الثلاثاء، يونيو ٠٢، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

موقف مضحك لقيادات الإعلام


الإعلام .. بعد التعليم ..

كتبت أقول أن وزارة الإعلام ما زالت تتمسّك بالفهم القديم، الذي يفترض أن جهدها يجب أن يكون لحساب الحكومة، و ينحصر في نقل رؤية الحكومة و قراراتها و توجيهاتها و أخبارها إلى أفراد الشعب، أي أن تعمل من أعلـى إلى أسـفل فقط . و قلت أن وزارة الإعلام ـ في إطار ثورة المعلومات ـ يجب أن تتحوّل إلى وسيلة توصيل جيّدة و حسّاسة، من أسفل إلى أعلى و من أعلى إلى أسفل، خاصّة في ظلّ استمرار أخذنا بالنظام الهرمي المركزي .
و قلت أن وظيفة وزارة الإعـلام يجب أن تكون التخـفيف من التناقض الحادث بين الحكومة و الشعب .. هذا التناقض الموجود، و الذي سيستمر وجوده، طالما بقيت مركزية الحكومة على حالها . هذا التناقض لا يرجع ـ بالضرورة ـ إلى سوء نيّة الحكومة، أو إهمالها، أو عدم مبالاتها، لكنّه النتيجة الطبيعية لعدم قدرة الحكومة ـ أيّ حكومة ـ في إطار المركزية الممعنة، على استيعاب التحوّلات التي تحدث في القواعد، و من ثم افتقاد المعلومات حول نتائج هذه التحوّلات .
تسارع المعلومات، و شيوعها بفضل تكنولوجيا المعلومات المستجدّة، يقود إلى التباين في مواقف و رؤى و احتياجات الإفراد، و إلى تبديل و تغيير دائمين فيها . و في ظلّ ترهّل الجهاز المركزي الحكومي، و التباطؤ الشديد في استجابته للتغيّرات، يخلق ذلك التناقض الذي أحكي عنه، و المفترض أن يخلق المزيد من التناقضات في المستقبل القريب .

أحزاب .. أم جرائد ؟ !

و قلت أن الذي يزيد الوضع سوءا، هو أن الأحزاب عندنا ـ حكومة و معارضة ـ تعاني هي أيضا من نفس القصور . و لو أن الأحزاب عندنا كانت أحزابا حقيقية، نابعة من إرادة جماعية لفئات أو طبقات، لها قواعدها المحسوسة في الشارع المصري، لكانت قادرة على مساعدة الحكومة في تفهّم طبيعة التغيّر في خريطة الشعب . غير أن أحزابنا ليست أكثر من جرائد، تعبّر ـ أيضا بشكل مركزي ـ عن إرادة قيادة هذه الأحزاب، و لا تمثّل الحركة الحقيقية لأحلام و مواقف الشعب المصري، مكتفية بهامش المناورة السياسية المتاح . و هكذا، تفقد الأحزاب وظيفتها التقليدية، كمعبّر عن تنوّع إرادة أفراد الشعب . و طبيعي أن ما نقوله عن قصور الأحزاب الحالية، ينسحب أيضا على المجالس النيابية التي لدينا، و التي تتشكّل أساسا من هذه الأحزاب .

المشاركة في التفكير

قلت أن التفكـير هو سبيلنا إلى رسم رؤية مسـتقبلية شاملة لمصر . التفكير الذي دعوت إليه ـ في ذلك الوقت ـ لا يجب أن يقتصر على الحجرات المغلقة، و الندوات الخاصّة، بل يجب أن يتم بصوت مرتفع، يسمعه الناس جميعا، في القيادة و القواعد، لكي يتعرّفوا على بدائل الأفكار، ثم يأخذوا بالأفكار التي تعبّر عن مصالحهم .
كما قلت أن أفضل وسيلة متاحة حاليا لتحقيق ذلك الهدف، هو أن يتم الحوار على موجات الإذاعة و عبر قنوات التلفزيون، ممّا يشجّع الصحف على اقتحام الحوار الصادق الأمين . و لن يصبح هذا ممكنا إلاّ إذا تغيّرت العقلية السائدة في أجهزة الإعلام، و فهم العاملون فيها طبيعة المهمّة الجديدة الملقاة على عاتقهم، و عرفوا أن مهمّتهم الحقيقية هي تفجير الأفكار، و ليس قتلها بتسليط قواعد الرقابة العامة و الذاتية عليها .
و لتصوير الواقع المرفـوض، طرحت مثالا على ذلك إحدى حلقات برنامج " موضوع للمناقشة "، أدارتها سهير الإتربي، حول الإصلاح الإداري، و دعت إليها مجموعة من المختصّين، و كيف أدارت الحوار باستعلاء واضح . و عندما عرض المتحدّثون أهمية البحث عن المدير المبتكر، القادر على التغيير، ظهرت التكشيرة على وجه المذيعة، و قالت " أنا مش ح أقلب نظام الدولة علشان أعمل المدير الناجح، أنا عاوزة أعرف إزاي نختار المدير الناجح من القيادات الموجودة حاليا " ! . ثم ختمت الندوة قائلة للمختصّين، بلا أدنى لباقة " هذه السياسات التي تتحدّثون عنها، ليست جديدة علينا، كلّنا عارفينها " .
و ختمت مقالي قائلا " هذا مجرّد مثال، و تبقى بعد ذلك المهمة الحيوية أمام أجهزة الإعلام، مهمّة أن تعيد بناء نفسها، بما يسمح لها أن تلعب الدور الأساسي المطلوب منها في هذه الظروف . صدّقوني، إذا تمّ هذا، فسيكون في مصلحة الحكومة و الشعب معا .." .

الاسـتجابة الذكيـة

تركت هذا الموضوع، مع غيره من الموضوعات، قبل سفري إلى لندن، لتغطية فترة إجازتي . و عندما عدت إلى القاهرة، تلقيت مكالمة من أحد كبار المسئولين بالوزارة، أستاذ حجاج على ما أذكر، يطلب أن ألتقي به في الوزارة .
عندما جلست معه في مكتبه، وجدت نسخا عديدة من مقالي ( فوتو كوبي ) فوق المكتب . قال، لقد طلب الوزير أن نوزّع المقال على قيادات الإعلام، و نطلب منها مقترحاتها بصدد تحقيق ما جاء بالمقال، فلم يقتنع الوزير صفوت الشريف بما قدّموه، و طلب أن ألجأ إليك لنرى ما الذي يمكن أن تفعله الوزارة . و الحق، أدركت ساعتها ذكاء الوزير في استجابته هذه، في الوقت الذي يستشيط غيره من الوزراء غضبا، إذا تكلمت عن مجال نشاطهم، و يبكون ـ بدموع حقيقية ـ من تعليقي على آرائهم أو أفعالهم، لكل من يشكون إليه . المهم، قلت " لا يوجد ما نبدأ به سوى أن نتكلّم .. نتكلّم و نفهم و نناقش مع قيادات الإعلام، حول الواقع المتغيّر الجديد، و الدور الجديد للإعلام في مجتمع المعلومات .. " و أضفت " لا أحب أن أنفرد بهذا، و أقترح دعوة بعض المهتمين بالمستقبل ..".

افتقاد الرؤية المتجانسة

رشّحت د. مختار هلّودة، و د. سعد الدين ابراهيم، و أضاف من جانبه الإعلامي حمدي الكنيسي . و بدأنا اجتماعات، في أحد فنادق المعادي، استمرّت لعدة شهور . كان المطلوب أن نكوّن معا رؤية متجانسة، قبل أن نلتقي بقيادات الإعلام، فاكتشفت أنها مهمّة صعبة ! .
آخر الأمر، أعلن د. سعد الدين إبراهيم العصيان، و قال أنه لا يستطيع أن يواصل العمل في هذه المهمّة، إلاّ إذا طلب منه الوزير ذلك شخصيا في مقابلة ! .
و كان الفشل الأول، قبل أن يتم اللقاء .
بعد عدّة شهور، اتّصل بي الصديق أمين بسيوني، و طلب منّي أن أواصل معه الإعداد للقاء قيادات الإعلام . و بدأنا من جديد اجتماعات طويلة متكرّرة، بحضور عدّة شخصيات إعلامية، برعاية مؤسّسة ألمانية تكفّلت بالإنفاق على العملية . و هنا أيضا، اكتشفت أن غياب الفهم المشترك لطبيعة ما يجري، و آثاره على مختلف مجالات حياتنا، بظلّ عقبة كبرى، حتّى بالنسبة لمعظم المثقفين و المفكّرين .
و دون الدخول في المزيد من التفاصيل، انتهى الأمر بالاتفاق على عقد اجتماع مع قيادات الإعلام، يحضره الوزير، و أطرح فيه أفكاري، و أفكار بعض المسئولين في الوزارة، تمهيدا لإجراء الحوار المأمول مع قيادات الإعلام . و تمّ ذلك في قاعة واسعة من قاعات أحد الفنادق الكبرى .. فماذا كانت النتيجة ؟ .
ألقى الوزير صفوت الشريف كلمة حماسية، و طرح جانبا من أفكاري التي كنت قد تقدّمت بها، و قال لقيادات الإعلام " إذا لم نفهم أفكاره ـ يقصدني ـ و نعمل بها، فلن يحدث أي تقدّم في إعلامنا .." .
الظاهرة الملفتة، هي الموقف السلبي لقيادات الإعلام، التي بدا أن هدف وجودها هو الاستجابة لدعوة الوزير . و يبدو أن تلك القيادات قد باغتتها كلمات الوزير، و صدمها المنطق الجديد الذي تكلّمت به عن مستقبل الإعلام، فانشغلت بالتفكير في المبررات الخفيّة لهذا اللقاء، و فيما يحتمل أن يكون وراء هذا اللقاء من تغيّرات في أجهزة الإعلام من الممكن أن تمس مواقعهم في الوزارة ! .
و هكذا انتهى اللقاء، و انتهى معه أي تفكير في مستقبل الإعلام المصري، و مضت أجهزة الإعلام في سبيلها التقليدي . فبقيت وظيفة الإعلام الأساسية نقل رسائل القيادة و الحكومة، و الإلحاح بها على الشعب، و بقي ما أطلق عليه تعبير البرامج الحوارية مجرّد حديث شكلي، يرسّخ رؤية القيادة .. لم يبدأ التغيّر في هذا المجال، إلاّ بعد ما يزيد عن عشر سنوات، عندما ظهرت الصحف الخاصة غير الحكومية، و عندما انتشرت القنوات الفضائية العربية، و قدّم بعضها برامج حوارية تحتفي بالرأي الآخر، و تطرح القضايا ـ التي اصطلحنا على تسميتها بالحسّاسة ـ بشجاعة لم يعرفها إعلامنا . هنا فقط، و كرد فعل لهذا، بدأت تظهر عندنا بعض البرامج التي يتاح لها هامشا من طرح الرأي الآخر، و تجاوز الوقوف عند الرأي الرسمي للحكومة . و هكذا، تمسّكنا في هذا أيضا أن تكون استجابتنا كردّ فعل لما تقدّمه القنوات الفضائية العربية، و ليس كمبادرة واعية .

و إلى الرسلة التالية لنرى حكاية مستقبل الطفولة و الأمومة