كنت أفكّر في أن تكون رسالتي هذه حول " الأخبار غير السارّة الي تنتظر لدول النامية " و لكنّي آثرت أن أنشر هذه الرسالة، التي أرسلها مصري يفكر في مصر و هو على أرض فرنسا .. بعكس الطبقة الحاكمة و بعض القيادات الفكرية عندنا، التي تفكّر في الولايات المتحدة الأمريكية، و هي تمرح في خيرات مصر . ما علينا..دعوني أتدارك تقصيري في تأخّر نشر هذا الخطاب، و أفرد له هذه لرسالة بأكملها، لكي نرأها و نتدارس معا ما بها من أفكار إليكم خطاب المفكّر و الكاتب المصري درويش الحلوجي
الآن يمكن ان اكتب اليك بعض الملاحظات على مقالك الاخير
اولا- كل الأفكار التى اوردتها فى مقالك تصب فعلا فى رؤية مستقبلية تأخذ بها دولا ومؤسسات عديدة ولا اعتقد ان فى مصر من يمتلك مثل هذه الرؤية التى هى فى الاساس منهج فى التفكير وما يحدث فى مصر الآن ونراه جميعا لا يدل على وجود شئ من ذلك.
ثانيا- مع اتفاقى الكامل للأفكار التى عرضتها اود ان اركز على ملاحظة تتعلق بمسألة نظام السوق او الاقتصاد الحر وهى كلمات قد تختلط عند البعض خصوصا لانها تستخدم فى غير موضعها، كيف؟ الاجابة تكمن فى الرد على تساؤل منطقي هو هل الاقتصاد فى خدمة البشر ام البشر فى خدمة الاقتصاد؟ الاجابة على هذا السؤال تحدد مدى جدية السياسات والاستراتجيات التى يتبعها بلد أو مجتمع ما. اذا استبدلنا كلمة اقتصاد السوق او الاقتصاد الحر بكلمة الحداثة ذلك ان هدف اى نظام اقتصادي او سياسي/اجتماعي هو تحديث المجتمع والوصول به الى حالة افضل فى كل المجالات، فإننا نلاحظ دون كثير من الجهد ان تحقيق المشروع الحداثي متعدد الطرق ولا يتبع نموذجا واحدا فقط. لكن من يتولون الأمور هنا فى مصر لا يرون طريقا لتحقيق تحديث مصر الا النموذج الغربي وتحديدا النموذج الامريكي وهو ما يفسر ذلك الخلط لدى هؤلاء بين العولمة والأمركة فالنموذج الاوروبي على سبيل المثال لا يتبع النموذج الامريكي بل يتصدى له فى مجالات كثيرة لعل اهمها مجالي الثقافة والمنتجات الزراعة (مؤتمرات منظمة التجارة العالمية والمؤتمر العام لليونسكو الاخيررفضا المقترحات الامريكية بتسليع الثقافة على سبيل المثال).
ثالثا- اصل هنا الى نقطة اتفاق اخرى جاءت فى مقالك تتعلق بعدم وجود مشروع حداثي مستقبلي فى مصر. هنا يبرز سؤال او اكثر: لماذا؟ من المسؤول؟ هل تفتقد مصر العقول التى يمكنها صياغة مثل هذا المشروع؟ وما اسباب افتقاد الرؤية المستقبلية هذه؟ لماذا لم تستطع مصر انجاز مشروعها الحداثي بعد مرور أكثر من نصف قرن على محاولتها الأخيرة؟ هل يكمن السبب فى ضعف وهشاشة النخب السياسية والفكرية المصرية ام ان هناك تفسير آخر؟
أحدث نظام يوليو قطيعة مع نظام استمر مايقرب من القرن ونصف القرن أى منذ اعتلاء محمد على السلطة وتولى اسلافه من بعده حكم مصر حتى قيام نظام يوليو
بدأت مصر مسيرة جديدة تماما منذ عام 1952 فتم تغيير نظام الحكم الى نظام جمهوري وتداعت التغيرات وتم تبني سياسات تحمل ملامح مشروع لتحديث مصر انتهج سياسات التصنيع والاستقلال الوطني وانحياز اجتماعي واضح لطبقات اجتماعية على حساب طبقات طبقة او شرائح اجتماعية اخرى واستمرت هذه المرحلة من نظام يوليو حتى وفاة عبد الناصر فى سبتمبر عام 1970 ، ويمكن ان نعرف هذه المرحلة بمرحلة بناء الاشتراكية على الطريقة الناصرية مع ملاحظة ان هذه الاشتراكية كانت تفتقد الى الاشتراكيين وهو مايفسر ان القرارات والقوانين التى شكلت اساس هذه المرحلة كانت تتم بشكل فوقي يعتمد اساسا على كاريزمية الزعيم التاريخي لهذه المرحلة!
مع مجئ السادات حدث الانقطاع الثاني خلال اقل من عقدين لكن هذه المرة من داخل نفس النظام اى نظام يوليو مع دخول النظام الى مرحلة ثانية تمثلت فى التخلي عن المشروع الاساسي وتصفية رموزه ضمن عملية الصراع على مقاليد السلطة
بنجاح السادات فى القضاء على ما اطلق عليه مراكز القوى وهو تعبير عن رموز مشروع نظام يوليو فى مرحلته الناصرية فقدالنظام مضمونه الايديولوجي وحدث تفكك و فراغ عقائدي فى المشروع التحديثي الذي بدأ عام 52 ولم يجد السادات امامه الا ان يملأ هذا الفراغ بالايديولوجية الدينية فأعاد جماعة الاخوان وجريدتها الدعوة كما قام بخلق جماعات اسلامية باستخدام ادوات التنظيم السياسي الوحيد الذي كان قائما ختى ذلك الوقت وهو الاتحاد الاشتراكي العربي الذي تولى مسؤول التنظيم فيه محمد عثمان اسماعيل تمويل وتجهييز الجماعات الاسلامية التى اوكل اليها التصدى للحركات السياسية فى الجامعة بشكل اساسي فى ذلك الوقت (الحركات الطلابية 1972-1973). استمر محمد عثمان اسماعيل فى مهمته الخاصة بخلق وتجهييز الجماعات الاسلامية بعد ذلك من محافظة اسيوط التى عين محافظا لها وهذا عامل من بين عوامل اخرى لما تحتله هذه المحافظة من ثقل لنفوذ هذه الجماعات. بجانب ذلك كان عثمان احمد عثمان رجل الاقتصاد القوي وصهر السادات يقوم بنفس المهمة فى معسكرات التثقيف الديني التى كان يقيمها سنويا بمدينة الاسماعيلية لشباب الجماعات الدينية كل عام
استدار السادات دورة كاملة على المشروع الذي بدأ عام 52، وبعد استبدال الاشتراكية بأيديولوجية ذات مضمون ديني واضح مع تغير الخطاب السياسي واستبدال الشعارات السابقة بشعارات تعكس توجه المرحلة مثل دولة العلم والايمان واخلاق القرية واصدار قانون العيب بل ان الامر وصل الى حد الحديث عن امكانية عودة الخلافة ! لكن هذه المرحلة الثانية من نظام يوليو لم تستمر طويلا حتى تحقق اهدافها حيث شهدت اضطرابات اجتماعية وسياسية عديدة لعل اخطرها واشهرها انتفاضة يناير 1977 التى عكست مدى الازمة التى وصل اليها نظام السادات المتسرع الى إعادة النظام الرأسمالي لكن بلا راسماليين
حاول السادات خلق طبقة او شريحة راسمالية عن طريق سياسة الانفتاح الاقتصادي والقوانين التى سنت على عجل لتسهيل ظهور هذه الطبقة لكن النتيجة كانت مجموعات حققت ثروات مالية سريعة عن طريق الاتجار فى العملة وتهريب المخدرات وما عرف بعد ذلك بقضايا الفساد التى قدم بعضها للمحاكمات مع بداية حكم مبارك (رشاد عثمان وعصمت السادات شقيق الرئيس السابق نفسه). وانتهت هذه المرحلة ثانية من نظام يوليو كما نعرف جميعا بإغتيال السادات من قبل من خلقهم هو نفسه وذلك وسط جيشه واثناء العرض العسكري الذي يرمز الى اهم انجاز التصق باسمه اى حرب اكتوبر.
بإغتيال السادات انتهت المرحلة الثانية من نظام يوليو ومع مجئ مبارك كان الوضع المصري فى وضع سيريالي ! لقد هدم السادات مشروع ناصر الوطني ذو الابعاد أو الملامح الاشتراكية ولم ينجح السادات فى تحقيق حلمه او مشروعه بعودة الرأسمالية على الرغم من كل الشعارات والقوانين والتسهيلات وكم الفساد الذي ساد هذه المرحلة بهدف خلق طبقة راسمالية تتولى قيادة او تحقيق مشروع مصر وفقا لرؤيته
استمر الحال السيريالي مدة اكثر من عقد شهدت مصر خلالها حالة من الارتباك الايديولوجي وغياب المشروع المستقبلي ذلك ان من اغتالوا السادات كانوا هم ممثلوا الايديولوجية التى استعان بها السادات لمواجهة الايديولوجيات الاخرى المعارضة له سواء كانت وطنية ليبرالية او يسارية اشتراكية او ناصرية قومية (حملة الاعتقالات التى سبقت اغتيال السادات شملت جميع هؤلاء) كما تصاعدت اعمال العنف السياسي والمجتمعي بشدة كان ابرز تجسيد لها تمرد قوات الامن المركزي 1986 و وموجات العنف الديني المسلح فى التسعينيات.
بعد حالة التوهان الايديولوجي والسياسي التى استمرت اكثر من عقد ونصف العقد بدأ مبارك فى حسم توجهه فى الاستمرار فيما بدأه السادات مع استخدام لعبة التوازن مع التيارات السياسية الورقية التى تم خلقها على الخريطة الافتراضية للحياة السياسية المصرية بعد الغاء الاتحاد الاشتراكي وخلق المناير التى تحولت الى احزاب بقرارات رئاسية فوقية وهو العامل المشترك القوى الذي لم يتغير مع تغير المراحل المختلفة لنظام يوليو اى الاحتفاظ بهيمنة جكم الفرد مع اختلاف مشروعية كل من المراحل الثلاث. منذ اواسط التسعينيات بدأت سياسات دفع الاقتصاد المصري و محاولة الاسراع فى التحول الرأسمالي بمساعدة من ووفقا لسياسات وشروط البنك الدولي والمؤسسات الدولية الاخرى مثل صندوق النقد الدولي ومجموعة باريس الخ، وبسبب فرادة التجربة من الناحية الاقتصادية كانت قضايا الفساد التى شهدتها هذه السنوات ولا زالت شاهد على فشل هذا التحول بل وعلى مايحمله من افاق كارثية مستقبلية للمجتمع المصري بل وللنظام السياسي القائم ذاته. الفشل كان اكثر وضوحا فى فترتي عاطف عبيد والجنزوري وكان التداخل وازدواجية الخطاب الذي لايزال يستخدم مصطلحات المرحلة الاولى والثانية لنظام يوليو بالاضافة الى قاموس المصطلحات الجديدة المتضمن فى برامج البنك الدولي وبيوت الخبرة وهو ما نراه ونسمعه كلما تحدث احد من مسؤلي الحزب الوطني وخصوصا اعضاء لجنة السياسات والهيئات الملحقة به مثل دورات شباب رجال الاعمال وشباب الحزب والمرأة الخ, يكفي ان تستمع الى تلك الاسطوانات المشروخة عندما يتحدث واحد من هؤلاء عن تسويق المنتج وجودة المنتج والحديث عن الثقافة والتعليم كمنتج لتعلم انه يكرر ما تلقنه فى دورات هذا الكيان الحزبي
الآن، بعد هذا العرض الموجز لنصف قرن شهد ثلاث انقطاعات (الاشتراكي القومي- الشعبوي المتمسح بالدين- الرأسمالي المتعولم) هل يمكن لنا ان نستنتج ان الفشل فى تحقيق هذا المشروع يكمن فى هذا التخبط الذي تحلت به النخب المصرية التى تولت أمور حكم مصر خلال النصف قرن الاخير؟ ودون الدخول فى تحليل سوسيولوجي لطبيعة هذه النخب يكفي ان نرصد عامل مشترك يجمع بينها وهو الأصل والتكوين العسكري لرأس النظام، ونحن نعلم مدى خطورة واهمية الدور الذي يلعبه من يتربع على قمة نظام الحكم شديد المركزية فى مصر. لكن التحليل السوسيولوجي للتحولات البنيوية التى طرأت على المجتمع المصري خلال العقود الثلاث الاخيرة لابد ان يأخذ نصيبه من الاهتمام
ملحوظة
بالنسبة لموضوع الدراسات المستقبلية سيكون لنا حوارات مفصلة وبهذه المناسبة يسعدني ان اخبرك بانني قد ترجمت مع بعض الزملاء كتابا هاما فى هذا الموضوع لمنظمة اليونسكو وهو كتاب مفاتيح القرن الحادي والعشرين
Keys to the 21st Century
ولأسباب ادارية ويونيسكوية كان هناك عقد آخر لترجمة نفس الكتاب مع مجموعة من اساتذة الجامعة فى تونس ولقد صدرت الطبعة الشمال افريقية ولم تصدر ترجمتى او الطبعة المصرية حتى الآن لكن هناك اتصالات وجهود لأخذ موافقة اليونسكو لإصدار هذه الترجمة فى مصر بسعر يكون فى متناول كل من يهتم بهذا الموضوع. الكتاب هو حصيلة حوارات وسيمينارات دارت طوال السنوات الاخيرة من القرن العشرين بين علماء واخصائيين ومفكرين وفلاسفة الخ. العديد منهم حاصلين على جوائز نوبل فى مجالات مختلفة من الفيزياء الى الكيمياء والاقتصاد والسلام الخ. والنسخة الانجليزية للكتاب تقع فى حوالي 400 صفحة من القطع الكبير والطبعة الفرنسية فى اكثر من خمسمائة صفخة. ويقع الكتاب فى خمسة اجزاء تغطي كل ما يمكن ان نتصوره من مجالات النشاط الانساني من طبيعة المستقبل ذاته فى ابعاده الفلسفية والابستمولوجية ومستقبل الانواع وكوكب الارض ثم مستقبل الثقافة والتعليم والتعددية فى هذين المجالين وبعد ذلك تناول لمستقبل العيش معا أو نحو عقد اجتماعي جديد واخيرا مستقبل العالم فى ظل العولمة أو نحو عقد اخلاقي جديد، ويحتوى كل قسم من هذه الاقسام على عشرات المداخلات او الدراسات التفصيلية
فى النهاية اعتقد ان حوارات كثيرة ستبدأ وآمل ان يكون هناك فى مصر الآن من يهتم بهذه القضايا المتعلقة بالروئ المستقبلية على اساس علمي حقيقي
تحياتي
درويش الحلوجي
باريس 29 مايو 2007