الاثنين، يونيو ١٥، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

عندما ينتصر السياسي على المفكّر ..

وزير التعليم، و توجيهات الرئيس..

و أربعة ملايين كاد يفقدها مكرم محمد أحمد


كانت قد مضت أيام على تولّي د. حسين كامل بهاء الدين لوزارة التعليم، عندما دعاني إلى لقاء مسائي في الديوان القديم للوزارة، ليناقش معي ما كتبته عن التعليم و الطب . خلال ذلك اللقاء أحسست أنّه لم يقرأ جيّدا ما كتبته، و أنّه منشغل العقل بالوزارة و ترتيباته الشخصية . لقد دخلت ذلك اللقاء متفائلا، و خرجت منه و قد فقدت الكثير من ذلك التفاؤل، نتيجة لإحساسي بأنّه يستجيب لنوازع السياسي، أكثر ممّا يستجيب لدواعي الفكر الموضوعي .
كان ذلك اللقاء الخاص مع الوزير حسين كامل بهاء الدين هو الأوّل و الأخير . فمن خلال كتاباتي عن الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، كنت أتناول مختلف مجالات النشاط البشري، و من بينها التعليم، لكنّي شعرت أنه يستجيب بحساسية مرضية لما أكتبه عن التعليم، رغم قولي أكثر من مرّة أن مشكلة التعليم في مصر ليست من صنع أي وزير من وزراء التعليم

الشكاوى .. و الضغوط !

كلّما كتبت شيئا عن التعليم، كان الوزير يبادر بالشكوى لرئيس التحرير . و للحق، كان رئيس التحرير، الأستاذ مكرم محمد أحمد، يستمع إلى الشكوى، و لا يبلغني بها في أغلب الأحيان . إلى أن واجهني رئيس التحرير ذات يوم، راجيا سحب مقال لي عن التعليم في عصر المعلومات، بدعوى أن الوزير قد توقّف عن توقيع عقد طبع الكتب الملوّنة، المخصّصة لدار الهلال، نتيجة لكتابتي عن التعليم . و قال لي، ما كرّره عضو مجلس الإدارة المنتدب الأستاذ عبد الحميد حمروش، رحمه الله، من أن الدار ستخسر ما يصل إلى أربعة ملايين جنيه، بعدم توقيع الوزير لذلك العقد . و طلب منّي الأستاذ مكرم، تأجيل تقديم الموضوع لما بعد توقيع العقد .
لم أشأ أن أتسبب في هذه الخسارة للدار، فسحبت الموضوع، و لم أعد إلى تقديمه .

خطاب مبارك في احتفال دار العلوم

في الاحتفال بمرور 120 سنة على إنشاء دار العلوم، ألقى الرئيس مبارك خطابا، طالب فيه كل مصري و مصرية بأن يهتم بمستقبل العلم و الثقافة . و من بين التوجّهات الأساسية في الخطاب :
· التعليم و الثقافة في طليعة أولويات و هموم مصر .
· التعليم هو ركيزة التقدّم، و العنصر الذي يحكم قدرتنا على مواجهة تحدّيات العصر .
· المجتمع البشري يشهد في هذه المرحلة من تاريخه ثورة علمية و تقنية هائلة، تمتدّ إلى شتّى جوانب الحياة، و تصوغ تصوّرنا جميعا للمستقبل .
· التحـدّي الحقيقي، هو تنمية قـدرات الطالب الذهنية، بحيث يصبح مؤهّلا لاستنباط المعلومات و تحليلها، و الانطلاق منها إلى آفاق جديدة في الزمان و المكان . و بذلك يصبح أكثر قدرة على التعامل مع هذا العالم المتغيّر .
و في اليوم التالي، استقبل الرئيس وزير التعليم، و طالبه بضرورة تطوير المناهج بما يتماشى مع طبيعة العصر و تحدّياته .

هل يستطيع وزير التعليم ؟

سعدت بتوجّهات الرئيس مبارك، و كتبت معلّقا :
" بداية .. أتّفق مع الرئيس مبارك في كلّ ما استخلصه في خطابه .
و بداهة .. أن هذا الذي يدعو إليه ليس متحققا في التعليم المصري الحالي .
و أمانة .. يعتبر التعليم في مصر، دون نقطة الصفر، حتّى بالمقاييس القديمة .
و هذا يعني .. أن ما نقوله يجب ألاّ يشكّل حساسية ما لدى د. حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم، فليس هو من أوصل التعليم في مصر إلى هذا المستوى المتدنّي، الذي نعاني منه .
و لكن هذا لا يمنع أنّ على وزير التعليم أن يتصدّى لمهمتين في نفس الوقت : الأولى تتعلّق بجهد تنفيذي تقوم به وزارته، من أجل رفع مستوى التعليم المصري إلى نقطة الصفر . و الثانية تتعلّق بجهد فكري علمي فلسفي، يستهدف وضع استراتيجية طويلة المدى لتحقيق الأحلام التي طرحها الرئيس .. " .
و قلت أنّه إذا كانت إمكانات الوزير لا تسمح له بأن يقوم بالمهمّة الثانية، نتيجة للجهد الشاق المطلوب لتحقيق المهمّة الأولى، يصبح من الضروري أن تتكفّل قيادة مصر بالمهمة الثانية، من خلال مجموعة من المفكّرين ـ و لا أقول خبراء التعليم ـ يتوفّر فيهم الفهم الشامل لحقائق العصر، و إدراك الآثار المجتمعية لثورة المعلومات، في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .
ماذا كانت حصيلة هذا كلّه ؟ ..
الاستجابة الوحيدة، كانت مقالا في جريدة الأهرام، كتبه أستاذ جامعي، كان ضمن رجال الوزير في ذلك الوقت، ثم انقلب عليه ! . كان مقال ذلك الأستاذ ردا على مقال لي توجّهت فيه بالحديث إلى د. مصطفى خليـل، مقرّر لجنة الحـوار الوطـني، و كرّرت فيه ما سبق أن قلته من أن التصدّي لإعادة بناء الاقتصاد أو التعليم أو الإدارة، يحتاج إلى رؤية مستقبلية شاملة للتغيير الجذري الحادث في حياة البشر . و في مجال التعليم، قلت أنّ إعادة بناء التعليم لا ينفع فيها التطوير و الإصلاح، بل يحتاج إلى نفس الثورية التي يحتاجها إعادة البناء في مجالات الحياة الأخرى . و تعقيبا على مقال ذلك الأستاذ الذي قال فيه أن الثورة تعبير مستهلك (!)، كتبت مقالا أشرح فيه وجهة نظري، و أناقش بعض ما أورده في مقاله . لكن يبدو أن التوقيت لم يكن مناسبا للكلام عن التعليم، في مرحلة توقيع عقود حصّة دار الهلال في طبع الكتب المدرسية، فرفض الأستاذ مكرم محمد أحمد نشر الموضوع .

بفضل توجيهات السيد الرئيس !!

ظلّ هذا هو موقفي في دار الهلال، أكتب ما أكتبه معبّرا بصدق و صراحة عن آرائي، فيوافق رئيس تحير المصوّر، الأستاذ مكرم محمد أحمد، على النشر، أو يرفض، فيعاد الموضوع إلى، ليدخل ضمن ملف المرفوضات . فقد كنت أدرك أن الدعوة إلى إعادة بناء مصر تحتاج إلى الصبر و النفس الطويل . و لم أعد للكتابة عن مستقبل التعليم، إلاّ عندما قدّم التلفزيون حلقة من برنامج جديد، هو برنامج " واجه الصحافة "، و قد جمعت الحلقة بين وزير التعليم د. حسين كامل بهاء الدين و بعض القيادات الصحفية .
حاول الوزير أن يقصر الحديث على الثانوية العامة الجديدة و القديمة، و على موضوع إضافة سنة إلى التعليم الابتدائي و حاول أن يزيّن حديثه بين الحين و الآخر، بالإشارة إلى الموجة الثالثة و آلفن توفلر و مجتمع المعلومات . و أنا على يقين من أن د. حسين كامل بهاء الدين لو كان قد قرأ يتمعّن كتابات توفلر التي تحدّث فيها عن الموجة الثالثة، لفهم أن النظام التعليمي الحالي، عندنا و عند غيرنا، نظام آيل للسقوط، نتيجة لسقوط كل ما فرضه عصر الصناعة .
الأقل من السياسة و الأكثر من الفكر
كتبت حول هذا، و قلت إن المطلوب من د. بهاء الدين ـ بصفته وزيرا للتربية و التعليم ـ أن يخفّف من اندفاعه تجاه العمل السياسي، و يميل قليلا إلى اتّجاه الفكر، الذي هو مؤهّل له . فمثل هذا التوجّه سيخفّف من التناقض بين ما يقوله و بين ما يفعله . فالمعروف أن السـياسي ـ في جميع أنحاء العالم ـ لا يقول الحقيقة الكاملة، إلاّ فيما ندر .
كان من الممكن أن يتقبّل الوزير كلماتي هذه .. لكن يبدو أنني تجاوزت حدودي ، عندما نصحته في ذلك المقال بأن يخفّف من ترديده لتعبير " توجيهات السيد الرئيس "، خاصّة عندما بتحدّث عن تنظيمات تفصيلية أو فرعية .
قلت في مقالي " أشك في أن هذا يتم بدافع الغيرية و الإيثار .. فهل هو نوع من النفاق ؟، أم هي محاولة للتهرّب من المسئولية ؟ .. إذا ثبت أن قرار لإضافة سنة إلى التعليم الابتدائي لم يكن قرارا صائبا، هل نعفي الوزير من مسئولية اتخاذ القرار، باعتبار أنّه كان من توجيهات السيد الرئيس ؟! .. الذي أفهمه، أن رئيس الدولة ـ أي دولة ـ لا يكون خبيرا في الاقتصاد و التعليم و الإدارة و الصناعة و الإعلام و الثقافة و الصحّة و المواصلات .. و قد ابتدع نظام الحكومة و التمثيل النيابي لتوزيع مسئولية اتخاذ القرار في الدولة الحديثة، التي يتضمّن عملها قدرا هائلا من القرارات . و إذا كانت لرئيس الجمهورية توجيهات، فهي في مجال السياسة العليا و الاستراتيجيات و الرؤى .." .

مكرم، و الباب الذي يجئ منه الريح !

بعد أن نشر الموضوع في "المصوّر"، اكتشفت أنه لغياب الأستاذ مكرم رئيس التحرير، أو انشغاله، لم يكن قد قرأ الموضوع قبل نشره، فلم تتح له فرصة رفض النشر و إعادة الموضوع، لكي أضمّه إلى باقي المواضيع المرفوضة .
و كالعادة، تصاعدت شكاوى الوزير، و انصبّ اللوم ـ غالبا ـ على رئيس التحرير، الذي بدأ على الفور البحث عن سبيل لغلق ذلك الباب الذي يأتي منه الريح .. إلى أن فوجئت ذات يوم بموظف صغير في حسابات دار الهلال يخبرني بأن الأستاذ مكرم قد أنهى عقده معي، و أنني لم أعد أعمل في الدار !
كانت دهشتي كبيرة .. لهذا التصرّف من مكرم، بعد عملي لأكثر من ربع قرن في دار الهلال، جئتها بطلب من الصديق أحمد بهاء الدين، و قبل أن تصل إلى مكرم .. و أرجعت ذلك إلى نقص في الشجاعة منعه من مواجهتي، و ربما إلى بقية من الحياء . المهم أنني لم ألتق به منذ ذلك التاريخ حتى أناقش معه دوافعه ! .
لقد أغلق الباب الذي تأتي منه الريح، فاستراح، و حظي برضا الوزير الغاضب دائما .. فهل بقي هو أوالوزير ؟! .

و إلى الرسالة التالية لاستعراض الوجه المشرق للتجربة