الجمعة، سبتمبر ١٨، ٢٠٠٩

الوهم الثاني

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

ثانيا : وهم إمكان الاعتماد
على الخبرات السابقة

بعد الوهم الأوّل : وهم إمكان التصدّي للمشكلات فرادى، يجيء الوهم الثاني .
الوهم الثاني، هو وهم الاعتماد على الخبرات السابقة في حلّ مشاكلنا الحالية . و معظم التخبّط الذي يعيشه العالم العربي، يعود إلى عدم القدرة على التمييز بين أوراق الماضي الذي انقضى، و بين أحوال المرحلة الانتقالية الحاضرة التي نعيشها، و بين مؤشّرات المستقبل الذي نمضي إليه .
الحدّ الأدنى في هذا المجال، أن يفهم المفكّر العربي خصائص كلّ من مجتمع الزراعة الذي عشنا واقعه لآلاف السنين و ما زلنا نقع في أسره بالنسبة للكثير من قيمنا و أفكارنا و عاداتنا . و خصائص مجتمع الصناعة الذي سادت قوانينه على مدى ما يزيد من قرنين معظم دول العالم، سواء التي تحوّلت من الزراعة إلى الصناعة أو التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية . و أخيرا، التمييز بين ذلك كلّه، و بين واقع مجتمع المعلومات الذي بدأ يفرض نفسه على حياة البشر، منذ ما يقرب من نصف قرن .. بدون هذا التمييز، لن يتمكّن المفكّر العربي من قراءة الأحداث الجارية، و فهم مغزاها .
و حتّى القلّة التي تعترف بزحف حقائق مجتمع المعلومات على حياتنا، كثيرا ما تقع في استخلاصات خاطئة، نتيجة لتطبيق أفكار و مبادئ و عقائد و فلسفات عصري الزراعة و الصناعة المنصرمين، على
مجتمع المعلومات الذي يسود البشر حاليا .

تحيّة العلم، و طابور الصباح

أذكر أن د. حسين كامل بهاء لدين، أحد وزراء التعليم، من الذين يحلو لهم التحدّث عن مجتمع المعلومات و تكنولوجيا المعلومات، أدلى بتصريح عند بداية تولّيه للوزارة، جاء نموذجا للخلط بين القديم و الجديد .
تكلّم الوزير عن أهميّة إصلاح التعليم، و تخليصه من التلقين، و تنقية الكتب المدرسية من الحشو الزائد عن الحدّ .. ثم قال بعد ذلك، ربّما متأثّرا بفاشستية منظمة الشباب التي ترعرع فيها معظم طاقم الوزراء عندنا، أنّه ينوي إعادة الانضباط إلى المدرسة المصرية، موضّحا كيف سيعيد إلى المدارس تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي ! ..
لم يستطع الوزير أن يميّز بين تعليم عصر الصناعة، و بين التعليم المنشود لعصر المعلومات . و قد خلط بين التوجّهات السليمة للتعليم في عصر المعلومات، كتخليصه من التلقين الذي تقتضيه طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الذي يستهدف تعويد التلميذ على إعمال العقل، لكي يكون مؤهّلا لدخول مجال العمل العقلي الذي يسود عمالة مجتمع المعلومات . خلط بين هذا و بين سمات التربية و التعليم في عصر الصناعة، التي عرفنا فيها تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي، و هي مع غيرها من مقوّمات عصر الصناعة تستهدف زرع النمطية التي يستلزمها الإنتاج في المجتمع الصناعي، و تقوم على فهم العمل باعتباره مجموعة من المهام الروتينية البسيطة المتكرّرة، التي لا تستدعي إعمال العقل و تشغيله .

صرح الصناعات الثقيلة

و في مؤتمر شاركت فيه عن مستقبل الإدارة في القرن الحادي و العشرين، وقف وزير الصناعة متحدّثا عن ضرورة اللحاق بركب الدول الصناعية المتطوّرة، ثم أعلن عزمه على البدء في إقامة صرح للصناعات الثقيلة، باعتبار أن هذا هو هدف مصر الصناعي في القرن الحادي و العشرين ! .
كنت أتصوّر أنّه سيتحدّث عن خطط وزارته و استراتيجيتها للبدء في إدخال الصناعات المعلوماتية الجديدة، التي ستحلّ محل الصناعات الثقيلة التي أخذ بها المجتمع الصناعي، رغم غلظتها و استنزافها للمواد الخام و الطاقة و تلويثها للبيئة . توقّعت منه أن يتحدّث عن تشجيع الصناعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا الإلكترونية المتطوّرة، و نشر هذه الصناعات على أنحاء البلاد و إنهاء تكدّس المدن في المناطق و التجمّعات الصناعية، على أساس الاستفادة من مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة أينما وجدت . انتظرت أن يحدّثنا عن خططه للتدريب التحويلي، الذي يجب أن نخضع له العمالة الحالية، لكي تتحوّل من عمالة عضلية إلى عمالة عقلية، تحسّبا لمواجهة البطالة البنيوية الشاملة، التي تأتي بها التحوّلات الحالية في مجالات العمل و الإنتاج و الاقتصاد .
لقد خلط الوزير بين أوراق الماضي و المستقبل .

خلط في شعارات الوحدة و الديموقراطية

و نتيجة لخلط أوراق و أفكار و عقائد الماضي بالمستقبل، نجد من يخلط بين مقتضيات قيام المجتمع الصناعي التاريخية، و ما استوجبته من توحيد للكيانات السياسية الصغيرة في كيان كبير، لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و بين بقايا أحلام بعض العرب بقيام وحدة اندماجية سياسية و اقتصادية بين الدول العربية، لمواجهة أعداء الأمّة العربية، على نسق ما جرى في إيطاليا على يد غريبالدي، و في ألمانيا على يد بسمارك، و في بعض الدول الصناعية الأخرى، في الشرق و الغرب .. و يتواضع البعض الآخر ليطالب بنوع من الاتحاد، يشبه الاتّحاد الأوروبي المعاصر .
هذه الأحلام و المطالبات تكشف عن خلط بين أوراق الماضي و المستقبل .
الفاهم لطبيعة التحوّل السياسي في مجتمع المعلومات، يدرك أن أيّ تجمّع حالي بين كيانات اجتماعية أو سياسية، لا يمكن أن يتم على النسق الهرمي الذي التزم به المجتمع الصناعي كأساس تنظيمي للدولة القومية . بل على العكس من هذا، تفرض طبيعة مجتمع المعلومات أن تقوم الكيانات الأكبر على أساس التنظيم الشبكي، وفقا للمصالح المتبادلة بين الأطراف، و طالما استمرت تلك المصالح قائمة .
سينجح الجهد الحالي لإقامة الوحدة الأوروبية، بقدر ما يسود هذا الفهم بين الدول و الشعوب الأوروبية .. فنحن لسنا بصدد إقامة نظام ولايات أوروبية متحدة، على نمط الولايات الأمريكية المتحدة .
و إلى الوهم الشائع الثالث .. وهم ثبات معاني المصطلحات

الثلاثاء، سبتمبر ١٥، ٢٠٠٩

الوهم الأول

ثمانية أوهام كبرى
تعوق جهود سعينا للتقدّم

من خلال اللقاءات و الحوارات حول المستقبل و الرؤية المستقبلية، مع مختلف المفكّرين و أصحاب الاهتمام العام و الساسة، اكتشفت أن سر فشلنا في الوصول إلى حلول مستدامة لمشاكلنا، لا تتولّد عنها مشاكل جديدة في المستقبل، هو أننا ما زلنا نتمسّك ببعض الأوهام الشائعة التي تعتبر السبب الأول في تخلّفنا، و عدم قدرتنا على تجاوز ذلك التخلّف و اللحاق بركب التطوّر العالمي .
كنت أسأل نفسي دائما :
لماذا مع كلّ الجهد و الإخلاص و رصد الأموال، لا نصل إلى حلول باقية لمشاكلنا ؟ .
لماذا ما نكاد ننتهي من مواجهة مشكلة ما، حتّى نكتشف أن هذه المواجهة قد ولّدت مشاكل مستجدة، غير مسبوقة ؟ .
لماذا لا تتراكم الحلول، لكي تدفع بنا خطوة في سبيل التقدّم ؟ .
و أخيرا، من أين نبدأ في مواجهة هذا الوضع المأساوي، الذي يذكّرنا بأسطورة " سيزييف "، الذي ما كان يتصوّر أنّه قد نجح في حمل الحجر إلى قمّة الجبل، حتّى يجده قد تدحرج إلى أصل الجبل، و أن عليه أن يكرّر المحاولة المرّة بعد الأخرى ؟ .

الأوهام الكبرى ..

يبدأ الحلّ ـ في رأيي ـ بالتخلّص من بعض الأوهام الكبرى الراسخة في تفكيرنا جميعا . و سنورد فيما يلي ثمانية منها، نرى أنّها الأكثر أهمية و خطورة، و هي :
( 1 ) وهم إمكان حلّ المشاكل المختلفة، كلّ على حدة في زمن التغيير الشامل .
( 2 ) وهم إمكان الاعتماد حاليا على الخبرات السابقة .
( 3 ) وهم الاعتقاد بثبات معنى الاصطلاحات و الأشياء .
( 4 ) وهم إمكان الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية سابقة .
( 5 ) وهم إمكان الوصول إلى حلول حقيقية في غياب رؤية مستقبلية .
( 6 ) وهم صياغة رؤية مستقبلية لا تقوم على أساس فهم جوهر التغيّرات العالمية الحالية .
( 7 ) وهم إمكان التعامل مع المتغيّرات العالمية، دون التعرّف على جذورها، و علاقاتها المتبادلة .
( 8 ) وهم إمكان صياغة رؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة .
و كنت قد تقدّمت بورقة حول هذه الأوهام، من خلال جلسات المؤتمر العام لجمعية مستقبل العالم، الذي يعقد بواشنطن كلّ أربعة أعوام . و قد قامت المجلة الفصلية التابعة للجمعية، مجلة الأبحاث المستقبلية، بنشر تلك الورقة، التي أطرح هنا ترجمة مختصرة لها .


(1) وهم التصدّي المنفرد للمشكلة

وهم إمكان التوصّل إلى حلول باقية للمشكلة بالتناول المباشر، دون التعرّف على أبعادها و ارتباطاتها، من الأوهام الشائعة التي نلمسها يوميا في تصريحات المسئولين و رجال الأحزاب، في الجرائد و المجلاّت و التلفزيون و الإذاعة، و الندوات و المؤتمرات .. و دعونا ننظر إلى نموذج متكرّر لهذا الوهم، في مجال مشاكل المرور، و ما يترتّب عليها من ضياع للجهد و الوقت و الطاقة، بالإضافة إلى المزيد من تلويث البيئة . و دعونا نتأمّل كيف يجري التفكير في محاولات حلّ هذه المشكلة، بإقامة الكباري العلوية و حفر الأنفاق، لنكتشف بعد قليل أن ذلك الحل قاد إلى تدفّق المزيد من السيارات على الطرق، و أنّها قد فتحت شهيّة الجمهور إلى اقتناء المزيد من السيارات .
مثل هذه الحلول الجزئية المباشرة لا يمكن أن تعالج جذور المشكلة، ذلك لأن حلّ هذه المشكلة يرتبط بعديد من الجوانب التي قد لا نتصوّر علاقة بينها و بين مشاكل المرور .. و التي منها :
المركزيّة الممعنة :
في مصر، ما زلنا نأخذ بالنظام البيروقراطي المركزي، و بالتسلسل الهرمي للرئاسات، في جميع مؤسّساتنا الحكومية و العامة، و في العديد من الخاصّة أيضا . و هكذا تركّزت قيادات ضروب النشاط الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في القاهرة . صاحب المصلحة ـ أيا كانت تلك المصلحة ـ لا يستطيع أن يبتعد عن قلب القاهرة، حيث تتركّز مراكز اتّخاذ القرار، لكي يكون مطمئنا على متابعة إنجاز أعماله، و حيث تتركّز الخدمات الأساسية و وسائل الترفيه الأكثر جذبا .
محاولاتنا في مجال الحكم المحلّي، و الإدارة المحلّية، لم تصادف نجاحا ملموسا نتيجة لتلك المركزية الممعنة، التي تأبى أن تعيد النظر في نفسها، حتّى بعد أن تخلّت معظم الدول و المؤسّسات المتطوّرة عن النظام المركزي، لتناقضه مع طبيعة و احتياجات مجتمع المعلومات .
اتصل، و لا تنتقل :
مع تطوّر تكنولوجيات الاتّصال و المعلومات، ظهر شعار " اتّصل و لا تنتقل " . إذا كان بإمكانك أن تنجز عمل ما، و أنت جالس في مكتبك أو منزلك، بالاعتماد على وسائل الاتّصال المختلفة من تليفون إلى فاكس إلى كمبيوتر و إنترنيت، فما الذي يجبرك على الخروج إلى الطريق بسيارتك ؟ .
لقد أثبتت الدراسات أنّ 30% من الأعمال، يمكن أن يقوم بها العاملون في منازلهم، دون الحاجة إلى الانتقال إلى مقرّ العمل، إلا في مواعيد متباعدة . و هذا يعفينا من البحث عن سكن في قلب العاصمة، أو قريب من قلبها، أو في ضواحيها اللصيقة، فنختار للسكن مكانا يبعد عشرات الكيلومترات عن مقرّ العمل، أو قيادته، يغلب أن يكون أفضل من الناحية الاقتصادية و الصحّية . وبديهي أن تحقّق هذا رهن بتوفير وسائل الاتّصال المتطوّرة، التي تخفّف الضغط على الانتقالات، و على طرق العاصمة بالتبعية .
وسائل الانتقال العامة :
ومشكلة المرور، تتّصل أيضا بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، التي تخفّف الضغط على استخدام السيارات الخاصّة . و خير مثال على ذلك التوسّع في شبكات مترو الأنفاق، التي تحدّ من استخدام السيارات الخاصّة و العامّة على الطرق .
سياسات الإسكان :
نتيجة لأزمة المساكن، يضطر المواطن إلى استئجار أي مسكن جديد متاح، بصرف النظر عن مدى قربه من مجال عمله، أو عمل زوجته، أو مدارس أولاده . مع أن الأصل في إقامة المجتمعات السكنية الكبيرة، التي تقيمها وزارة الإسكان، أن يشغلها أولئك الذين يرتبطون بأعمال قريبة منها، لكي لا يضّطرون إلى قطع المدينة من شمالها إلى جنوبها، مماّ يضاعف الضغط على الطرق .
بتأمّل هذه العوامل المختلفة، نرى أن حلّ هذه المشكلة، لا يمكن أن نلتزم فيه بالمأخذ الأحادي الجزئي، فالمشكلة تتصل بمسألة المركزية، و سياسة إقامة المشروعات الإنتاجية الضخمة، و سياسات الإسكان عندنا، و بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، و بمدى تطوّر وسائل الاتصال المتاحة للأفراد .
و نفس الشيء ينسحب على تفكيرنا في حل باقي مشاكلنا، في التعليم متواصل الهبوط رغم دعايات المسئولين، و الصناعة التي ما زالت لا تتّفق مع حقائق الأوضاع التجارة العالمية التي ستطبق علينا، كذلك الإدارة و الطاقة و الديموقراطية.. وغير هذا من المشاكل التي لا يفيدنا أن نبحث عن حلول لها معزولة عن الواقع العام الذي تنشأ فيه، و دون أن نفهم العلاقات متبادلة التأثير بين الأشياء و بين النشاطات .

و إلى الرسالة التالية، لنتعرّف على الوهم الثاني الشائع