السبت، سبتمبر ٢٦، ٢٠٠٩

الوهم الثالث

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

ثالثا : وهم ثبات معاني المصطلحات

الكثير من الخلط و سوء الفهم الذي يسود حواراتنا يرجع إلى تصوّر البعض ثبات معاني الكلمات و المصطلحات و الأشياء .. و حقيقة الأمر أن معاني الأشياء تتغيّر بتغيّر النظام المجتمعي السائد في الحياة . إنّنا لا نصل إلى حلول لمشـاكلنا الحالية، لأنّنا نتعامل مع الكلمات و المصطلحات و الأشياء بمعناها القديم، أو بمعنى أدق المعنى النابع من ظروف مجتمعية سابقة غير الظروف السائدة .
عدم فهم المعنى المعاصر للكلمة، و عدم الانتباه لتغيّر معناها السابق بتغيّر الواقع المجتمعي، يقود إلى الكثير من الخلط و التضارب فيما نقوله، و يفقد حواراتنا جدواها . إنّنا نتناقش حول الاقتصاد و الديموقراطية و التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم و الأخلاق، فلا نصل إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك، الذي يسمح لنا بمواجهة مشاكلنا بشكل عملي، في كل مجال من هذه المجالات .. و السبب في هذا أن الكلمات و المصطلحات كائنات عضوية، تتغيّر بتغيّر النظم المجتمعية السائدة .

عن أيّ أسرة نتكلّم ؟

مثال ذلك ما يحدث عندما نتكلّم عن أمور الأسرة و مشاكلها، فنرى كل واحد ينطلق من قاموسه الخاص، و معنى الأسرة الذي يعنيه، فلا نصل إلى نتيجة ما . مصطلح " الأسرة "، يكون له معناه الخاص، وفقا لنوع المجتمع السائد : زراعي، أم صناعي، أم معلوماتي .
في المجتمع الزراعي، الذي ما زالت الكثير من رواسبه باقية في حياتنا، ربّما في بعض أعماق الريف، كانت الأسـرة كبيرة الحجم تضمّ عدّة أجـال من الأبناء و الأحفـد و الأقارب، وتعمل كوحدة إنتاجيــة استهلاكية . كانت الأسرة تتكفّل بجميع احتياجات أفرادها، التي كانت محدودة و تنحصر في
توفير المسكن و الطعام و التعليم و الرعاية الطبّية، و تنظيم العلاقة بين أفرادها وفقا للقيم السائدة .
عندما بدأ زحف عصر الصناعة منذ حوالي قرنين و نصف، شعرت الأسرة بضغوط التغيير، و تلقّت السلطة الأبوية ضربة محسوسة، و تغيّرت العلاقة بين الآباء و الأبناء . و مع تحوّل الإنتاج الاقتصادي الأساسي من الحقل إلى المصنع، لم تعد الأسرة الممتدّة كبيرة العدد صالحة للحياة الجديدة . لقد تطلّب المجتمع الصناعي من العامل في المصنع أن يكون قادرا على الانتقال من مكان لآخر، وفقا لحاجة العمل الصناعي، و مع الانتقال إلى المدن تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للتغيير، تخلّصت الأسرة من الأقارب، و وصل بنا الأمر إلى " الأسرة النـووية "، و التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء .
و لكي يتفرّغ العامل لعمله في المصنع، نشأت مؤسّسات متخصّصة للقيام بالمهام التي كانت توكل تقليديا للأسرة، فأوكل تعليم الأطفال و الصغار إلى المدارس، و الرعاية الصحّية للمستشفيات، و الاهتمام بكبار السن و رعايتهم إلى الملاجئ و بيوت العجزة . مع كل هذه التغيّرات، كان لابد أن تتغيّر القيم الأسرية التي كانت سائدة في عصر الزراعة، لتحلّ محلّها قيم جديدة نابعة من احتياجات و عقائد عصر الصناعة .
و اليوم، و نحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، يتأسّس شكل جديد للأسرة، غير الذي عرفناه في عصر الزراعة أو الصناعة . فيصبح للأسرة شكلها الجديد و قيمها الجديدة، الأمر الذي سيكتمل، عندما يتم التحوّل إلى مجتمع المعلومات ..
المهم، عندما نتكلّم و نتناقش حول الأسرة، يكون علينا أن نحدّد عن أيّة أسرة نتكلّم .

انقضاء أجل ديموقراطية التمثيل النيابي

و نحن أيضا نتناقش و نتحاور حول الديموقراطية، دون أن نحدّد أيّة ديموقراطية نعني ..فعلى مدى التاريخ تغيّر مضمون و شكل الممارسة السياسية مع تغيّر الأسس المجتمعية السائدة .
البعض يقول ديموقراطية، و هو يعني الشكل الديموقراطي الناقص الذي كان سائدا طوال عصور الزراعة، و الذي لم يكن يتجاوز " الشورى "، مع بقاء صلاحيات صناعة القرار عند الحاكم أو الوالي أو الشيخ .. و التي عبّرت عنها قصص ألف ليلة بعبارة " دبّرني يا وزير .." ! . لقد كانت الشورى هي الحدّ الأقصى للديموقراطية على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة .
و البعض الآخر، عندما يقول ديموقراطية، فهو يعني الشكل السائد حاليا في عديد من الدول، ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها المجتمع الصناعي، لسدّ جانب من احتياجات اتّخاذ القرار التي تضخّمت مع دخولنا إلى الحياة الصناعية . ديموقراطية تقوم على تجميع الجماهير في أحزاب، و قيام الفرد بتوكيل من ينوب عنه في عملية المشاركة في اتّخاذ القرار، هذه الديموقراطية البرلمانية التي لم تعد تحقّق أحلام البشر، في الدول النامية و المتطوّرة معا .
و يندر أن تجد من يفهم المعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات .. يندر أن تجد من يتحدّث عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقّعية، ممّا نوضّح معانيه و طبيعته فيما يلي من حديث .
المهم، أن الحديث عن الديموقراطية يجري في اللقاءات دون الاتفاق على الحد الأدنى من الفهم، نتيجة عدم الانتباه للتغيّرات التي تطرأ على مفهوم الديموقراطية، من عصر إلى عصر .

من المدير .. إلى القائد

نفس الخلط يحدث في مجال حيوي آخر، هو الإدارة . و رغم أن الإدارة تعتبر عنصرا هاما في مجال النشاط الاقتصادي، فما زلنا نرى العديد من خبراء الإدارة و الاقتصاد عندنا، الذين يقفون عند مفهوم الإدارة الذي كان شائعا على مدى عصر الصناعة، دون أن ينتبهوا إلى عواقب إهمال التغيّرات التي طرأت على هذا المجال بالدخول إلى عصر المعلومات .
غاية ما نسمعه في الندوات و الموائـد المسـتديرة، حديث عن التجويد، و استعارة لبعض المصطلحات الشائعة، دون إدراك السياق الذي تنبع منه . لقد كان الكثير من المختصّين في مجال الإدارة، يبدون انزعاجا كلّما قلت أن التغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات تحتاج إلى إعادة بناء شامل للمؤسّسة أو الشركة أو الهيئة، العامة أو الخاصّة . و أن هرم تسلسل الرئاسات الذي كنا نأخذ به، قد أخلى السبيل لتنظيمات شبكية جديدة، لا تشبه في شيء التنظيمات التي عرفناها على مدى 200 سنة مضت . و أن رئاسة العمل تنتزع من يد المدير الآمر المحتكر لسلطة اتّخاذ القرار، لتوضع في يد قائد العمل المشارك الذي تكون مهمته الأولى تسهيل و تيسير عمل من يشاركونه .

المصطلحات كائنات حيّـة

ما قلناه عن الأسرة و الديموقراطية و الإدارة، ينسحب أيضا على الاقتصاد و التعليم و كافة مجالات النشاط البشري الأخرى .
وهم الاعتقاد بإمكان ثبات و استقرار مفهوم الكلمات و المصطلحات، يعوق أيّ تفكير نقوم به لاستشراف المستقبل، و يحيل حديثنا إلى حوار طرشان ! ..
بل أن مفاهيم الزمان و المكان تتغيّر أيضا مع تغيّر الأسس المجتمعية التي تقوم عليها حياتنا . في هذا يقول جون جريبين، عالم الطبيعة الفلكية، و الكاتب العلمي " .. لم يعد الزمان شيئا ينساب إلى الأمام بلا رجعة، وفقا لإيقاع ساعاتنا و تقاويمنا، فقد ثبت علميا أنّه بطبعه يدور و ينكمش و ينبسط ! .."، و هو ما قال به أينشتين في نظرية النسـبية . دخولنا إلى مجتمع المعلومـات، يدخلنا في علاقـات جديدة، في كلّ مجال، و أيضا مع الزمان و المكان ..
خلاصة القول، أن المصطلحات كائنات حيّة، يتغيّر معناها و يتطوّر مضمونها مع الزمن .. لهذا، فإن الاتّفاق على التعريف المعاصر للمصطلح، أمر ضروري للوصول إلى تفكير أو حوار مثمر .

و إلى الوهم الرابع، وهم إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة