الخميس، أغسطس ٢٠، ٢٠٠٩

أزمة التفكير، في زمن التغيير


محنة صانع القرار

التغيير الشامل، و الفقّاعة المنطقية

المحاولات المختلفة لتكوين جماعة تشيع التفكير المستقبلي، و تطرح السبيل لتكوين رؤية مستقبلية، تصلح للتعامل مع الحاضر، و تتيح الاستعداد للتعامل مع المستقبل .. هذه المحاولات المتكررة على مدى عقدين من الزمان، كان من أهم أهدافها مساعدة صانع القرار، في أي مكان و على أيّ مستوى، على اتخاذ القرار في مواجهة المشاكل و الأزمات التي تنهال عليه، و التي يكون معظمها مستحدثا و غير مسبوق، و ليس له رصيد حلول في مخازن الخبرات السابقة . و القرار الذي نشير إليه، هو القرار المناسب في الوقت المناسب، و الذي يقود إلى حل المشكلة، دون خلق مشاكل جديدة مشابهة أو أخطـر في المستقبل ..
الثابت حتّى الآن، أنّه لا يبدو أن رجال السياسة أو أصحاب الخبرة أو أهل الفكر، في إمكانهم الوصول إلى منهج سليم مناسب لحل المشاكل و مواجهة الأزمات الحالية . و السرّ في هذا، أن الواقع شديد التغيّر الذي نعيشه حاليا، يفقد هؤلاء جميعا القدرة على رسم سبيل سليم على خريطة التفكير .
عندما أقول " صانع القرار "، فأنا لا أقصر الحديث على الحكّام و الرؤساء و القيادات الإدارية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية العليا، رغم أن المأزق عند هذا المستوى تكون له آثاره الهامة الفادحة، لكنّي أعني بهذا كل من يتصدّى لاتّخاذ قرار على أيّ مستوى من المستويات، سواء كان رب أسرة يبحث عن القرار المناسب لحلّ مشكلة أعباء الحياة المتغيّرة، أو شابا يتصدّى لاتخاذ قرار في نوع الدراسة التي يتّجه إليها، أو حتّى كان مواطنا عاديا يبحث عن أفضل وسيلة للوصول إلى عمله، من بين البدائل المتاحة .
الذي يجب أن ننتبه إليه، هو أن المسألة مسألة منهج تفكير جديد، في مواجهة الواقع الجديد المتغيّر .
إنها ليست مجرد نقص في البيانات و المعلومات، و لا عدم قدرة على معالجة تلك البيانات و المعلومات بهدف تحويلها إلى معارف نافعة.. و هي أيضا ليست مسألة نقص في الذكاء، أو قصور في رصيد الخبرات القديمة أو المعاصرة، المحلّية أو العالمية ..

من الذي يقتنع ؟

فما هي المسألة إذا ؟
المسألة هي أننا كنّا نمضي، خلال القرون الماضية ـ وفق أسلوب خاص متكامل في الحـياة، له منطقه و مبادئه و أسسه التي يستند إليها، و له تطبيقاته في كل مجال من مجالات الحياة .. في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و التعليم و الثقافة ة الإعلام . مشكلتنا اليوم أننا نصمّم على الأخذ بتلك التطبيقات، و نتصوّر أنها بديهيات لا تناقش .
و إلاّ .. هل تستطيع أن تقنع أحدا بأنّ النظام السياسي المعمول به عندنا، و في أنحاء العالم أيضا، من مجالس نيابية و أحزاب و حكومات مركزية، قد انقضى زمنه، و فقد مصداقيته، و أنّه آيل للسقوط ؟ .. هل تستطيع أن تقنع أحدا بأن النظام التعليمي الذي نأخذ به، و الذي ما زالت تأخذ به العديد من دول العالم، لم يعد صالحا لإعداد الأجيال للتعامل مع الحياة القائمة و القادمة، و أنه السبيل إلى أخطر أنواع البطالة، البطالة البنيوية، النابعة من قيام العمل على أسس جديدة مغايرة ؟ .. هل تستطيع اقناع أقطاب الاقتصاد عندنا بأن النظريات الاقتصادية الكبرى، التي سادت القرون الأخيرة، من رأسمالية و اشتراكية، لم تعد قادرة على التعامل بمنطقها، مع منطق اقتصاد عصر المعلومات ؟ ..
أسلوب الحياة الذي عرفناه و أخذنا به، بدأ يتغيّر خلال العقود القليلة الأخيرة من القرن السابق، مفسحا المجال لأسلوب حياة جديد، له مبادئه و أسسه و منطقه، و له تطبيقاته غير المسبوقة في كل مجال من مجالات حياتنا .
هذا هو جوهر المأزق الذي نعيشه، و الذي تنهمر منه الأزمات المتنامية على صانع القرار . المناهج التي كان ـ و ما يزال ـ يعتمد عليها لم تعد صالحة. و هو في حاجة إلى مناهج جديدة، تصلح للتعامل مع الواقع الجديد الزاحف .

الفراغ .. و السلفية

و نسأل مرّة ثانية : ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة هذا المأزق ؟ ..
ماذا نفعل جميعا في مواجهة الفراغ الهائل، الناتج عن انقضاء ما هو معمول به تقليديا، و عدم اكتمال تشكّل الآتي، و عدم استقرار مبادئه و أسسه و المنطق الجديد الذي يطرحه ؟ ..
معظم المشاكل التي تواجهنا في مصر، و تواجه باقي شعوب العالم، ناتجة عن ذلك الفراغ الذي تحدّثنا عنه . و هو سرّ عدم قدرتنا على توقّع المشاكل القادمة في وقت مناسب، و الاضطرار إلى انتظار المشكلة حتّى تحل، ثم محاولة التصدّي لها بما يتوفّر لدينا في ذلك الوقت من حلول غير متكاملة، كما أننا في محاولتنا لحل المشكلة الهابطة علينا، نلجأ إلى الأدوات السلفية، في غياب الفكر الجديد .
و السلفية التي نعاني منها، لا تقتصر على السلفية الدينية، و تصـوّر إمكان التعامل مع الواقع الجديـد بأدوات تاريخية قديمة، لكنّها تمتد إلى السلفية الأيديولوجية و العقائدية . السلفي الذي أتحدّث عنه ليس هو فقط مطلق اللحية و مرتدي الجلباب، لكنّه ذلك النمط الشائع في أعلى المواقع السياسية و التشريعية و التنفيذية، و توجد نماذجه بوفرة بين عدد من أساتذة الجامعات، و أصحاب الأقلام ! .
هذا الفراغ الذي أتحدّث عنه، هو المسئول عن الخلط الذهني والذاتية و الانتهازية التي تشيع في حياتنا، و التي لا تقتصر على فئة دون أخرى، و التي نرى بعض انعكاساتها على صفحات الحوادث و القضـايا .

الفقّاعة المنطقية

غياب المنطق الذي كان معمولا به، و عدم تأسّس المنطق الجديد، يقود إلى وضع خطير .. لقد أصبح كلّ واحد منّا يعيش في " فقّاعة منطقية " خاصّة به .. كل واحد منّا يعتمد على مفاهيمه و مداركه الخاصّة، التي تكون مستمدّة من الواقع القـديم أو التاريخـي، ويصنع منها فقّاعة تحيط بعقـله، و يتحـرّك بها إلى كلّ مجال .
داخل هذه الفقاعة يتصرّف الشخص بطريقة منطقية متوافقة تماما، لكن إذا ما كانت المفاهيم و المدارك التي اعتمد عليها محدودة أو خاطئة، فالأرجح أن يقود هذا إلى أن تكون أفكاره و أعماله غير سليمة أو مناسبة أو منطقية . و هذا هو أحد أسباب حالة الضياع و عدم الجدوى التي تتّسم بها مجالسنا و مؤتمراتنا و اجتماعاتنا .. و هذا هو مصدر حالة الرضا عن الذات التي يغرق فيها مفكّرونا، و التي تمنعهم من تبيّن أهمية النظر إلى مفاهيمهم و مداركهم بعين جديدة، على أساس الواقع المستجد للحياة .
هؤلاء هم السعداء بمهاراتهم الفكرية، الذين يتصوّرون أن هدف التفكير هو إثبات أنك على حقّ، من أجل إرضاء و إنعاش ذاتك .. الذين يرفضون الخروج من فقّاعتهم المنطقية، أو يعجزون عن ذلك، نتيجة لافتقادهم القدرة على ممارسة التفكير الابتكاري، و عدم توصّلهم إلى أدوات و تقنيات الابتكار .