الاثنين، مارس ٢٣، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

حوار مع الصديق الذكي

في مواجهة ضعف الاستجابة

كنت في أشدّ الحاجة إلى حوار عاقل مع الآخرين .كتبت عن المستقبل و قضاياه، بانتظام و إلحاح، على مدى العديد من السنين، و تعرّضت لقضايا من المفروض أن تثير اهتمام العديدين من المسئولين و الكتّاب و المفكّرين، بل و تستفزّهم في بعض الأحيان ! . و مع ذلك، لم أجد استجابة، إلاّ فيما ندر . فاخترت شكل الحوار ليعوّضني عن حوار مفتقد، و كتبت سلسلة من المقالات تحت عنوان " حوار مع الصديق الذكي "، جمعتها في كتاب عام 1988 .
كنت فيما قبل هذا أطرح أفكارا نظرية عن التحوّلات الكبرى في حياة البشر، من الزراعة، إلى الصناعة إلى المعلومات .. لكنّي لم أربط هذا بواقع و مستقبل مصر . و من الواقع الحوار مع الصديق الذكي، بدأت أربط هذه الأفكار بواقع مصر و مستقبلها، و أتوجّه بالخطاب إلى الكتّاب و المفكّرين و المسئولين، كلّما تناقض توجّهم مع ما نحتاجه للعبور إلى المستقبل .. فكنت كما لو أنّني أدخلت نفسي إلى عشّ الزنابير ! . و حدث الصدام الطبيعي بين الفكر و ما يطلق عليه التناول الأيديولوجي و السياسي . و تتابعت المعارك المحتدمة . لكن هذا حديث آخر، ربّما نأتي إليه فيما يلي من وقائع هذه الحكاية ..

هل نأكل و نرتدي المعلومات ؟ !

و من خلال ذلك الحوار، سعيت إلى توضيح العديد من الأمور التي التبست على قرّائي . لقد كان حديثي عن مجتمع المعلومات مستفزّا للكثيرين، فهم يفهمون معنى مجتمع الزراعة و مجتمع الصناعة، و لكن كيف يكون هناك مجتمع معلومات : هل نأكل و نشرب و نرتدي و نركب المعلومات ؟! . هل يمكن قيام مجتمع بشري بلا زراعة أو صناعة ؟ ! .
جعلت الصديق الذكي يطرح مثل هذه الأسئلة، حتّى يتاح لي التوضيح . قلت له أنه عند انقضاء مجتمع الزراعة، الذي دام لحوالي عشرة آلاف سنة من عمر البشر، و دخولنا إلى عصر الصناعة، لم تختف الزراعة، بل على العكس ازدهرت و تضاعف المحصول الزراعي، بفضل ميكنة الزراعة، و الاستفادة من التطوّر العلمي في مجال الآفات مثلا . لقد قام الإنتاج الزراعي في عصر الصناعة، وفقا لمبادئ و أسس الصناعة .
ثم ساد عصر الصناعة و فرض منطقه و مبادئه ومصالحه على البشر، على مدى ما يزيد عن قرنين . و عند منصف القرن الماضي، بدأت ثورة المعلومات، فظهر مجتمع المعلومات . و هنا أيضا، سيحفل مجتمع المعلومات بالإنتاج الزراعي و الصناعي، و لكن بمنطق و بمبادئ و بإنجازات عصر المعلومات .
زراعة عصر المعلومات ستتفوّق على زراعة عصر الصناعة، بفضل العلوم الناشطة فيها، مثل علم الهندسة الوراثية . كذلك ستتفوّق صناعة عصر المعلومات بفضل العلوم الجديدة، مثل الإلكترونيات و الطبيعة الجديدة، و تكنولوجيات المواد المخلّقة، إلى آخر ذلك . غير أن المعلومات ستكون الخامة الأهم في مجتمع المعلومات، بالنسبة للزراعة و الصناعة .
ستصبح المعلومات الأصول الأهم في الإنتاج، فتتجاوز أهمّيتها الأصول التقليدية السابقة، من أرض و آلات و رؤوس أموال . و من هنا تصبح تسمية " مجتمع المعلومات " الأكثر دقّة من التسميات الأخرى، مثل " مجتمع ما بعد الصناعة "، أو " مجتمع التكنولوجيا المتطوّرة " .

و ماذا عن المجتمع المصري ؟

و هناك تساؤل آخر، صادفته في لقاءاتي و محاضراتي، مفاده أن ما أقوله عن مجتمع المعلومات، قد ينسجم مع أوضاع الدول الصناعية المتطوّرة، و ليس مع أوضاع المجتمع المصري أو العربي . فوضعت هذا التساؤل على لسان الصديق الذكي، الذي قال " طبعا أنت تتحدّث عمّا يحدث في الدول الصناعية المتطوّرة، و لا أظن أن هذا التحوّل قد وصلت بشائره إلى مجتمعنا .." .
قلت أن الخريطة الحضارية لمصر، تفيد أن مجتمعنا الحالي تعيش فيه ثلاث موجات حضارية، في نفس الوقت، مخلّفات مؤثّرة من المجتمع الزراعي، مع وجود قوي لمبادئ مجتمع الصناعة، و وجود متواضع ـ لكنّه متنام ـ لمبادئ مجتمع المعلومات .
سأل " هذا وضع يبعث على اليأس .. على أيّ أساس نخطط لمثل هذا المجتمع المتشرذم ؟ .. و كيف نتعامل معه ؟ .." . و كان الردّ : ستعجب لو قلت لك أن الانتقال من هذا الوضع إلى مجتمع المعلومات، يكون أسهل و أيسر من انتقال المجتمع السوفييتي أو الأمريكي أو الياباني . فالدول الصناعية المتطوّرة، التي رسّخت حياتها على مبادئ المجتمع الصناعي ( كالنمطية و المركزية و التركيز .. إلى لآخر ذلك) يصعب عليها أن تقتنع بإعادة بناء حياتها بالكامل على أساس جديد . و رغم أن العديد من الشركات الكبرى قد استجابت لموجات التغيير، فغيّرت أغراض إنتاجها الصناعي التقليدي، و تحوّلت إلى صناعات جديدة أنسب لعصر المعلومات، مثل شركة سنجر لآلات الحياكة، التي تحوّلت إلى الصناعات الإلكترونية و طيران الفضاء . غير أن هذا التحوّل سيتم، إما بالرؤية المستقبلية السليمة، أو من خلال صراع دموي، و أزمات اقتصادية، و كساد و بطالة و تضخّم ..

الإنتاج، و تلبية تنوّع طلبات الجمهور

سأل الصديق الذكي " لقد قلت أن الجمهور يتنوّع، و تتعدّد أمزجته و مطالبه، فكيف يمكن للشركات المنتجة أن توفّق بين هذا، و سعيها إلى تحقيق الأرباح ؟ " .
قلت أن الإجابة تتضمّن التأكيد على ضرورة النظرة المتكاملة للمستقبل . عرفنا أن الإنتاج النمطي كان الأكثر تحقيقا للربح . لكن بعد أن تنوّعت الجماهير و تباينت مطالب البشر، لم يعد يرضيها الإنتـاج النمطي المـوحّد . و الشـركة هنا أمام أحد أمرين : إمّا أن تواصل إنتاج السلعة النمطية، فينخفض الإقبال على إنتاجها و تخسر، أو أن تعمد إلى تنويع إنتاجها ليرضي الأذواق المتنوّعة . الجديـد في الأمر أن التكنولوجيات المتطوّرة جعلت هذا التنوّع في الإنتاج ممكنا و مربحا .
فبفضل أجهزة التحكّم الرقمي، التي تعتمد على الكمبيوتر، أصبح من الممكن أن ينتج المصنع، بنفس آلاته، أشكالا متنوّعة من السلعة، دون أن يشكّل هذا زيادة في التكلفة، أو تبديدا لوقت عمل الآلة . كلّما في الأمر، أن الآلات الجديدة التي تعمل بالكمبيوتر، يكفي أن تزوّدها ببرنامج جديد، حتّى تنتج تنوّعا جديدا للسلعة، دون توقّف أو تغيير في الآلات .
و هكذا، يحصل الجمهور على السلع المتنوّعة التي ترضي ذوقه و احتياجاته الراهنة، و يربح المصنع من تدفّق السلع المتنوّعة التي ينتجها .

المزيد من وضوح المنهج

الحوارات الدائمة حول ما أكتب، سواء مع الصديق الوهمي، أو مع بعض الكتاب و المفكرين الذين لديهم الحدّ الأدنى من القدرة على النظر إلى الأشياء بعين جديدة، و من زاوية مختلفة، أفادتني كثيرا في اكتساب المزيد من الوضوح بالنسبة لمنهج تفكيري، و بالنسبة لشمولية رؤيتي المستقبلية .
و أحسست بضرورة أن أقدّم للقارئ كتابا مرجعيا عن أفكاري المستقبلية . يطرح رؤيتي للمستقبل، و طريقتي في استنباط مستقبل أي مجال أو نشاط، من هذه الرؤية ..

و هكذا، ظهرت الطبعة الأولى من كتابي " أفيقوا .. يرحمكم الله " ..
و إلى الرسالة التالية .