيير

طرق التحكّم في الذات

المشاركة الصادقة من جانب المواطنين، تحتاج إلى تحوّلات عميقة في الطرق التي نحكم بها أنفسنا :
أوّلا : نحن نحتاج معرفة أن هناك عدد قليل من الصراعات التي يكون فيها أحد الطرفين محقّا بالكامل، و الطرف الآخر مخطئا بالكامل . العيب في نظامنا القانوني القائم هو سعيه لتخريب و إخفاء الظلال الرمادية، و اختزال الأمر إلى أسود و أبيض .
ثانيا : نحن في حاجة إلى تطوير هياكل جديدة تسمح للناس بتطوير أفكارهم و التعبير عنها، بأكبر قدر من الوضوح . في المستقبل، سنحتاج إلى البحث عن المدهش و غير المتوقّع . و القدرة على تقبّل ما هو مستجد، قبل أن يكتمل نضجه، يعتبر من أندر المهارات و أكثر ما نحتاجه منها، في حياتنا الجديدة .
نحن في حاجة إلى خلق آلية جديدة، تساعدنا في توضيح الخلافات و الفرص . و هذه العملية في شكلها الأمثل تتكوّن من أربعة جوانب :
عناصر الاتفاق : جانب ينصب على توصيف عناصر الاتفاق القائم حول موضوع معيّن، و بخاصة العوامل التي تقود الناس إلى الإيمان بأن هذا الموضوع يستحق الاهتمام .
أسباب عدم الاتفاق : و جانب يصف عناصر عدم الاتفاق القائمة حول الموضوع، و أسباب عدم الاتفاق، و نوع المعارف المطلوبة للمساعدة على الوصول إلى اتفاق .
نطاق السيناريوهات : و جانب يستكشف نطاق السيناريوهات التي تفرضها التصورات المختلفة للموضوع الذي نتناوله، و اقتراح المعايير المختلفة للسياسات التي نحتاجها لنستوعب وجهات النظر المختلفة .
الموارد التاحة : و جانب يقرر الموارد المتاحة للمزيد من الدراسة ( مطبوعات، أوديو، فيديو، كمبيوتر .. إلى آخره ).

و الهدف من هذا المنهج ـ كما يقول الكاتب روبرت ثيوبالد ـ هو زيادة مساحة ما هو متّفق عليه، و الحدّ ممّا هو موضع خلاف، بالنسبة لموضوع ما، حتّى يكون لدى أولئك الذين يضعون السياسات أفضل المؤشرات، لفهم العالم الذي يعملون في حدوده .