الجمعة، يناير ٢٥، ٢٠٠٨

اقتصاد جديد ... لمجتمع المعلومات


آلفن توفلر يشرح إنتقالنا

من إقتصـاد العمالقـة

إلى إقتصــاد الفسـيفسـاء

على مدى سنوات عصر الصناعة، كانت ضخامة المؤسّسة تعني المزيد من القدرة التنافسية، و تقود إلى المزيد من النجاح و الرواج . و قد بقي هذا الإعتقاد سائدا، حتّى بعد أن بدأ عصر الصناعة إنسحابه، مفسحا السبيل لعصر المعلومات، بإقتصاده القائم على أسس جديدة، قد تتناقض مع ما ساد عصر الصناعة
ومــع ذلك، ففي خلال السنوات العشــر الماضية، شـهدت الدول الصناعية الكبرى تضاعفا في عمليات الإندماج بين المؤسّسات الإقتصادية الكبرى، بهدف الوصول إلى المزيد من الربح
في الولايات المتحدة الأمريكية، تصاعدت في عمليات الإندماج بين الشركات الكبرى . ففي عام 1985، إشترت شركة جنرال موتورز، أكبر صانعة سيارات في الولايات المتّحدة الأمريكية، حقّ التحكّم في شركة هيوجز لصناعة الطائرات، و دفعت مقابل ذلك ما يصل إلى 4,7بليون دولارا . و في ذلك الوقت، كان هذا هو أكبر قدر من المال يدفع في شراء مؤسّسة ما . و في عام 1988، بلغ عدد حالات الإندماج و الإستيلاء 487حالة، جرى فيها دفع ما يصل إلى 227 بليون دولاراً .

الربح و المراوغات الجمركية

في البداية، كان الأمر قاصرا على الولايات المتّحدة، ثم بدأنا نسمع عن إندماجات بين شركات أمريكية وأوربية و يابانية . و الأمثلة على ذلك كثيرة، من بينها إستيلاء شركة بريدجستون الأمريكية على شركة إطارات فاير ستون . و ابتلاع شركة سارالي لشركة اكزو الهولندية، واستيلاء شركة كادبوري شويبس الإنجليزية على شركة بولان الفرنسية للشيكولاته . و شراء شركة هاشيت الفرنسية لشركة جروليار الأمريكية..و أيضاً، شراء شركة سوني اليابانية لشركة كولومبيا للصناعات السينمائية .
قام العديد من هذه الإندماجات أساسا لتحقيق الربح السريع، أو لإستغلالها في المراوغات المالية والجمركية، و إن قام بعضها على أسس إستراتيجية
و عند إندفاع أوروبا إلى تكامل السوق الأوربية، إندمجت العديد من الشركات الكبرى، على أمل إستثمار السوق الأوربية المشتركة في حماية نفسها من محاولات الشركات الأمريكية و اليابانية العملاقة .

وهم العمالقة

ما الذي يقود إليه هذا ؟ . إذا إقتصرت نظرتنا على حجم التمويل، فإن حركة الإندماجات المتنامية هذه قد تقودنا إلى تصوّر قوّة إقتصاد الغد محكومة بعدد من عمالقة الإقتصاد . إلاّ أن هذا يعتبر تبسيطا مخلاً، بعيدا عمّا يجري فعلاً . و يطرح آلفن توفلر ثلاثة أسباب لذلك
أولاً : نحن نرتكب خطأ إذا افترضنا أن هذه المؤسّسات العملاقة ستبقى على حالها، دون أن تنفرط . لقد ثبت من واقع عمليات الإندماج السابقة، أن ذلك الإندماج تعقبه، بسنوات قليلة، موجات من التفتّت والتشرذم. في بعض الأحيان، يرجع ذلك إلى أن الأسواق المتوقّعة تكون قد تبخّرت، أو إلى أنه قد تمّ الإعتماد على إستراتيجيات خاطئة . و من ناحية أخرى، تتم بعض الإندماجات في كيانات كبرى، و في نيّة أصحابها، منذ البداية، أن يعقب هذا الإندماج، إعادة توزيع الكيان الكبير الجديد على كيانات صغيرة
ثانيا : إنّنا نشهد اليوم إنفصالاً متناميا بين عالم المال، و عالم الإقتصاد (الحقيقي)، الذي تتم فيه عمليات إنتاج و توزيع المنتجات و الخدمات . في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وبعد أن إصطدم سوقان من أسواق المال، ثبت أنه في الإمكان - في بعض الأحيان - أن تنهار أسواق المال مؤقّتاً، دون أن يؤثّر ذلك بشكل فعّال على العمليات الإقتصادية الفعلية . و لعل مرجع ذلك إلى أن رأس المال نفسه يصبح، بشكل متزايد، أقل أهمية وليس أكثر، من إقتصاد إنتاج الثروة
ثالثا : لم يعد الحجم الكبير يقود، بالضرورة، إلى تعاظم القوّة . فالعديد من الشركات العملاقة، تتحكّم في موارد قوّة هائلة، لكنّها لا تستطيع تحريكها بشكل فعّال . و هذا، هو الدرس الذي تعلّمته الولايات المتّحدة الأمريكية في فييتنام، ثم تعلّمته ثانية في الصومال ( كتب توفلر هذا قبل أن تتأكّد رؤيته في أفغانستان و العراق ) .. و هو نفس الدرس الذي تعلّمه الإتّحاد السوفييتي في أفغانستان . و الخلاصة، أن ضخامة الكيان لم تعد ضمانا للنصر
فسيفساء القوّة

لكي نعرف كيف سيتم توزيع القوّة في أي صناعة أو نشاط إقتصادي مستقبلاً، يلزمنا أن نتأمّل العلاقات، و ليس مجرّد البنى (جمع بنية ) التي تقوم بالنشاط .
عندما نفعل ذلك، سنكتشف تناقضاً مدهشاً . ففي نفس الوقت الذي تتورّم فيه بعض المشروعات والشركات من حيث الحجم، نشهد حركة مضادّة قويّة، تستهدف تفتيت المشروعات الكبرى إلى وحدات أصغر فأصغر . يحدث هذا، مع تصاعد تشجيع المشروعات الصغيرة . و هذا يعني أن تركيز القوّة، لا يشكّل سوى نصف القصّة فقط . إنّنا لانمضي إلى ظاهرة وحيدة، بل إلى توجّهين متعارضين بشكل دراماتيكي، يضمّهما تركيب واحد
يقود الدور الجديد للمعرفة في المجالات الإقتصادية، إلى شكل جديد من أشكال القوة، هو فسيفساء القوّة .. إنّنا نمضي من الكيان الضخم، إلى الكيان المركّب من كيانات صغيرة مختلفة و متنوّعة، على شكل الفسيفساء، أو الموزاييك . و لعل ما قاد،عمليّاً، إلى تأكيد ذلك، ما حدث في الثمانينيّات، بينما وصلت موجة الإندماجات إلى أوجها، عندما إكتشف رجال الأعمال ما أطلقوا عليه : مركز الربح

مراكز الربح و الكمبيوتر

لقد إندفعت الشركات - بكل حماس - إلى تقسيم أنفسها إلى عدد كبير من الوحدات . و طلبت الشركة من كلّ وحدة أن تعمل كما لو كانت مشروعا إقتصادياً صغيراً مستقلاّ . و هكذا، بدأ التحوّل في الشركات والمؤسّسات العملاقة، من البناء الداخلي الضخم المركّب، إلى نوع من الفسيفساء التنظيمي الذي يضم عشرات - وأحيانا مئات - الوحدات المستقلة الصغيرة . لكن الثابت، هو أن قلّة صغيرة من المديرين هي التي أدركت أن هذا التنظيم الجديد، يستمدّ صلاحيته و قوّته من التغيّرات التى طرأت على نظام المعرفة
و من الصعب القول بأن فكرة إنشاء مراكز ربح صغيرة داخل المؤسّسة الكبيرة، كانت جديدة . إلاّ أن هذه الفكرة كانت تواجه مقاومة كبيرة، في عصر ما قبل شبكات الكمبيوتر، لأنّها كانت تعني، من وجهة نظر الإدارة العليا، إنتقاصا لقدرتها على التحكّم في الأمور . و حتّى بعد ظهور أجهزة الكمبيوتر الضخمة (المينفريم) على الساحة، كان من الصعب على إدارة الشركات أن ترصد العمليات التي تقوم بها الأعداد الكبيرة من "المراكز" ذات المسئوليّة الخاصّة .

الكمبيوتر الشخصي، هو البطل

لم يبدأ إنتشار فكرة مراكز الربح بشكل سريع و واسع، إلاّ بعد ظهور الكمبيوتر الشخصي .
لكن الأمـر كان متوقّفاً على شرط آخر، و هو أن تدخل أجهزة الكمبيوتر الصغيرة العديدة هذه في شبكة واحدة، تربط بينها، و تربط ـ في نفس الوقت ـ بينها و بين الجهاز الرئيسي الكبير، عند قمّة المؤسّسة . بمجرد أن حدث ذلك، في الثمانينيّات، إكتسب مضمون مراكز الربح دفعاً هائلاً .
عندما شاعت أجهزة الكمبيوتر الشخصية فوق مكاتب العاملين داخل الشركة، لم يكن أي جهاز منها يتصل بأي جهاز آخر . و قاد ذلك إلى تحوّل القوّة في المؤسّسة إلى أسفل . صغار المديرين و الموظّفين، و قد تسلّحوا بهذا الجهاز العجيب، ذاقوا طعماً جديداً للقوّة لم يعرفوه من قبل، و مارسوا نوعا من الإستقلال كان جديدا عليهم .
لكن، بمجرد أن إرتبطت الأجهزة الصغيرة، بجهاز الكمبيوتر المركزي للمؤسّسة(المينفريم)، حتّى أتاح ذلك للقيادة، عند القمّة، متابعة ما يجري في الوحدات الصغيرة القاعدية، خطوة بخطوة . لقد أصبح بإمكان مراكز الربح الصغيرة أن تعمل بحرّية، كما أتيح للقيادة أن تتابع ما يجري، و تتحكّم فيه
تعميق الفجوة بين المال و العمل

و هكذا، قادت ثورة المعلومات إلى تعميق الفجوة بين المال و العمل . و جعلت من الممكن المضي في التركيز المالي، مع خضوع قوّة العمل لعملية توزيع، و هبوط في التركيز
إلاّ أن مراكز الربح حاليا، مازال العديد منها، مجرّد صورة محاكية للمؤسّسة الأم . ونتيجة لهذا، تم تخريج جيل جديد من البيروقراطيّين الصغار، من بطن البيروقراطية الأم . و لا يمكن لهذا أن يستمرّ، في إطار المؤسّسة المرنة، التي يستوجبها النظام الإقتصادي الجديد . فالجانب التنظيمي لأي مؤسّسة كبرى، يقود إلى الإعتراف بالتباين و الإختلاف، و بأهمّية أن تشكّل الوحدات الصغيرة داخل المؤسّسة، نوعا من الفسيفساء متباين الشكل و القوة .
و خلاصة القول، أنّنا نتحرّك من نظام تسلسل رئاسات، يعتمد على تركيز السلطة و القوّة عند القمّة، وتحكمه تنظيمات مركزية قليلة التنوّع، إلى فسيفساء متنوع الأشكال و الألوان من القوّة و التنظيم

تسطيح الهرم البيروقراطي

غير انه من المهم الإنتباه إلى أن نظام تسلسل الرئاسات التقليدي داخل المؤسّسة، يتغيّر هو الآخر . فبالإضافة إلى مراكز الربح، شهدت ثمانينيّات القرن الماضي ما يصح أن نطلق عليه " تسطيح الهرم البيروقراطي "، أي إقتراب قمّته من قاعدته . و قاد هذا إلى ما يعرف بإسم" مذبحة الإدارة الوسيطة " . و كما في حالة التحوّل إلى مراكز الربح، جاء هذا التغيير أيضاً نتيجة للحاجة إلى ضمان التحكّم في نظام المعرفة في المؤسّسة .
بمجرّد أن بدأت الشركات في التخلّص من إداراتها الوسيطة، بدأ المديرون و الأكاديميون و رجال الإقتصاد، الذين تغنّوا من قبل بروعة الضخامة، بدأوا بتغزّلون في جمال الصغير، و يتحدّثون عن خلل إقتصاديات الضخامة
الذي بدا واضحاً، هو أن الإدارة ـ على مستوى القيادة ـ لم يعد بإمكانها أن تنتظر عملية تحليل المعلومات و المعارف، التي تتم خطوة بخطوة في المستويات الأدنى، و التحرّك البطيئ للرسائل عبر سلسلة الرئاسات . لقد اخذت المعرف تنتقل بشكل فوري من كمبيوتر لآخر، فتزايد الإحساس بأن كتلة الإدارة الوسيطة قد أصبحت عائقاً و عنق زجاجة، أكثر منها أداة ضرورية لإتّخاذ القرارات السريعة

خفض النفقات..من أين ؟

في وجه ضغوط المنافسة، و التهديد باستيلاء الشركات المنافسة على الشركة، بدأ المديــر، الذي كان قانعا بالبنية الأساســية العتيقة، في البحث المستميت عن وسائل جديــــدة لخفض النفقات و التكاليف .
أول ردود الفعل ـ المتكرّرة ـ في مجال خفض النفقات، كان تقليص المشروع، وإلقاء العاملين في الشارع، دون الإنتباه ـ في أغلب الأحيان ـ إلى أن هذا يعتبر عبثاً في النظام المعرفي، الخاص بهذا المشروع . في هذا، يقول بروفيسور هارولد أوكلاند، من جامعة بيس، و أحد خبراء تخفيض القوى العاملة، أن العديد من عمليات خفض النفقات بتوفير البشر، تقود إلى خفض الإنتاجية، للسبب المذكور .
غير أن التخلّص من الإدارة الوسيطة، كان في معظم الأحيان هو السبيل إلى إعادة إقامة البنية الأساسية للمعلومات في الشركة .
لقد ظهر أن العديد من واجبات الإدارة الوسيطة غير الإبتكارية، يمكن أن تتم بشكل أفضل و أسرع عن طريق شبكات أجهزة الكمبيوتر، و أجهزة الإتّصال الأخرى . و تقدّر شركة(آي.بي.إم) لإنتاج أجهزة الكمبيوتر، أن مجرّد جانب من شبكتهاالإلكترونية الداخلية، التي بإسم ( برفس)، يقوم بعمل كان يتطلّب جهد 40 ألف من العاملين على مستوى الإدارة الوسيطة
* * *

عندما ننشئ مراكز الربح، و نسعى إلى تسطيح هرم الإدارة البيروقراطي، و نتحوّل من الكمبيوتر المركزي الضخم إلى شبكة اجهزة الكمبيوتر الصغيرة، التي تتّصل ببعضها البعض، و تتّصل - في نفس الوقت - بالكمبيوتر المركزي .. عندما نفعل ذلك، نحوّل قوّة المؤسّسة من كيان عملاق وحيد، إلى فسيفساء من القوى و الأشكال التنظيمية
و مرّة أخرى، نرى كيف تفيد الرؤية الشاملة، غير الجزئية، و غير الأحادّية، في فهم العلاقات الوثيقة بين ثورة المعلومات، و إنجازاتها التكنولوجية، و طبيعة العمل و الإنتاج في مؤسّسات مجتمع المعلومات. وكيف نحتاج بشدّة إلى النظر للأمور برؤية مستقبلية شاملة

الاثنين، يناير ٢١، ٢٠٠٨

اقتصاد جديد ... لمجتمع المعلومات

الإقتصاد الجديــــد
ماذا في صالحنا منه ؟

الإقتصاد الجديد، الذي بدأ يسود العالم بأكمله، يختلف في أسسه عن الإقتصاد الذي ساد العالم على مدى القرنين الماضيين، بل و يتناقض معه في كثير من الجوانب . و عندما نتساءل: ما الذي في صالحنا منه ؟، فنحن نتساءل بالتحديد عن جوانبه التي تشكل، بالنسبة لظروفنا الإقتصادية الحالية، ميزة نسبية تساعدنا على اقتحامه . و ليس هنك شكّ في أن تحولنا إلى الأسس الإقتصادية الجديدة ضرورة ملحّة، و مهمّة عاجلة، و هو في صالحنا بجميع المقاييس .
و دخولنا الى الإقتصاد العالمي الجديد لن يكون سهلاً . فهو يتطلّب عمليات إعادة بناء أساسية، ويتضمّن الأخذ بأفكار و ممارسات جديدة علينا . الإقتصاد الجديد يتناقض في معظمه مع ما ارتضيناه من أوضاع في حياتنا الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية .. يتناقض مع نوع الإدارة الذي نعتمد عليه، و مع التعليم الذي نأخذ به، و مع رؤيتنا للإعلام و الممارسة السياسية . و هذه من الأمور التي سنتعرّض لها بالتفصيل فيما يلي من الحديث . لكننا سنركز الآن على ما لا يتناقض معنا، و ما يمكن أن يشكّل ميزة نسبية في واقعنا الراهن .

رأس المال الأقلّ

في إقتصاد الصناعة، كان من الممكن أن يتوفّر الفهم و العزم، و تبقى مشكلة رأس المال الكبير الذي يتيح للمشروع أن يصمد للمنافسة . و في الإقتصاد الجديد، نحتاج إلى رأس مال أقلّ، للقيام بنفس الأشياء التي كانت تحتاج إلى رأس مال أكبر في الماضي .
و السبب في هذا أن تنامي التوجّه المعرفي في مجتمع المعلومات، جعل بلإمكان الإعتماد على المعرفة كبديل للمصادر التقليدية الأخرى، مثل التكنولوجيا و استهلاك المواد الخام و الطاقة .
في المصانع التقليدية، كان تغيير المنتج يتطلّب تكلفة عالية للغاية، سواء لتغيير نظام عمل الآلات أو لتدريب العمال أو لإجراء استشارات الإخصائيين . لهذا كان السبيل الأقوم، هو إنتاج سيل السلع النمطية المتطابقة . أما المصانع الجديدة، المستفيدة من تكنولوجيات الكمبيوتر، فبإمكانها أن تنتج تنوعاً هائلاً من المنتج الواحد..ملبية بذلك إحتياجات التنوع المتزايدة في السوق .
و هذا يعني أن " المعرفة " تحلّ محلّ التكلفة المرتفعة لتغيير الإنتاج .
و يحدث نفس الشيئ في مجال استهلاك المواد الخام . المخرطة التي تعمل وفق برنامج ذكي للكمبيوتر، يمكن أن تتيح لنا قطعا أكثر من كتلة الصلب، بأفضل مما يفعل أيّ خرّاط من البشر . هذا بالإضافة إلى أن المعارف الجديدة تتيح تصغير حجم المنتج، و توفّر لنا منتجات أصغر و أخفّ وزنا، مما يخفض تكلفة النقل و التخزين . هذا، بالإضافة الى ما توفّره المعارف من خامات" مخلّقة "، تتيح الإستخدام الإقتصادي .
و أيضا، ينسحب هذا على الطاقة، فالإبتكارات المعرفية الجديدة في مجال الموصّلات الفائقة، تخفّض استهلاك الطاقة بشكل ملموس . كما أن المعرفة توفّر الوقت، الذي يعتبر من أكثر الموارد أهمّية في الإقتصاد الجديد، حيث تعتبر القدرة على توفير الوقت الفيصل بين المكسب و الخسارة .
و هذا كلّه يعني أن بإمكاننا اليوم أن نحسّن أوضاعنا، بما يتوفّر لدينا من رأس المال، أكثر ممّا كان محتملا منذ عشرة أو عشرين سنة مضت .

عصر الإقتصاد الأصغر

بحكم حالة نموّنا الإقتصادي الراهنة، و عدم وصولنا إلى مرحلة الإحتكارات الكبرى، نعتمد في شقّ كبير من اقتصادنا على المشروعات الصغيرة أو المتوسّطة . و هذه نقطة في صالحنا الآن، باعتبار أن الإقتصاد الجديد يتيح فرص النجاح للإقتصاديات الصغيرة . و هذا هو السرّ في أن المؤسسات الضخمة تحاول اليوم أن تعيد بناء ذاتها، على أساس إعتمادها على وحدات إنتاج صغيرة، أشبه ما تكون بالشركات الصغيرة . الأمثلة على هذا عديدة، من بينها ما أورده آلفين توفلر في كتابه(تحوّل القوّة) .
في " فال فيبّراتّا " بشرق إيطاليا، يدير رجل الأعمال الإيطالي سيرجيو روسّي عمله، من بيته، معتمدا على ثلاثة مستخدمين، يعملون على أجهزة ذات تكنولوجيا عالية، لإنتاج محافظ و حقائب جلدية صغيرة، تباع في أرقى متاجر نيويورك .
و غير بعيد منه، يقيم ماريو بوستاشينو مؤسسته (يوروفليكس)، التي لا يتجاوز العاملين فيها 200عاملا، و تتخصّص في صناعة الأثاث، و تورده لمحلات(ميسيز) الشهيرة . و هذه الشركة تعتبر نموذجاً للشركات العائلية التي تروج في الإقتصاد الجديد . زوجته تتولّى المبيعات، و إبنه يقوم بالعمليات المالية، و تقوم إبنته بتصميم الأثاث، كما يتولّى إبن عمّها جانب الإنتاج في العمل .
مشروعان صغيران، ضمن 1650مشروعا صغيرا في ذلك الوادي، متوسّط عدد العاملين في المشروع لا يتجاوز 15عاملاً، لكنها في مجموعها تدخل إلى إيطاليا ما يزيد عن بليون دولار سنوياً .

مراكز الربح

عدم وصولنا إلى مستوى الإحتكارات الإقتصادية الكبرى، يمكن أن يحسب ميزة لنا اليوم .
فالملاحظ اليوم، أن العشرات، إن لم يكن المئات، من الشركات الكبرى، قامت بتفكيك نفسها إلى " مراكز ربح " متعدّدة، على أمل أن يقوم كل "مركز ربح " بعمله، باعتباره مشروعا اقتصادياصغيرا، يستجيب لأحوال السوق المتغيّرة بالسرعة المناسبة . بل ان بعض الشركات الكبرى فرضت على كلّ مركز ربح صغير أن يسعى إلى تمويل نفسه، من حصيلة بيع خدماته، حتّى يبرر بذلك وجوده . و هذا يعني أن الشركات العملاقة تسعى إلى أن تتحوّل إلى شركات صغيرة، حتى تستطيع أن تواجه الإقتصاد الجديد، شديد التغيّر و التنوع، سريع الإيقاع .
و من هنا تجئ الميزة النسبية لإقتصادياتنا الصغيرة في اقتصاد المعلومات الجديد .
ومن ناحية أخرى، تسعى الكيانات الإقتصادية الكبرى، في الدول الصناعية المتطوّرة، إلى إعادة بناء ذاتها في وجه مقاومة شديدة لكل ما استقرّ على مدى سنوات عصر الصناعة . في وجه القيم التي استقرّت على مدى عشرات السنين، و تتناقض اليوم مع قيم الإقتصاد الجديد . أمّا عندنا، فالتغيير سيكون أسهل، باعتبارنا في بدايات التحوّل الصناعي، قياسا على الدول الكبرى، و بالنظر إلى مساحة النشاط الإقتصادي الصغير لدينا .

* * *

هذا هو ما في صالحنا من الإقتصاد الجديد . و حتّى في هذه الحدود فإن الحاجة شديدة إلى تنمية المعارف، و التعامل مع التكنولوجيات المتطوّرة، و إلى الرسالة التالية لنرى كيف ننتقل من اقتصاد العمالقة، إلى اقتصاد االفسيفساء