الخميس، فبراير ٢٨، ٢٠٠٨

تنظيمات جديدة لمجتمع المعلومات

أين نحن من حلم الوحدة العربيــة ؟

كلّنا حلمنا يوماً بوحدة عربيّة، أو إسلاميّة، تضم شتات شعوبنا المستضعفة، و تنهي حالة الفرقة التي خلقتها تقسيمات الدول الإستعماريّة المختلفة، على مدى القرون الثلاثة الأخيرة، التي شكّلت عمر عصر الصناعة . و ما زال الحلم يتراءى لنا بين يوم و لآخر، كلما لمسنا ضعفنا في مواجهة الدول الكبرى القويّة، أو خزينا إزاء الإستفزازات التي تقوم بها إسرائيل، و عجزنا عن مواجهتها بما تستحقّه نتيجة لخضوع أمريكا لها .
و في كتاباتنا و مؤتمراتنا نكيل اللوم لقيادات الدول العربية و الإسلاميّة المتناحرة، و التي تعوق قيام أيّ وحدة من أيّ نوع . بعضنا يتصوّر أنّنا كنّا على وشك تحقيق الحلم في حياة جمال عبد الناصر، و أنّه بالإمكان معاودة المحاولة لو ظهر بيننا ذلك الزعيم القوي القادر على تحقيق الوحدة .
و بين الحين و الآخر، كلّما سمعنا أو قرأنا عن خطوات تحقيق الوحدة الأوربّيّة، ثرنا على أوضاعنا، وتساءلنا : كيف تنجح هذه الدول متنافرة الأعراق و العقائد مختلفة اللغات، فيما نفشل فيه رغم وحدة التاريخ و العقيدة و اللغة عندنا ؟! . من المسئول عن هذا الوضع ؟

الزمن هو المسئول

حتّى نفيق من هذه الأحلام، و نسقط المشاعر السلبيّة التي تعوق الفهم السليم للواقع البشري المعاصر، تمهيداً للتحرّك في السبيل الأقوم، أستسمح القارئ في أن أضع أمامه بعض الحقائق، التي قد تبدو للوهلة الأولى إستفزازيّة، ثم أحاول تفسيرها بعد ذلك .
أولاً : منذ منتصف القرن الماضي، لم يعد ممكناً لأحد، لا عبد الناصر و لاغيره، أن ينجح في إقامة شكل من أشكال الوحدة الإندماجيّة، على نسق ما قام به بسمارك في ألمانيا، و غاريبالدي في إيطاليا .
ثانياً : في إطار التغيّرات الكبرى التي يشهدها الجنس البشري، يتغيّر معنى كلّ شيئ في حياتنا، و من بين هذا معنى الوحدة . إندماج الدول يتناقض مع الواقع الحالي و القادم، و الأرجح أنّنا نمضي إلى تفكيك و شرذمة و تجزئة الوحدات الكبرى التي تشكّلت في بدايات عصر الصناعة . أو نحن نمضي-على الأقل- إلى إعادة بناء تلك الوحدات على أساس جديد تماماً
ثالثا : أن محاولات الوحدة الأوربية الحالية، لو بقيت خاضعة لعقليّات الزعماء السياسيين الذين مازالوا يعيشون الواقع التاريخي لعصر الصناعة، من أمثال هلموت كول، فإن مصيرها الفشل، و المشاكل الأخطر.
توضيح هذه الحقائق سيقنعنا أن المسئول عن عدم قيام الوحدة العربيّة هو الزمن و العصر

الوحدة الإندماجيّة، لماذا قامت ؟

الوحدة الإندماجية و الإستعمار، هما إبنان شرعيّان للإقتصاد الصناعي . وحفيدان للإنتاج الجماهيري على نطاق واسع، الذي أتاحته الآلة البخارية .
ما أن ظهرت المصانع الكبيرة، و بدأت إنتاج تدفّق من السلع النمطية، بالآلاف و الملايين، حتّى ظهرت الحاجة إلى التوزيع و التسويق الجماهيري على نطاق واسع . و من هنا، إستعرت المنافسة الإقتصاديّة، التي إقتضت التجمّع في وحدات إقتصاديّة كبيرة تصمد في وجه هذه المنافسة .
و قد إقتضي الكيان الإقتصادي الكبير، كيانا سياسيّاً و إداريّاً كبيرا يحميه . و هكذا، بدأت في أنحاء العالم الصناعي عمليّات الإندماج، و ظهرت "الدولة-القومية" الكبرى، و التي مازالت تسود حياتنا السياسيّة حتّى الآن .
لم تتمّ عمليات الوحدة الإندماجيّة، لمجرّد تحقيق حلم الوحدة القومية، بل على العكس هو الصحيح . قامت الدولة القوميّة لتلبية حاجات الإقتصاد الصناعي . و سخّرت من أجل ذلك جميع الأحلام القوميّة، وأيقظت أبطال التاريخ القومي من قبورهم، بل و أعادت صياغة التاريخ نفسه، لخدمة هذه الدولة الجديدة

إنسحاب أسس المجتمع الصناعي

و منذ منتصف القرن الماضي، ظهرت تكنولوجيّات جديدة، ترسي أسساً إقتصاديّة جديدة، و تستلزم أشكالا جديدة للدولة، بل و تطرح منطقاً جديدا لحياة البشر يختلف تماماً عن المنطق الصناعي .
و هنا أيضاً، بدأت القصًة بتحوّل في طبيعة الإنتاج الأساسي . قضت التكنولوجيّات المعلوماتيّة المتطوّرة، و بالتحديد الكمبيوتر و الروبوت، على أهمّ ركن في الإنتاج الصناعي، الإنتاج الجماهيري على نطاق واسع . أصبح من الممكن إنتاج تنوّع من السلعة الواحدة، بمجرد ضغط زر أو تغيير سطور في برنامج الكمبيوتر، تلبية لتنوّع رغبات الجماهير، و بنفس تكلفة إنتاج السلع النمطية المتطابقة بالملايين .
قاد هذا التغيير الهام، إلى تغيير أهمّ، هو إنقضاء أسطورة الحجم الكبير، و إنتهاء إعتباره السبيل إلى المزيد من الربح و القدرة التنافسيّة . إنقضت هذه الأسطورة بالنسبة للشركة و المؤسّسة، و الحكومة أيضاً

الصغير أقدر و أكفأ

نتيجة التغيّر المتسارع، أصبحت الوحدة الصغيرة أقدر على تلمّس التغيير و التكيّف معه و الإستفادة منه، و خلّفت وراءها المؤسّسات الضخمة المترهّلة تتعثّر في بيروقراطيّاتها، عاجزة عن فهم التغيير و مواكبته بالسرعة المطلوبة . و اضطّرت الكيانات الإقتصاديّة الضخمة إلى أن تعيد بناء نفسها، على هيئة وحدات صغيرة شبه كاملة الإستقلال، أقرب ما تكون للشركات الصغيرة التي تنافسها .
الذي يهمّنا في هذا، و نحن نتكلّم عن الوحدة الإندماجيّة، هو أن مبرّر وجودها التاريخي قد إنقضى . وأصبحنا نمضي إلى إنقسام الكيانات السياسيّة الكبري، و إلى إنسلاخ الأجزاء عن الكلّ، فيما عدا الحالات التي تعمد فيها هذه الكيانات الكبيرة إلى إعادة بناء ذاتها على أسس جديدة، تنسجم مع التغيّرات الجذريّة التي تفرضها مرحلة التحوّل الحاليّة من الصناعة إلى المعلومات.. إعادة البناء إقتصاديّاً و إجتماعيّا و إداريّاًوسياسيّاً و ثقافيّاً .
و هذا هو السرّ في قولي، أن حلم الوحدة العربيّة الذي آمن به عبد الناصر، كان مستحيلا في وقت ظهوره . و ربّما لوكان قد ظهر قبل ذلك بنصف قرن، لوجد حلمه ممكناً .
الذين مازالوا يحلمون حتّى الآن بالوحدة الإندماجيّة، مستندين إلى ما يجري اليوم تحت شعار الوحدة الأوروبيّة، يحسن بهم أن يتبيّنوا حقيقة ما يجري،
و إحتمالاته المستقبلية

ماستريخت و الجهود اليائسة

نشرت صحيفة "الأوروبّي" اللندنيّة مقالا بعنوان " مسيرة إرغامية إلى لا مكان "، يتحدّث عن مستقبل الوحدة الأوروبيّة و توحيد النقد . المقال يتضمّن حواراً مع الكاتب المستقبلي الموهوب آلفين توفلر حول هذا الموضوع .
يقول المحرّر في بداية مقاله،" بينما تعمد الدول الأوروبيّة إلى تضييق الأحزمة، في جهد يائس لتلبية أهداف ماستريخت فيما يتّصل بالوحدة النقديّة، يحذّر المتشكّكون من أن كلّ هذه التضحيات قد تكون بلا فائدة، لأن محاولة بناء سوق واحدة، تقوم على نماذج إقتصادية فقدت معناها " . و يقول أن توفلر من بين هؤلاء المتشكّكين في هذه المسيرة الإرغاميّة إلى لا مكان، و يورد أفكاره في هذ الصدد .
يقول توفلر،"يحاول القادة الأوروبيين تقليد نجاح إقتصاد الموجة الثانية(يقصد عصر الصناعة) في الولايات المتّحدة، في الوقت الذي قد بدأت فيه أمريكا، و غيرها من الدول الديناميكية، الإندفاع إلى الموجة الثالثة(يقصد عصر المعلومات)"، إلى أن يحذّر قادة أوروبا قائلاً : إذا كنتم تسعون إلى إعادة خلق أمريكا الأمس، فامضوا في سبيلكم ..

ماليزيا تسبق أوروبا

يقول توفلر، أن إقتصاد الموجة الثالثة البازغ لا يقوم على الإفتراض الساذج ، الذي يفيد أن المشروعات الإقتصاديّة الكبيرة تثبت بالضرورة أنّها رابحة . التصرّف الذكي حاليّا، هو تصغير الحجم، والتنويع، و إقامة الهياكل غير البيروقراطيّة . إلى أن يقول،"أعتقد أن ماستريخت تخلق شيئا أكثر مركـزيّة و جموداً من الولايات المتّحدة الأوروبيّة . و إنطباعي أن هذا يعكس رغبة التحكّم في ميزانيّة كلّ دولة" .
و في ذلك الوقت، قال توفلر أن أوروبا تتخلّف عن الولايات المتّحدة الأمريكية و دول آسيا، نتيجة تخصيصها موارداً ضخمة للزراعة و صناعات المداخن، على حساب صناعات عصر المعلومات، و هو يتساءل،" لماذا تستورد أوروبا أجهزة الكمبيوتر بشكل أساسي ؟، و لماذا تخطط ماليزيا لإقامة مشروع فائق لإنتاج الوسائط المعلوماتيّة المتعدّدة، خارج كوالا لمبور، يضع مراكز التكنولوجيا المعلوماتيّة الأوروبيّة في وضع مخجـل ؟ . في الوقت الذي يواصل فيه الأوروبيون التمسّك ببناء المصانع ذات المداخن، يتمسّك الآسيويون بالتكنولوجيّات ذات التوجّه المعلوماتي، و بالإندفاع في سبيلها "
* * *
لكن هذه ليست دعوة إلى اليأس . و إذا كنّا نسعى لأن نستفيد من تراكم القدرات العربيّة، فلا بد أن نبحث عن الأشكال المستجدّة في تجميع الطاقات العربيّة، و التي لا تكون من بينها الوحدة الإندماجيّة . وفهم هذه الأشكال الجديدة يتطلّب ، ما أنادي به دائماً، الفهم الأعمق لطبيعة عصر المعلومات الذي نمضي إليه، تلك الطبيعة التي تختلف عن معظم ما زلنا نأخذ به