الأحد، مايو ٠٤، ٢٠٠٨

ديموقراطية عصر المعلومات

من كتاب لي تحت الطبع يحمل عنوان :
سقوط صندوق الانتخابات عن عرشه
ــ

تسويق الديموقراطية ! ..

لماذا تفشل أمريكا في تصدير أكثر منتجاتها أهمية ؟


تحت هذا العنوان كتب المفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر أخيرا، متحدّثا عن وهم تسويق الديموقراطية الذي يسود أوساط الإدارة الأمريكية حاليا .. فماذا يقول توفلر ؟ :
قليلة هي الكلمات التي تستخدم في لغة الخطاب اليومي، و التي توقع الولايات المتحدة في المزيد من المتاعب، في أنحاء العالم، أكثر من كلمة " ديموقراطية " ـ إلاّ إذا كانت الكلمة هي " بوش " . خطابات البيت الأبيض تفترض أن الديموقراطية فضيلة يشتد الطلب عليها عالميا في باقي دول العالم، و أن غيابها في أي دولة، في أي وقت، لا يكون إلاّ بسبب القهر .
و لا شك أن الكلمة قد اكتسبت قوّة، و أصبحت شائعة، إلى حدّ أننا نجد اليوم أن العديد من الدول الأكثر فسـادا، و فردية، و عنصرية، و بؤسا، و الأقل ديموقراطية على الأرض، تحمل كلمة الديموقراطية ضمن اسمها ! .

مجموعة مغالطات

أولا : هنا نجد المغالطة رقم واحد بالنسبة للديموقراطية : فكرة إمكان زرعها حرفيا من الخارج، في أي مكان، أو أي وقت، داخل أي ثقافة أو دولة .
ثانيا : و المغالطة الثانية، هي أن الدول التي تنظم عمليات انتخاب، تكون بالضرورة "ديموقراطية" أو " حرّة" .
ثالثا : و أخيرا، المغالطة الأكبر من غيرها : أن تعريف الديموقراطية ـ و ما تتضمنه ـ يبقى على حاله من عصر لآخر .
و دعونا نبدأ بالمغالطة الأولي:
إمكان زرعها من الخارج
أصر البيت الأبيض دائما في عهد بوش، أن الولايات المتحدة، ستجلب الديموقراطية للعراق . و لكي تثبت أنها فعلت ذلك، تشير إلى الانتخابات التي تمت بعد 32 شهر من إسقاط نظام صدّام .
و في مواجهة الذين أبدوا اعتراضاتهم، قائلين بأن الديموقراطية لا يمكن فرضها على دولة من الخارج، أشار البيت الأبيض إلى ألمانيا و اليابان . فقبل هزيمتهما في الحـرب العالمية الثانية، كانتا تقادان بنظام شرير معاد للديموقراطية، النازية، و نظام أشبه بالفاشية، و قد تحولتا إلى نظامين ديموقراطيين ناجحين، بعد هزيمتهما في الحرب .
لكن المقارنة مع العراق تكون هنا خارجة عن القياس . فبداية، كانت ألمانيا المنهزمة منقسمة إلى قسمين، قسم واحد منهما ـ الغربية ـ كان وصفه بالديموقراطية أمر نقاشي . فهذه الديموقراطية الوليدة، تواصل تمويلها بكثافة لعدة سنوات من جانب الولايات المتحدة، وفق مشروع مارشـال . و كانت في نفس الوقت مرعوبة من أن تهزم على يد السوفييت، الذين كانوا يتحكمون في ألمانيا الشرقية . أضف إلى ذلك، أنه قبل أن تستولي النازية الهتلرية عليها عام 1933، كانت لدى ألمانيا خبرات سابقة بالحكم الديموقراطي .. و لا ينطبق على العراق أي من هذه العوامل .
أمّا بالنسبة لليابان، فقد كانت هي الأخرى خائفة من استيلاء الروس عليها، و الذين كانت قد دخلت في حرب معهم
فيما بين 1904 و 1905 . من ناحية، كان استخدام الأمريكان للأسلحة النووية في هوريشيما و ناجازاكي قد جعل اليابان خاضعة للغاية . و من ناحية أخرى، اتفاقية السلام الأمريكية قد أتاحت للإمبراطور هيرهيتو أن يحتفظ بعرش اليابان .. و هو لم يلاحق و يقبض عليه في حفرة تحت الأرض، ثم يشنق .
و الأكثر أهمية من هذا و ذاك، أنه لا اليابان و لا ألمانيا قد جرى تخريبهما و تدميرهما داخليا، مثل مع حدث في أفغانستان بسبب الصراعات الدينية الدموية، و التصادمات القبلية المحلية.. أو ما حدث في العراق نتيجة لكبت الخلافات العقائدية و العرقية . و من هذا تكون :
القاعدة 1 : الديموقراطية لا يمكن تصديرها و إقامتها في أي دولة، في أي مكان، و أي وقت، كما يزعم المتحمسون للديموقراطية .
التسمية الخاطئة للديموقراطية
و هذا ينقلنا إلى المغالطة الثانية : و هي أن جميع الدول التي نطلق عليها وصف ديموقراطية، هي في حقيقتها غير ديموقراطية فعلا . تعريف الديموقراطية، غالبا ما يبدأ بالإشارة إلى الانتخابات و الأغلبيات .. و من بين الدول التي يجري تصنيفها باعتبارها ديموقراطية، من تحظر حرية الحديث، و تسجن الخصوم السياسيين، و تغض الطرف عن الفساد الشامل الشائع . و من هذا تكون :
القاعدة 2 : تنظيم الانتخابات، و تجميع الأعداد الضخمة من الأصوات، لا يجعل الدولة ديمقراطية، إذا كانت تسيء معاملة المرأة، و الأقليات العرقية، و أتباع دين معين، و غيرهم من الذين لا يدخلون في تلك الأغلبية .
تغيّر معنى الديموقراطية
على مدى التاريخ، خضع تعريف الديموقراطية لمراجعات هائلة . كان يشار إلى أثينا القديمة، باعتبارها مهد الديموقراطية، و مع ذلك ففي أوج عظمتها، لم تكن تسمح للنساء أو العبيد أو المهاجرين بالتصويت . و في القرن الثامن عشر، كان الثوار المؤسسين للولايات المتحدة يؤمنون بأن العبودية أمر شرعي، كما أبقوا المرأة محرومة من التصويت حتّى عام 1920 .
و مع تسارع التغيرات في أنحاء العالم، قد نرى مراجعات لها دلالتها في صميم تعريف الديموقراطية . إننا نعيش اليوم، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في العديد من الدول، لنشهد صغار تتراوح أعمارهم بين 10 و 12 سنة فما فوق، أكثر استيعابا للعديد من التكنولوجيات المتقدّمة، بما يتجاوز معارف الوالدين .
و مع تسارع التكنولوجيات بما هو أبعد، قد نتوقّع مواجهة مطالب بخفض سن التصويت، على سبيل المثال من 18 إلى 12 . أو أن نعطي لهذه المجموعة العمرية جزءا من الصوت، كأن يكون نصف صوت . كذلك قد نسحب نصف الصوت من أولئك المصابين بمرض الزهايمر . أو أن نسمح للصغار، و حتى الأجانب، بأن يحصلوا على أصواتهم بأن يقدّموا خدمات تطوعية، من نوع أو آخر .
و باختصار، بصرف النظر عمّا إذا كانت التغيرات ستمضي وفق هذه التصورات أم لا، فإن تعاريف الديموقراطية، و الشروط المسبقة للحرّية، ستطرأ عليها العديد من التحولات في العقود القادمة .. هل نحن مسـتعدون ؟ هل أي واحد منّا
مستعد لذلك ؟! . و من هذا تكون :
القاعدة 3 : الرهان الوحيد الأكيد، هو أن تعريف الديموقراطية ذاته، كما نفهمه اليوم، سيجري تحدّيه و تغييره، في السنوات القادمة التي ستثير دهشتنا .

خرافة تصدير الديموقراطية

ثم ننتقل بالحديث عن الديموقراطية، و فهم معانيها العميقة، إلى الأستاذ بنجامين باربر، الذي جمع بين البحث العلمي الأكاديمي في النظريات السياسية، و بين المساهمة العملية في الممارسات السياسية المدنية و الفنون . و الذي ساهم بجهده في العديد من الجامعات الكبرى الأمريكية و الإنجليزية و الفرنسية . و من أهم كتبه " الديموقراطية القويّة " الذي جرت ترجمته إلى ست لغات . فماذا يقول بنجامين باربر ؟ .
يبدأ الأستاذ باربر بطرح أربعة أسئلة كالتالي :
أولا : هل الديموقراطية قابلة للتصدير ؟.
ثانيا : هل الديموقراطية هي مجرّد وظيفة مؤسسة سياسية و دستور مدوّن ؟ .
ثالثا : هل الديموقراطية مرادف للأسواق ؟ .
رابعا : هل تعتمد الديموقراطية على قيادة قويّة ؟ .
يجيب الأستاذ بنجامين باربر على السؤال الأوّل قائلا " نحن الأمريكان الذين نحتاج أكثر من أبناء أوروبا و روسيا و أفريقيا و آسيا، أن نتذكّر أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون هدية من شعب لآخر، لكنّها الثمرة صعبة المنال لصراع محلي باهظ الثمن .. إنّها شيء يؤخذ، و ليست شيء يمنح .." .
و عن اختلاف التطبيقات الديموقراطية، يقول باربر أن أشكال الديموقراطيات تختلف، وفقا لاختلاف أنواع النضال الذي يتم لكسبها . و هو يقارن بين الديموقراطية السويدية التي تركّز على الحقوق المجتمعية، أكثر من الحقوق الفردية .. و بريطانيا التي لا تأخذ بالفصل بين السلطات، بينما يعتقد الأمريكان أنّه أمر لا غنى عنه .. و الدستور الإثيوبي الجديد يحاول التوجّه إلى القبائل .. كما أن أيرلندا لا تأخذ بالفصل بين الكنيسة و الدولة .. ألمانيا فدرالية، بينما فرنسا مركزية . هذا الاختلاف بين الديموقراطـيات، يوحي بضرورة قبول الأشكال الجديدة من الديموقراطيات التي تتشكّل في أنحاء العالم .
الدساتير لا تخلق ديموقراطيات
ثم يجيب الأستاذ باربر عن السؤال الثاني، داحضا الفكرة الشائعة، التي تقول أن الديموقراطية لا تزيد عن بعض المؤسسات السياسية الشـكلية، التي يمكن لأي دولة أن تسـلّمها لدولة أخرى . و يقول أن الديموقراطية ليست رسما تخطيطيا ذاتي التحقّق . فلا يمكن فرضها من أعلى إلى أسفل، لكنّها تنمو من القاعدة إلى ما فوق . و الدساتير لا تصنع الديموقراطية، و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير .
بدون مواطنين لا يمكن أن توجد الحرّية... و بدون ثقافة مدنية و تعليم، لن يكون هناك مواطنـون، هذا هو ما يقوله باربر و يحتاج منّا إلى تأمّل طويل . و هو يستدلّ برأي للفيلسوف الأمريكي جون ديوي، يقول فيه أن الديموقراطية، ليست شكلا للحـكومة، لكنّها طريقة حـياة، ومجموعة من المواقف و التوجّهات المتأصّلة، إنّها ثقـافة التفكير المستقل و التعاون في نفس الوقت، و الصراع و التراضي في آن واحد .
و يلفت باربر نظرنا إلى عنصر الوقت، عند التصدّي لبناء الديموقراطية . فيقول أن الفضيلة العظمى للديموقراطية هي الصـبر، و الذي يكون رصيده عادة عرضة للنفـاذ .. إنّنا نتوقّع من الذين يخوضون تجربة الديموقراطية، ضمن التحوّلات التي يمر بها مجتمعهم، نتوقّع منهم أن ينجزوا في ستة شهور أو ستة سنوات، ما قمنا به في ستين سنة أو ستّة قرون . و يقول أن هذه المهمّة ليست سهلة، فالذين يتصدّون لها يواجهون خصوما من الديموقراطيات الحديثة و القديمة .
الديموقراطية و السوق الحرّة
و هذا يصل بنا إلى أكثر الأوهام خطورة و أهمية .. و هو وهم عدم وجود ديموقراطـية لا تعتبر مرادفا للسوق الحرّة . في هذا يقول باربر " حرّية شراء كوكاكولا، أو شريط فيديو لفيلم "الأسد الملك"، ليست هي بعد حرية تحديد كيف سنعيش معا، و في ظلّ أي نظام . و يجب ألاّ ننسى أن كوكاكولا و ماكدونالد و إم تي في، يمكن أن نجدها أيضا في سنغافورة و الصين و الشرق الأوسط، و في أماكن أخرى لا توجد فيها ديموقراطيات .. تاريخيا، لم تكن الرأسمالية هي التي أنتجت الديموقراطية . الديموقراطية هي التي تخلق الرأسمالية . قد تحتاج الرأسمالية إلى الديموقراطية، لكنها لا تعرف ـ بالضرورة ـ كيف تخلق الديموقراطية و تدعمها .." .
و يضيف " من ثمّ، أعتقد أن أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا، لأن الكثيرين يؤمنون بها " . كما أن الأسواق ليست مصمّمة لكي تقوم بالأشياء التي تتكفّل بها السياسات الديموقراطية ( مثل التعليم و الثقافة و الضمان الاجتماعي و الحفاظ على البيئة ) .. المستهلك في السوق يتكلّم لغة ( أنا )، بينما تكون اللغة المشتركة للمواطنين هي ( نحن ) .." .
و يختم بنجامين باربر إجابته عن هذا السؤال بقوله " و هذا هو التناقض الذي تتّصف به السوق . إنّها لا تستطيع أن تعيش في العالم الذي تخلقه، دون أن تكون محاطة و منظمة عن طريق القوى المدنية و الديموقراطية، التي تسعى في نفس الوقت لتحجيمها .." .

قوّة المواطنة لا قوّة القيادة

و في الرد على السـؤال الرابع، حول مدى حاجة الديموقراطية إلى قيـادة قـوية، يقول الأستاذ باربر أن نوع الديموقراطية لا يعتمد على قوّة القيادة، بل على نوعية المواطنة . الدول الفاشية كانت لها قيادات قوية، لكنّها لم تحصل على ما هو أكثر من تلك القيادات . الديموقراطية تحتاج مواطنين ذوي فعّالية، نساء و رجال عاديين، يقومون بأشياء متميّزة غير عادية، بشكل منتظم و متواصل . و هو يتذكّر موقفا في إحدى المسرحيات، يقول فيه الممثل لزميله " إنّي أشفق على الدولة التي ليس بها أبطال "، فيجيب الآخر " لا .. الإشـفاق يجب أن يكون على الدولة التي تحتاج إلى الأبطال !.." .
الديموقراطية، هي شكل للدولة التي لا تحتاج أبطالا . و يشير باربر إلى واقعة جرت مع إيوجين ديبس القائد الشعبي
الأمريكي، عندما قال له أحد أتباعه " عليك أن تخرجنا من هذه الظلمة .."، فأجابه " لن أفعل، و لا أستطيع، و حتّى إذا استطعت فلا أعتقد أنني سأفعل .. لأنّه إذا كان بإمكاني أن أقودكم خارج هذه الظلمة، فهذا يعني أنني أستطيع أن أعيدكم إليها .." . و يعلّق باربر قائلا " نحن في حاجة إلى مجتمعات لديها حصانة في مواجهة هذا النوع من البطولة .." .
و يختم الأستاذ بنجامين باربر الحديث بقوله " بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع و ضحايا لقهر الدولة .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية .." .
عمليات إعادة البناء الشاملة .. المرعبة !
الذي يجب أن ندخله في حسابنا، و نحن نفكّر في أشكال جديدة للممارسة الديموقراطية، هو أن التغيير الشامل الكاسح، الذي يفرضه دخولنا إلى مجتمع المعلومات سيتجاوز هذه المهمة بكثير .. و أننا بصدد عمليات إعادة بناء شاملة، مرعبة في ضخامة الجهد الذي تتطلّبه . لقد اجتهد المفكّرون في بدايات عصر الصناعة، ليطرحوا تصورهم لشكل الأشياء، الذي سارت معظم الشعوب على هداه .. و كان ذلك عملا عظيما، يتيح قيادة التحوّل : من نظام راسخ تواصل لما يزيد عن عشرة آلاف سنة، إلى نظام جديد مبتكر يصلح لمنطق عصر الصناعة .. رغم كل ما شابه ذلك النظام من قصور .

* * *

لقد تحدثنا عن "ديموقراطية المشاركة " باعتبارها البديل المتوافق مع أسس مجتمع المعلومات في مكان ما اعتمدته الحياة الصناعية من ديموقراطية التمثيل النيابي .. و لكن، ما الذي يعنيه الاصطلاح المستجد .. الديموقراطية التوقّعية ؟
و إلى الرسالة لتالية