الأحد، يونيو ٠٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية مجتمع المعلومات

مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار

.... و آثـــارها العميقــــة

نحن نمضي الآن عبر ما يمكن أن نطلق عليه " الثورة الكوبيرنيكية الثانية " . هذا هو ما يقوله الكاتب المستقبلي روبرت ثيوبالد، في دراسة له حول الديموقراطية التوقّعية . و هو يستطرد قائلا أتاح لنا كوبيرنيكوس أن نرى الأرض، برؤية بعيدة عن الرؤية الشائعة في وقته، باعتبارها مركز الكون، فأثبت أنها تدور حول الشمس .. و كذلك علّمنا عصر الاتصالات أن كل إنسان هو ـ بالتأكيد ـ مركز كونه الخاص .. و أننا نستقبل العالم من خلال مناظيرنا الخاصّة الفريدة، و التي تتحدد بالتركيب الجيني الخاص بنا، بالإضافة إلى خبراتنا . و يضيف أن الفرق الأساسي بين عصر الصناعة و عصر المعلومات و الاتصالات، هو المدركات الخاصة بكل منهما .
خلال عصر الصناعة كنّا نؤمن بوجود حقيقة موضوعية، يمكن الوصول إليها و اكتشافها إذا ما كافحنا بشكل جاد من أجل ذلك . و كان السبيل الأساسي لذلك هو أن نجزّئ الواقع إلى شظايا أصغر فأصغر، لاعتقادنا أن هذا سيقودنا إلى مجموعة من الحقائق الخالصة . و المشكلة هي أننا وجدنا القليل من تلك الحقائق، و أن الحقائق التي وصلنا إليها بدت بلا نفع في وجه المشاكل التي نصادفها .
عصر المعلومات و الاتصالات ينطلق من إدراك جديد، هو أن كلّ شيء متبادل الاتصال .. هذا التناول يقتضي مجموعة مختلفة جدا من الأدوات، و أنماط السلوك، و النماذج . يقول ثيوبالد " علينا أن نتعلّم كيف نعمل من خلال نظام اتصالات، في مكان نظام التحكم، لكي نشجّع التنوع في مكان التشابه و النمطية، و أن نستقر عند " ما يكفي " بدلا من السعي إلى ما هو أكثر، و أن نتعلّم أيضا كيف نعمل من خلال نسق القيم الذي أطلقنا عليه في الماضي اسم النسق الديني : مثال ذلك الأمانة، و المسئولية، و التواضع، و الحب، و احترام الأسرار العقائدية .." .
و عصر المعلومات و الاتصالات ليس مجموعة من التجريدات . و في جميع الأحوال، على الذين يريدون أن يفهموا هذا العصر أن يلتزموا بالعيش فيه، بالضبط كما فعل أولئك الذين أوجدوا عصر الصناعة، عندما تنازلوا عن قيم عصر الزراعة ..
أي مناقشة ذات دلالة، لموضوع مشاركة المواطنين، أو مساهمة المواطنين، أو الديموقراطية التوقّعية، يجب أن تتضمّن بالضرورة مناقشة مصادر السلطة في الجماعات، و المؤسسات، و الثقافات . و معظم الأمريكيين لا يبدون ارتياحا حيال هذا الموضوع . و نتيجة لهذا، تظهر سلسلة من العقائد الجـامدة، التي لا تتوافق مع هذا الموضوع .
لهذا، يكون من المهم أن نختبر الافتراضات السائدة، و أن نضع المعالم العامة للرؤية البديلة للمجتمع .

السلطة البنيوية

يقول روبرت ثيوبالد أن ثقافـة عصر الصناعة التي نعيشها، تقوم على افتراض أن السلطة ( أي حق اتخاذ القرارات و تطبيقها )، تتوقّف على المركز الذي يسيطر عليه الفرد . و موقع القوّة يمكن الوصول إليه بعدة طرق : بالترقّي في سلم البيروقراطية، أو بالتعيين ( كما في الوظائف المدنية العليا أو في بعض جوانب من النظام القضائي )، أو من خلال الانتخاب على أساس العملية الديموقراطية الحالية . ويضيف، لأننا نخشى استغلال السلطة، فإن حق القيادة و التحكّم غالبا ما تكبّله مجموعة من القيود، التي يقصد بها منع استغلال السلطة بشكل غير سليم . و مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية، يسيطر على مجمل النظام الأمريكي .
و درجة التوتّر التي تقوم بين أولئك الذين يمسكون بالسلطة، و أولئك الذين تمارس عليهم، تتوقّف أساسا على درجة الثقة بين الأطراف . و في السنوات الأخيرة، كشفت قياسات الرأي العام عن تدهور متواصل في الثقة الشعبية تجاه كل الجماعات التي تمسك بالسلطة : الحكومة، و رجال الأعمال، و السلطات العمالية، و وسائل الإعلام . و كان رد الفعل الذي لا مفـرّ منه، هو أن يمضي القابضون على السـلطة المزيد من الوقت في تجمـيل مواقفهم، على حسـاب الوقت المفترض لاتخاذ القرارات الضرورية .

السلطة تعبث بالمعلومات

يقول روبرت ثيوبالد " لسوء الحظ، تنشأ علاقة مباشرة، بين السلطة البنيوية، من النوع الذي أوردناه، و بين تزايد الإحساس بفقدان الثقة . . فالسلطة البنيوية تقود حتما إلى تخريب المعلومات، و إفساد الحقائق .. و على حد قول لورد آكتون : السلطة تميل إلى العبث بالمعلومات، و السلطة المطلقة تعبث بالمعلومات بشكل مطلق .." .
و يشرح ثيوبالد هذا قائلا : على سبيل المثال، عندما نعمل مع أفراد أو جماعات، تكون لديهم القدرة على التحكّم في حياتنا، إلى الأفضل أو الأسوأ، تكون النتيجة الطبيعية هو أن نتقدّم إليهم بالمعلومات التي ترضيهم . و كلّما كانت سلطتهم على حياتنا أكثر مباشرة و قوّة، كلّما زاد تبريرنا لتلاعبنا بالمعلومات، باعتبار أننا نضطر إلى ذلك، خوفا على عملنا أو على نمط حياتنا .
و طالما أننا ما زلنا متمسّكين بالنظام الحالي، فإن تركيز السلطة في أيدي قليلة، يستتبع بالضرورة أن يتعرّض هؤلاء الأقوياء إلى فيض من قذائف المعلومات التي يحمي أصحابها مصالحهم بعدم صحتها .

بين الديموقراطية و السلطة البنيوية

كيف يمكن للديموقراطية التوقّعية أن تعمل من خلال هذا النوع من بنية السلطة ؟ .. يقول ثيوبالد أن موضوع الطاقة النووية، كان أحد أسخن الموضوعات في انتخابات 1976، و هو يقدّم مثالا قويا لمدى التدهور في المعلومات الذي يمكن أن يحدث . في العديد من الولايات، اقترح الذين يخافون الآثار بعيدة المدى للإنتاج النووي على نوع الحياة و البيئة، أن يتم استفتاء عام حول الطاقة النووية . أما الذين كانوا مقتنعين بأن إنتاج طاقة إضافية يعتبر ضروريا من أجل رفاهية الولايات المتحدة، فقد عارضوا المجموعات صاحبة الرأي الآخر .
و الاستفتاء العام في الولايات المتحدة تكون له قوّة القانون، و هذا يعني أن الجمهور العام يمتلك سلطة مطلقة في ذلك المجال . لقد شعر أصحاب المصـالح في كلّ من الفريقين أن من حقهم "تحـريف" الحقيقـة، باعتبار أن القرار "الخـطأ" من جانب الجمهور يشكّل كارثة .
و كانات المحصلة النهائية تشويها ملفتا للمعلومات من الجانبين، نتيجة لاعتبار كل جانب أن موقفه هو الحـقّ الخالص . و أصبح من الأكثر صعوبة على المواطنين اتخاذ قرار قائم على المعلومات الصحيحة، حول التوجّه السليم الذي يجب أن يسلكه المجتمع في هذا الأمر .

تغيير بنية السلطة .. أوّلا

طالما تمسّكنا بنموذج بنية السلطة الذي نمضي بموجبه، تصبح فكرة دخول المواطن الذكي في ديموقراطية المشاركة أو الديموقراطية التوقّعية، من الأفكار الساذجة و الخاطئة . و في نفس الوقت، يمكن أن يقود دفع المواطنين إلى المشاركة، إلى الهبوط في معدلات الإنتاج . و مرجع ذلك إلى سببين :
أولا : كلما زادت القوّة التي يمارسها المواطنون من خلال الاستفتاء العام و غيره من الممارسات، كلما تعاظمت عملية تخريب المعلومات المتضمنّة .
ثانيا : جماعة المواطنين، هي واحدة من عدد كبير من الجماعات، و هي غالبا ما تكون الأضعف .
و يخرج روبرت ثيوبالد من هذا، بأن معظم مشاركة المواطنين الحالية، تثير المزيد من الإحباط و الغضب . . و بعض جماعات المواطنين تصبح " ناجحـة " بأن تصبح قوية بدرجة كافية، لكي تخضع أنماط بنية السلطة الأخرى لإرادتها . فإذا نظرنا إلى النتيجة النهائية، نجد أن كل الذي تغيّر هو تسلسل مواقع القوّة، أو تسلسل مراتب العذاب و المعاناة في حضارتنا .
يقول ثيوبالد " مشـاركة المواطنين، و الديموقراطية التوقّعـية، ممكنة فقـط بعد حـدوث تغـيير في أنماط بنية السلطة .. فما هي النماذج الأخرى لاتخاذ القرار التي يمكن أن نعتمد عليها ؟ " . هذا هو موضوع رسالتنا التالية