الخميس، أكتوبر ٠٢، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

مؤشّـرات التغييـر

التي تعيد بناء حياتنا

أفادني – بداية - قراءة كتاب " المؤشرات العظمى "، للكاتب المستقبلي مارفن سيترون . أعجبني المنهج الذي يلتزم به، و تصورت وقتها أنّه المنهج العلمي السليم للنظر في التغيرات التي تمر على حياة البشر .
ظهر الكتاب عام 1982، و قد تضمّنت طبعة عام 1984، التي قرأتها، مقدمة تشرح المنهج الذي التزم به ناسبيت في رصد المؤشّرات الكبرى التي يمر بها المجتمع، و بالتحديد المجتمع الأمـريكي . و هو يقول أن الطريقة التي يمكن أن نعتمـد عليها أكثر من غيرها، في استشـراف المستقبل، تكون بفهم الحاضر .
تحليل المضمـون
يقول ناسبيت في مقدمته " ما تعلّمناه عن مجتمعنا، كان من خلال المنهـج الذي يطلـق عليه ( تحليل المضمون )، الذي يضرب بجذوره إلى الحرب العالمية الثانية . فخلال تلك الحرب، سعى خبراء المخابرات للحصول على نوع المعلومات، عن دول الأعداء، التي عادة ما توفّرها استطلاعات الرأي العام .. " . لقد توصّل خبراء المخابرات إلى اكتشاف التوتّر في الشعب الألماني، و في صناعته، و في اقتصاده، من واقع دراسة المضمون للصحف و المجلات الألمانية .
و يشير ناسبيت إلى أن المنهج الذي يلتزم به، مع باقي العاملين معه، يخلو من التقارير المغرضة، لأنّهم يهتمون فقط بالأحداث أو بالسلوك ذاته . و مجموعة ناسبيت تجمع المعلومات حول ما يجري محلّيا عبر البلاد، ثم يبدأ البحث عن النسق الذي يجمعها .
و هو يقول " بعد 12 سنة من الرصد الدقيق للأحداث المحلية، بهذه الطريقة، تطوّر لدي بالتدريج ما يبدو لي رؤية واضحة، للاتجاهات التي نلتزم بها في إعادة بناء الولايات المتحدة الأمريكية .."، إلى أن يقول " وأنا أخاطر بعد رضا الخبراء، و المحللين، الذين يمكنهم القول بأن القيام بهذه القفزة، لوصف العالم بمصطلحات عشرة متغيّرات، يعتبر تبسيطا مخلاّ . و قد يكونون على حق في تفكيرهم، و مع ذلك أعتقد أن الأمر يستحقّ هذه المخاطرة .. " .

التوجّهات العشرة

لقد أفادني الكتاب فائـدة كبـرى، و جعلني أكثر قـدرة على اقتحـام مجالات أبعد من العلوم و التكنولوجيا . أمّا المؤشّرات أو التوجهات العشرة لناسبيت فقد كانت :
• التحوّل من المجتمع الصناعي، إلى مجتمع المعلومات .
• من تكنولوجيا القوّة، إلى التكنولوجيا العالية ذات اللمسة البشرية .
• من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي .
• من التخطيط قصير المدى، إلى التخطيط طويل المدى .
• من المركزية، إلى اللامركزية .
• من الاعتماد على المؤسّسات و الدولة، إلى الاعتماد على الذات .
• من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى ديموقراطية المشاركة .
• من نظام تسلسل الرئاسات، إلى التنظيم الشبكي .
• النمو و الرواج من الشمال، إلى الجنوب . ( وهذا مؤشّر خاص بالولايات المتحدة، لكن من الممكن أن نطبقه على مناطق أخرى من العالم ) .
• من منطق : إمّا \ أو، إلى الفرص المتعدّدة .

إيجابيات هذا المنهج

بالنسبة لي، كان الاطّلاع على مؤشّرات ناسبيت فتحا كبيرا . لقد ساعدني ذلك على الربط بين التكنولوجيات الجديدة، و بين الإنتاج و الاقتصاد و الإدارة و التخطيط والممارسة الديموقراطية . كما فهمت منه أن القصة ليست تكنولوجيات مبهرة، و لكنها تحوّل أساسي من نمط الحياة الصناعية التي عرفها البشر لما يزيد عن قرنين، إلى نمط حياة جديدة أطلق عليها اسم " مجتمع المعلومات " .
و الأهم في هذا كلّه، التزامه بأسلوب علمي أمين، في السعي إلى النتائج . لم يعتمد على أفكاره، أو على أفكار الآخرين، أو على ما تصدره الحكومة من إحصاءات و ما تستنبطه من نتائج، بل اعتمد على استمداد الوقائع من القواعد و المحلّيات، معتمدا على عشرات الآلاف من المصادر، من صحف و مجلات و برامج تلفزيونية، بالإضافة إلى المقابلات الموجّهة، ثم إخضاع ذلك ـ مستعينا بالكمبيوتر ـ لعملية تحليل المضمون .
إنها عملية رصد واعية و دقيقة . و هذا هو الذي أكسبها مصداقيتها . فالمؤشّرات التي طرحها ناسبيت منذ أكثر من ثلاثين سنة، ما زالت تحتفظ بقوّتها، و التطورات التي يمر بها البشر عاما بعد عاما تزيد من مصداقيتها .
و مع ذلك، بقيت لدي الكثير من التساؤلات، التي أثارتها هذه المؤشرات و لم تقدّم إجابة شافية لها . لماذا يحدث هذا التحوّل الكبير في حياة البشر؟، و ما هي الآلية التي تجعل ظهور تكنولوجيا كبيرة جديدة، سبيلا لتغيير أحوال البشر و قيمهم ؟، و ما هو التأثير المتبادل بين هذه المؤشّـرات ؟، و ما هي الرؤية الشاملة لمستقبل العالم على ضوء هذه التغيّرات ؟ .

آفاق جديدة مع دانييل بل

كلما سافرت إلى لندن، كنت أحرص على القيام بمسح للمكتبات، بحثا عن الكتب التي تهتم بالمستقبل، و كنت أقتني كل ما أستطيع أن أقتنيه . و كان الجهد شاقا بعض الشيء . فحتّى في مكتبات لندن، لم أكن أجد قسما خاصا بالدراسات و الكتابات المستقبلية . كان عليّ أن أمسـح جميع الأقسام لأجد الكتب التي تتصل بالمستقبل، في أقسام العلوم و الاقتصاد و الاجتماع، إلى آخر ذلك . و عندما أعود إلى القاهرة، و أبدأ في قراءة ما جمعت، لم تكن النتائج دائما مرضية، أو مفيدة لي ـ على الأقل ـ في الوصول إلى إجابات عن تساؤلاتي .
و كانت المفاجأة الأولي، عندما التقيت بالأستاذ دانييل بل، أستاذ الاجتماع في جامعة هارفارد، في كتابه الهام " مقدم مجتمع ما بعد الصناعة ـ مغامرة في التنبؤ الاجتماعي " .
في هذا الكتاب، قرأت عن التحوّل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع ما بعد الصناعة، من خلال نظريات التطوّر الاجتماعي . و عن التحوّل من السلع إلى الخدمات و أثره على الاقتصاد . و عن آفاق المعرفة و التكنولوجيا، و البناء الطبقي الجديد لمجتمع ما بعد الصناعة . و عن مدى صلاحية مفاهيمنا و أدوات تفكيرنا . ثم عن من الذي سيحكم المجتمع الجديد، و دور الساسة و التكنوقراطيين في المجتمع الجديد .

وجدت هنا العديد من الإجابات عن تساؤلاتي الرئيسية . لكن بقيت لدي حاجة إلى فهم قانون تغيّر المجتمعات عبر التاريخ، لمقارنة ما حدث من تحوّلات بالتحوّل الحالي .