الاثنين، أغسطس ٠٤، ٢٠٠٨

إعلام عصر المعلومات

ثانيا : الإعــــلام

و الديموقراطية المطلوبة لمصر


بعد التعليم، ننتقل إلى الشق الثاني من دعامات الديموقراطية الجديدة، أعني الإعلام .. كيف يتحوّل إعلامنا إلى أداة لديموقراطية عصر المعلومات ؟ .
في المعادلة التي طرحتها، كان من الضروري أن يتقدّم التعليم باقي عناصر المعادلة، باعتباره الأداة الأكثر أهمّية في تكوين الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، و القادر على ممارسة الديموقراطية الجديدة التي يفرضها عصر المعلومات . فالطفـل الذي يسـتفيد من النظام التعليمي الجديـد، يخرج إلى معترك الحياة بعد عقد أو عقد و نصف من الزمان، بينما لا تستغرق عمليات إعادة البناء في المجالات الأخرى من حياتنا بعض ذلك الوقت . و إذا كان التعليم هو الصناعة الثقيلة في مجال إعداد البشر لعصر المعلومات، فالإعلام هو الصناعة الاستهلاكية، التي لا غنى عنها .
إعلام عصر الصناعة ـ و الذي ما زلنا نأخذ به ـ كان إعلاما جماهيريا، يقـوم على مبدأ النمطية و التوحيد القياسي الذي ساد كلّ شيء في عصر الصناعة . كانت وظيفته الأساسية، نقل أفكار و توجيهات النخبة الرابضة عند القمّة إلى القواعد العريضة عند قاعدة الهرم . كان إعلاما يمضي دائما في اتّجاه واحد، من أعلى إلى أسفل . كانت الأنظمة الحاكمة ـ و ما زالت ـ ما أن تتسلّم الحكم، حتّى تندفع إلى تكوين جيش قوي يحميها من القوى الخارجية، و شرطة قادرة تحكم الداخل، و تضمن استمرار النظام الحاكم .. و في نفس الوقت كانت تحرص على إرساء إعلام مقروء و مسموع و منظور، تتحكّم فيه من خلال رجال إعلام محترفين، يعرفون جيّدا نوايا النظام الحاكم قبل أن ينطق بها، و يبادرون إلى تعميمها، و الدعاية لها . لهذا كانت وسائل الإعلام الجماهيرية تضم أقدر الخبرات في تزوير الحقائق و تلوينها بألف لون، وفقا لرغبات النظام الحاكم، و لعل خير مثال على هذا، تجربة جوبلز في الحقبة النازية بألمانيا.
البشر يتمرّدون على القولبة
ثورة المعلومات، التي ضاعفت التكنولوجيات المعلوماتية من اندفاعها، أتاحت للأفراد مساحة واسعة من المعلومات و المعارف، ليأخذ كل فرد منها ما يميل إليه، و يكون لكل فرد فهمه الخاص لما توصّل إليه من معلومات و معارف .. و هكذا، اختلف الأفراد و تباينوا و تنوّعت معارفهم و أمزجتهم، فخرجوا من قوقعة النمطية و التوحيد القياسي، و غير ذلك ممّا قام عليه المجتمع الصناعي و فرضه على البشر . لقد تمرّد البشر على محاولات القولبة غير الإنسانية التي مارسها عصر الصناعة . فانقضى كل ما يحمل صفة الجماهيرية، التعليم الجماهيري، و الأحزاب الجماهيرية، و أيضا الإعلام الجماهيري .
و عندنا .. مع كلّ هامش الحرية، الذي يتكرّر الحديث عنه، في اللقاءات الرسمية .. ما زال إعلامنا يمضي وفق قواعد الإعلام الجماهيري الذي ساد عصر الصناعة، و الذي فقد مصداقيته، بعد قيام ثورة المعلومات ..

من أجل الحكومة و الشعب معا

في صيف عام 1990، كتبت مقالا في مجلة ( المصوّر )، بعنوان " إعلام جديد لحساب الحكومة و الشعب معا " . قلت فيه، أن العاملين في وزارة الإعلام ما زالوا يتمسّكون بالفهم القديم، الذي يعتبر أن جهد وزارة الإعلام يجب أن يكون لحساب الحكومة، و ينحصر في نقل رؤيتها و قراراتها و توجيهاتها و أخبارها إلى أفراد الشعب . أي أن وظيفتها الأساسية هي أن تعمل من أعلى إلى أسفل فقط .
و قلت فيه " وظيفة وزارة الإعلام يجب أن تكون التخفيف من التناقض الحادث بين الحكومة و الشعب . و هذا التناقض موجود، و سيوجد، ما بقيت مركزية الحكومة على حالها . هذا التناقض، لا ينبع بالضرورة من سوء نيّة الحكومة، أو إهمالها و عدم مبالاتها، و لكنّه النتيجة الطبيعية لعدم قدرة الحكومة .." .
و شرحت هذا قائلا أن النظام البيروقراطي المركزي، يحرم الحكومة ـ أيّ حكومة، و ليس حكومة مصر فقط ـ من التغذية المرتدّة التي تحتاجها من القواعد الشعبية . و للعلم، هذه أزمة مستجدّة لم تواجه حكومات عصر الصناعة بالشكل الحالي . و السرّ في هذا أن الجمهور قد تحوّل ـ و يتحوّل كل يوم ـ إلى جماهير عديدة متباينة التوجّه و المطالب من الحياة، نتيجة لثورة المعلومات . و قلت أن وزارة الإعلام بأجهزتها كالإذاعة و التليفزيون، قادرة ـ بالإضافة إلى الصحافة ـ على تقديم عون جزئي للحكومة في هذا المجال، عندما يعكس لها صورة الواقع المتغيّر على أرض مصر .
الإعلام، نقطة البدء العملية
قلت أن التخطيط لمستقبل مصر على المدى البعيد، لا بد أن يمرّ من خلال ثورة إعادة بناء في مجال النظم التعليمية الحالية . لكن، نقطة البدء لإعادة بناء مصر ـ و الديموقراطية أساسا، و التعليم ضمنا ـ هي ضمان شفافية أجهزة الإعلام من صحافة و إذاعة و تليفزيون، و قدرتها على العمل كموصّل جيد بين مختلف مستويات المجتمع .
كما قلت أن الذي يزيد وضع التناقض بين الحكومة و الشعب سوءا، أن الأحزاب عندنا ـ وطني و معارضة ـ تعاني هي الأخرى من نفس القصور . لو أن هذه الأحزاب كانت أحزابا حقيقية، نابعة من إرادة جماعية لفئات و طبقات، لها قواعدها المحسوسة في الشارع المصري، لكانت قادرة على مساعدة الحكومة في تفهّم طبيعة التغيّرات في خريطة الشارع المصري .. و بديهي أن ما نقوله عن قصور الأحزاب الحالية،ينسحب أيضا على المجالس النيابية التي تتشكّل أساسا من هذه الأحزاب .

الحوار، و دور الإعلام

و أشرت إلى أننا في أشد الحاجة إلى التفكير و الفهم، لأن التفكير القائم على فهم الحقائق هو الذي يقود إلى إمكان رسم إطار رؤية مستقبلية شاملة لمصر، على أساس التغيّرات المستجدة للتحوّل من عصر الصناعة إلى المعلومات .
و قلت أن التفكير الذي أدعو إليه، لا يتبلور إلاّ من خلال الحوار الحرّ الصادق، بين أطراف يتوافر لها الحدّ الأدنى من المعلومات و المعارف المعاصرة . و هو حوار لا يمكن أن يدور في حجرات مغلقة، و ندوات خاصّة، بل لا بد أن يتم بصوت مرتفع، يسمعه جميع الناس، من القيادة إلى القواعد، فيفهّموه، و يدركوا من خلاله بدائل الأفكار، فينحازوا إلى الأفكار التي تجمع بين مصالحهم القريبة، و مصالحهم البعيدة .و أفضل وسيلة متاحة حاليا لتحقيق هذا الهدف، هو أن يتم الحوار على موجات الإذاعة، و قنوات التلفزيون، بالإضافة إلى الجرائد و المجلات .
و لن يصبح هذا مجديا إلاّ إذا تغيّرت العقلية السائدة في وسائل الإعلام، و فهم العاملون فيها طبيعة المهمة الجديدة الملقاة على عاتقهم، و فهموا أن مهمّتهم الحقيقية هي تفجير الأفكار، و ليس قتلها بتسليط قواعد الرقابة العامة و الذاتية عليها .

أقوى من حماس الوزير

تحمّس الوزير صفوت الشريف، فطبع صورا من المقال وزّعها على قيادات الإعلام في الوزارة طالبا منها أن تفكـّر
في طريقة الاستفادة من ذلك الكلام . و يبدو أن النتائج كانت مخيّبة، فاستدعاني مستشار الوزير، و سأل : ماذا نفعل ؟ . قلت نتكلّم، و تتكلّم قيادات الإعلام، لنرى ما الذي يمكن أن يتمخّض عنه هذا الحوار المبدئي . و بالفعل، تم تنظيم مؤتمـر في أحد الفنادق الكبرى، افتتحه الوزير صفوت الشريف، و دعيت إليه قيادات الإعلام .
كانت نتيجة ذلك الجهد، موقف سلبي من قيادات الإعلام، فانتصرت بيروقراطية قيادات الإعلام على حماس الوزير . لقد كان الصمت و الحذر هو الموقف السائد، و يبدو أن قيادات الإعلام تصوّرت أن الوزير ينصب لها فخّا، ليعرف مدى إخلاصها للنظام، فآثرت الصمت ! .. أضف إلى هذا أن رد الفعل الذي أشرت إليه يتكرر كثيرا، بين أفراد من خيرة الناس و صفوة المجتمع، الذين يحتلون المراكز العالية و القيادية، فهم يحجمون عن محاولة الفهم لما يترتب على ذلك من مراجعة أفكار قديمة .. نتيجة لعدم القدرة على متابعة و فهم المستجدات المتلاحقة، و عدم قدرة القيادات الواصلة على الاعتراف بأن فهمها ناقص .. بل و اقتناعها العميق أن ذلك الفهم الذي تتمسّك به، هو الذي خدمها، و أوصلها إلى المركز الذي تجد نفسها فيه ! .