الثلاثاء، نوفمبر ١٣، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد.. لمجتمع المعلومات


من بوتقة الإنصهار
إلى وعاء سلطة الخضار

النظام الجديد لخلق الثروة، يأتي معه بالتنوّع و اللانمطية الاقتصادية، و بدرجة أكثر حدّة من التنوّع
الاجتماعي . و من ثمّ، يكون على الحكومات الديموقراطية أن تواجه ـ بالإضافة إلى الصراعات التقليدية بين الأغلبية و الأقلّيات ـ حربا معلنة بين الأقلّيات بعضها بعضا . و تحت ضغط نظام الإنتاج الجديد، تتصاعد مقاومة النظام القديم، نظام " بوتقة الانصهار"، نقصد نظام النمطية و القولبة الذي استدعاه صالح المجتمع و الاقتصـاد الصناعي . في كلّ مكان من العـالم، بدأت الجماعات العرقيـة و الدينية و الأقلّيات في المطالبة بحق الاعتزاز باختلافها مع الآخرين، و بترسيخ ذلك الحقّ

كان الاستيعاب، أو الاحتواء، هو مبدأ المجتمع الصناعي . الذي ينسجم مع حاجته إلى قوّة عمل متجانسة . أمّا الاختلاف و التباين و التنوّع، فهي مبادئ و أهداف جديدة، تنسجم مع النظام الجديد لخلق الثروة : وعاء سلطة الخضار

نظام "بوتقة الانصهار"، و غيره من النظم الشبيهة في الدول الصناعية، بدأت تنسحب من الحياة، مفسحة المجال لمبدأ "وعاء سلطة الخضار"، ذلك الوعاء الذي تحتفظ فيه المكوّنات المختلفة بهويّتها
و التوجّه نحو "وعاء سلطة الخضار"، يعني احتياج الحكومات إلى أدوات قانونية و اجتماعية جديدة، تفتقر إليها حاليّا . يحدث هذا، في الوقت الذي تتصاعد فيه احتمالات الاندفاع إلى التطرّف، و العنف المعادي للديموقراطية، و تزداد المعارك سخونة بين الأقاليم و الدول و القوى الدولية العظمى، من أجل الوصول إلى القوّة و السلطة
الديموقراطية الجماهيرية التي عرفها عصر الصناعة، و ما زلنا نأخذ بها، تعتمد على وجود جماهير. فهي تقوم على أساس : حركات جماهيرية، و أحزاب سياسية جماهيرية، و وسائل إعلام جماهيرية . لكن، ماذا يحدث عندما يبدأ ذلك المجتمع الجماهيري في التحوّل إلى اللاجماهيرية، أي إلى التنوّع و التباين و الاختلاف ؟، ماذا يحدث له عندما تبدأ الحركات و الأحزاب و وسائل اإعلام في التشظّي و التشرذم ؟
إذا كانت التكنولوجيا الحديثة المتطوّرة تتيح الإنتاج المتنوّع حسب الطلب، و إذا كانت الأسواق قد تجزّأت إلى أسواق صغيرة متباينة، و إذا كانت وسائل الإعلام تتنوّع و تتعدّد لخدمة جمهـور يتواصل انكماشه بشكل متواصل، و إذا كان بناء الأسرة و الثقافة تصبح بشكل متواصل أكثر تنوّعا و تباينا، فلماذا يواصل الساسة افتراض وجود جماهير متجانسة ؟

صعوبة التراضي العام

كلّ هذه التغيّرات، سواء كانت على صورة نمو للحسّ المحلّي، أو مقاومة للعالمية، أو تنشيط لحماية البيئة، أو تصعيد للوعي العرقي و الطائفي، تعكس التنوّع الاجتماعي المتزايد .. إنّها تشير جميعا إلى اقتراب المجتمع الجماهيري من نهايته
و بإمكان المراقب أن يتبيّن ما يحدث اليوم للحركات الجماهيرية في بعض دول العالم الصناعي المتطوّرة، و كيف أنّها تمضي نحو التفتّت بشكل مطّرد، مع أن تلك الحركات الجماهيرية ما زالت تشكّل عاملا مؤثّرا في حياة أبناء هذه الدول
إنّ ما كنّا نطلق عليه تعبير "التراضي العام"، و الذي عنينا به التقاء الجماهير الواسعة حول وضع ما، يصبح من الصعب تحقّقه في الأيام القادمة، إلاّ في حدود البعض القليل جدّا من الموضوعات ذات الأولوية الأولى

من روزفلت إلى كلينتون

النتيجة النهائية لانقضاء المجتمع الجماهيري، تعتبر قفزة هائلة بالنسبة للتركيب الكلّي للحياة السياسية. ففي مجال السعي إلى الفوز في الانتخابات، كانت مهمّة كبار القادة السياسيين، خلال عصر الصناعة، بسيطة نسبيا
يعقد آلفن توفلر مقارنة بين وضع روزفلت و وضع كلينتون فيقول أنّه في عام 1932، كان بإمكان روزفلت أن يقيم تحالفا بين عدد من المجموعات البشرية : عمّال المدن، و فقراء الفلاّحين، والأمريكيين النازحين من من بلاد أخرى، و المثقّفين . و من خلال هذا، استطاع الحزب الديموقـراطي أن يمسك بمقاليد السلطة في واشنطن، على مدى ما يقرب من ثلث القرن
أمّا اليوم، فإنّ المرشّح الأمريكي للرئاسة، كما هو الحال مع كلينتون مثلا، يكون عليه أنّ يجمع شتات تحالف يتكوّن، ليس من أربعة أو ستّة تحالفات رئيسية، و لكن من مئات المجموعات و الجماعات، التي يكون لكلّ منها برنامجه الخاصّ، و التي يتغيّر كلّ منها بشكل دائم، كما أنّها تظهر و تختفي بشكل متّصل، بحيث لا يزيد عمر العديد منها إلى ما لا يزيد عن شهور، و ربّما أسابيع . و لعلّ هذا هو الذي يضيف سببا قويّا لارتفاع نفقات انتخابات الرئاسة الأمريكية، و ليس فقط ارتفاع تكاليف الدعايات التلفزيونية

ديموقراطية الموزاييك

إنّ الذي يتشكّل يختلف كثيرا عن تلك الديموقراطية الجماهيرية التي عرفناها . إنّنا نمضي بشكل متزايد إلى موزاييك ديموقراطي ، أو " فسيفساء ديموقراطية " . و هي شديدة التنوّع، سريعة الحركة، منسجمة مع بزوغ الموزاييك الاقتصادي، و تمضي وفق قواعده
الديموقراطية التي تعوّدنا عليها، لا تعرف كيف تستجيب للموزاييك الذي طرأ على الكيانات الجماهيرية، و هذا هو ما يجعلها معرّضة بشكل مضاعف لهجمات ما يمكن أن نطلق عليه تعبير :الأقلّيات المحورية

الأقلّيات المحورية

العلماء الذين يبحثون في موضوع الاضطرابات، و عدم الاستقرار و الفوضى، في الطبيعة و في المجتمع، يعرفون أن النظام نفسه ـ سواء كان نظاما كيميائيا أو كان نظام مجتمع أو دولة ـ يتصرّف بشكل مختلف، وفقا لكونه يمر بظروف مستقرّة أو بظروف غير مستقرّة ، أيّ أنّه يستجيب لحالات الاستقرار و درجاته بردود فعل متباينة
اضغط على أي نظام بشكل متزايد، تراه يخرق كلّ قواعده التقليدية، و يتصرّف بشكل شاذ غريب . وهذا يحدث في أيّ نظام، نظام هضمي، أو نظام كمبيوتر، أو نظام المرور في مدينة كبرى، أو نظام سياسي . عندما تصبح أيّ بيئة على درجة عالية من الاضطراب، تتحوّل النظم الخطّية ذات الاتّجاه الوحيد، إلى نظم خطّية متعدّدة الاتّجاهات . و هذا هو الذي يفتح الباب واسعا لظهور الجماعات الصغيرة . ويجعل الديموقراطية التي نأخذ بها غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد، و بصفة خاصّة مع التغيّرات الجذرية المتسارعة التي تتّسم بها مرحلة التحوّل الحالية، من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
و إلى الرسالة القادمة .. لنرى كيف نتحوّل من اقتصاد الشركات العملاقة، إلى اقتصاد البوتيكات