الجمعة، مارس ٠٧، ٢٠٠٨

عن أيّ ديموقراطية نتكلّم ؟

الزلزال الكبير

و ديموقراطية التمثيل النيابي

لقد عمدت الحضارة الصناعية ـ كما رأينا ـ إلى تفتيت المجتمع إلى آلاف الأجزاء المترابطة .. مصانع، دور عبادة، مدارس، اتحادات تجارية، سجون، مستشفيات .. إلى آخر ذلك . و أيضا عمدت إلى تفتيت المعرفة إلى نظم تحتاج إلى إخصائيين أو خبراء ..كما قامت بتفتيت الوظائف إلى شظايا فرعية من العمل، منفصلة عن بعضها.. و فتتت العائلات إلى وحدات أصغر .. لهذا، اقتضى الأمر أن يتولّى أحد ما مهمة تجميع كل ما قام المجتمع الصناعي بتفتيته، في كيان موحّد جديد .
هذه الحاجة، فتحت الباب أمام أنواع جديدة من الإخصائيين أو الخبراء، الذين ينحصر عملهم في الربط بين هذه الجزئيات الجديدة، و تحقيق التكامل بينها . و قد شاع هؤلاء في المجتمع الصناعي : كمنظمين، و إداريين، و منظّمين، و رؤساء، و مديرين .. نراهم في كل عمل خاص أو حكومي، و على مختلف المستويات الاجتماعية .. و استطاعوا أن يقنعوا الجميع بأنّه لا غنى عنهم .
على أساس هذه الحاجة الملحّة للتكامل بين أجزاء المجتمع الصناعي، طلع علينا أكبر كيان تنظيمي معروف، و هو ما عرف باسم : الحكومة الكبرى

الحكومة الكبرى

على نسق هذه الحكومة الكبرى، قامت حكومات أخرى على مختلف مستويات المجتمع، باعتبارها امتداد للحكومة الكبرى . و حتّى في بلاد الاقتصاد الحرّ، ظهرت الحاجة الشديدة للحكومة الكبرى، فهي الأقدر على الإسراع بتطوير السكك الحديدية، و بناء المواني، و شقّ الطرق و القنوات، و تنظيم خدمات البريد و البرق و التليفون و الإذاعة، و وضع قواعد التعامل التجاري، و القيام بالتوحيد القياسي للسوق .. إلى آخر ما تقوم به حكومات المجتمع الصناعي .
و فوق هذه الصفوة من خبراء التكامل و الإخصائيين، ظهرت في المجتمع الصناعي " صفوة عليا "، على مستوى أرفع، هي المسئولة عن تخصيص الاستثمارات . و سواء في الصناعة أو المال، في البنتاجون أو مكاتب التخطيط السوفييتية، تقوم الصفوة العليا بتخصيص الاستثمارات الكبرى، و تضع الحدود التي يعمل في إطارها خبراء التكامل .
و خلال القرن الأخير، في دولة بعد أخرى، هبّ الثوار و المصلحون يحاولون نسف جدار السلطة القائمة، لبناء مجتمع جديد على أساس العدل و المساواة السياسية .. و نجحوا في بعض الأحيان في تسلّم مقاليد السلطة . و مع ذلك كانت النتيجة دائما تجيء واحدة ..ففي كلّ مرّة، و تحت راية الثورة، يتشكّل نظام جديد من الصفوة و الصفوة العليا .. قد تتغيّر بعض الوجوه، لكن البناء الأساسي يعود ليتشكّل من جديد
ذلك لأن المجتمع الصناعي ـ بطبيعته ـ يحتاج إلى ذلك البناء التكاملي .. إلى خبراء السلطة الذين يستقرّون على قمّة ذلك البناء .. و احتياج المجتمع الصناعي إلى ذلك، لا يقل عن احتياجه للمصنع و الوقود و الأسرة النووية .. و كما يقول المفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر : ..فالتصنيع، و الديموقراطية الكاملة ـ التي يبشّر بها البعض ـ لا يجتمعان معا في واقع الأمر ..
ماكينة الانتخابات
لقد انبهر رجال الأعمال و المثقفون الثوريون ـ في بداية عصر الصناعة ـ انبهارا شديدا بالآلة .. و على هذا الأساس أقاموا العديد من نظم حياتهم على نفس الأسس التي تقوم عليها الآلة، و تعمل وفقها . من أهم هذه الابتكارات التي يتحدّث عنها توفلر، لعبة التمثيل النيابي الشائعة، و التي تنحصر مكوناتها في
الأفراد الذين يتسلّحون بأصواتهم
الأحزاب التي تجمع هذه الأصوات
الأفراد، الذين بمجرّد فوزهم بالأصوات يتحوّلون فورا إلى ممثلين أو ( نوّاب ) لأصحاب الأصوات
الهيئات البرلمانية التي يقوم فيها النوّاب بإنتاج القوانين على أساس التصويت
المنفذّون رؤساء، و رؤساء وزارات، و وزراء، الذين يلقمون آلة صنع القوانين هذه بالمادة الخام، على شكل سياسات، و من ثم يفرضون ما يصدر من قوانين
هذه " الماكينة الديموقراطية " لا يقتصر وجودها على المستوى القومي، بل تجدها فيما هو تحته من المستويات الإقليمية و المحلية، حتّى تصل إلى القرى و أصغر التجمّعات السكانية

وهم المساواة و حكم الأغلبية

الحكومة التي تقوم على التمثيل و الانتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحررية لثوار عصر الصناعة و رياداته، كانت تقدما مدهشا بالنسبة لنظم السلطة الأسبق .. كانت نصرا ابتكاريا، أكثر إثارة من الآلة البخارية أو الطائرة . لقد أتاحت هذه الحكومة تتابعا منظّما، يختلف كثيرا عن حكم السلالة الوراثي، و فتحت قنوات الاتصال في المجتمع بين القاعدة و القمّة، و وفّرت طقسا يتيح التعامل مع الخلافات بين الجماعات و الفئات المختلفة على أساس سلمي .
و بحكم تمسّك الحكومة القائمة على التمثيل الانتخابي بمبدأ حكم الأغلبية، و بحقّ كل إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء في استدرار بعض المنافع من خبراء السلطة الذين يديرون آلة التكامل في المجتمع .. لهذا ظهرت حكومة المجتمع الصناعي بمظهر صاحبة الثورة الإنسانية في التاريخ .
و مع ذلك، و منذ البداية الأولى، عجزت هذه الحكومة دائما عن الوفاء بالتزاماتها . و لم تستطع ـ في أي مكان ـ أن تغيّر البناء التحتي للسلطة في الدول الصناعية ( بناء الصفوة و الصفوة العليا، إلى آخر ذلك) . و هكذا، تحوّلت العملية الانتخابية، بصرف النظر عمّن يكسب فيها، إلى أداة ثقافية قوية في يد الصفوة .
و إلى الرسالة التالية لنعرف
لماذا انقضت صلاحية الديموقراطية النيابية؟

الأربعاء، مارس ٠٥، ٢٠٠٨

عن أيّ ديموقراطية نتكلّم ؟

عن أي ديموقراطية نتكلّم ؟

لن أملّ المطالبة بضرورة ضبط المصطلحات مع مرور الزمن، و تحديد المعاني الجديدة التي تكتسبها، في إطار التغيّرات المجتمعية التي تمر بها البشرية . و من بين المصطلحات التي تشتد الحاجة إلى ضبطها هذه الأيام ، مصطلح "الديموقراطية"، الذي تضاعف الإقبال على استخدامه، و ضعفت الرغبة في تحقيق مضمونه .
كنت أسمع إلى برنامج حديث الساعة الحواري، إذاعة بي بي سي العربية، اشترك فيه عدد ليس قليل من مختلف البلاد العربية . كان التخبط و غياب الرؤية هو السمة الغالبة عند المشاركين، و ربما من يديرونه من جانب الإذاعة . لقد اختلطت ديموقراطية بوش التي جاء يفرضها على العراق و أفغانستان، مع ديموقراطية الولايات المتحدة ذاتها، و غيرها من دول العالم الأول .. مع الممارسات السياسية لمختلف الرؤساء و القادة العرب و المسلمين، مع ديموقراطية الإسلام المستنبطة من القرآن و الحديث و سنن الأقدمين .
و بعد قليل من التفكير، انتبهت أن هذا الخلط الفكري يمارسه جميع المساهمين في الأحزاب والنشاط الحزبي، قيادة و قاعدة، بما في ذلك الكيان الملفّق الذي اصطلحوا على تسميته بالحزب الوطني ..
هذا الخلط الناتج عن غياب الرؤية الواضحة لطبيعة تطوّر المجتمعات البشرية، هو الذي يرمينا في أحضان المفاهيم الخاطئة لطبيعة و مستقبل حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و يقود النظام الحاكم إلى الفشل في كل ما يتصدّى له، على مدى العديد م السنين ..
و كان من الضروري أن أبدأ بسؤال هام للغاية :
عن أي ديموقراطية نتكلّم ؟
في بداية عصر الزراعة، الذي ساد حياة البشر لحوالي عشرة آلاف سنة، كان من الممكن تقسيم سكان العالم إلى قسمين : بدائيون، و متحضّرون .
البدائيون : هم لم تصلهم الثورة الزراعية، كانوا يعيشون في قبائل و تجمّعات صغيرة، و يعتمدون في حياتهم على صيد الحيوانات و الأسماك .
أمّا المتحضّرون : فقد استقرّوا حيث انشغل الإنسان بزراعة الأرض . و حينما ازدهرت الزراعة، استقرّ البشر فوق قطعة من الأرض، فقامت الحضارات الزراعية و اضمحلّت، و تحاربت و اندمجت، من الصين و الهند، إلى مصر، إلى المكسيك، إلى اليونان و روما .
وراء الاختلافات الشديدة التي تظهر بين هذه الحضارات، توجد دائما أوجه شبه أساسية :
• في كلّ منها كانت الأرض هي أساس الاقتصاد، و الحياة، و الثقافة، و نمط الأسرة، و طبيعة النشاط السياسي .
• في كلّ منها كانت الحياة تنظم حول القرية . و لم تكن الحدود واضحة تماما بين المقاطعات و الإمارات .
• ساد كلّ منها تنظيم بسيط للعمل، و تبلورت فئات و طبقات محدودة : النبلاء، و رجال الدين، و المقاتلون، و أقنان الأرض أو العبيد .
• في كل منها كانت السلطة شاملة، يخضع فيها الفرد خضوعا كاملا لمصلحة الجماعة . و في كل منها كان مولد الإنسان يحدد وضعه في الحياة .
• كان الاقتصاد غير مركزي، بمعنى أن كل مجتمع كان ينتج معظم احتياجاته .
و بالطبع كانت هناك بعض الاستثناء، فالحياة لا تحتمل مثل هذا التبسيط .. لقد نشأت وسط هذا حضارات تجارية،خاض بحارتها أنحاء البحار، كما نشأت ممالك مركزية للغاية حول نظم الري العملاقة .
على مدى ذلك الزمن الطويل، لم تكن إدارة المجتمع تقتضي الكثير من القرارات العلوية . ففي ظل التقسيم البسيط للعمل، الذي ساد المجتمعات الزراعية، لم يكن مطلوبا البحث عن أشكال ديموقراطية للحكم . لم يكن يشارك في القرارات السياسية و الاقتصادية سوى قلّة محدودة من الأشخاص . و حتّى في أثينا القديمة التي ابتدعت لفظ الديموقراطية، كانت ديموقراطيتهم تقوم لحساب القلّة من السادة، على حساب عبودية الأغلبية . خلال تلك اآلاف من السنين، كان المزارع يعرف بوضوح من الذي بيده مقاليد الأمور في مجتمعه المحدود، الملك أو الإقطاعي أو رجل الدين .. لهذا كانت السلطة شاملة، يخضع فيها الفرد خضوعا كاملا لمصلحة الجماعة، كما يراها الحاكم .

الشورى

لهذا .. كانت " الشورى "، هي الحد الأقصى لمشاركة الآخرين في القرار .. فالحياة مستقرّة، التغيرات محدودة و بطيئة للغاية، و خبرات الأسلاف كافية لأن يتخذ الحاكم ـ بمفرده ـ القرار السليم، في الوقت المناسب . على مدى عصر الزراعة، كان الفرد يولد في أسرة، و ضمن جماعة عرقية، و يعيش حياته كلّها في القرية التي ولد فيها، و كان ما يلتزم به من دين أو عقيدة يفرض عليه من والديه، و مجتمعه المحلي . و كانت معظم الانتمـاءات و الولاءات الأسـاسية تتحـدد عند الميلاد . كما أن هوية الجماعة كانت تظل عادة ثابتة خلال عمر الفرد كلّه ..
من هنا، يمكننا القول بأن " الشورى " كانت الشكل الأمثل للممارسة الديموقراطية، على مدى عصر الزراعة .

عصر الصناعة

ثم كان الزلزال الكبير الذي غيّر كل شيء في حياة البشر، مع بدايات عصر الصناعة، و أرسى أسسا جديدة للحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.. و عندما اندفعت الثورة الصناعية عبر الأرض، تغيرت طبيعة انتساب الفرد إلى الجماعة بشكل كبير .
و بدلا من انتماء الفرد لقبيلته، أو قريته، أصبح مطلوبا منه أن ينتمي إلى دولته . كما أن تقسيم العمل الجديد، الذي أخذ به عصر الصناعة، جعل الوعي الطبقي يضيف شكلا جديدا من أشكال الانتماء .
و عندما مزّقت الثورة الصناعية وظيفة الأسرة،و أوكلت الكثير من مسئولياتها التقليدية إلى مؤسسات جديدة متخصصة، كالمدارس و المستشفيات و الملاجئ، قويت الروابط القومية، بينما ضعفت الروابط المحلية .
كانت الصناعة أكثر من مجرّد مداخن و خطوط تجميع .. كانت نظاما اجتماعيا خصبا له أكثر من وجه، أحدث تأثيرا واضحا على كلّ جوانب الحياة البشرية، التي استقرّت طويلا على امتداد عصر الزراعة .
و برغم ما بين المجتمعات الصناعية من خلافات في اللغة و الثقافة و التاريخ و البنية السياسية .. تلك الخلافات التي بلغ من عمقها أن نشبت بسببها الحروب .. رغم هذا فقد اشتركت جميعها في سمات أساسية عامة واحدة . و قبل أن نتحدّث عن ديموقراطية عصر الصناعة، و التي عرفت باسم " ديموقراطية التمثيل النيابي "، دعونا نستعرض معا ـ بشكل مختصر ـ التغيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية في أوجه حياة عصر الزراعة، لكي نرى بوضوح مصادر الحياة السياسية لمجتمع الصناعة .
التحولات التي أحدثها الزلزال الكبير :
في الطاقة : اعتمد المجتمع الزراعي على ما يطلق عليه الكاتب المستقبلي الكبير آلفن توفلر تعبير " البطاريات الحيّة "، يعني بذلك القوّة العضلية للإنسان و الحيوان، بالإضافة إلى طاقة الشمس و الرياح و الأنهار . بينما استمدّت مجتمعات عصر الصناعة طاقتها من الفحم و الغاز و زيت البترول، و هي نتاج حفريات لا تتجدّد، و واصلت تقدّمها و توسّعها على افتراض أن وقودها الرخيص سيظلّ متوفرا إلى الأبد .
في الإنتاج : في المجتمع الزراعي، كانت البضائع تنتج عادة بأساليب يدوية، قطعة بعد قطعة، و بنفس الطريقة كان يتم توزيعها . لكن عصر الصناعة أحدث انقلابا جذريا في مسألة الإنتاج و التوزيع و التسويق . بحكم التكنولوجيات المستحدثة، مثل الآلة البخارية، و ما وفّرته من طاقة ميكانيكية، و بعد تطورها إلى طاقة كهروميكانيكية، ظهر الإنتاج شديد التدفٌق، على نطاق واسع للغاية، اقتضى أوضاعا جديدة في التسويق و التوزيع .. فشقّت الطرق، و مدّت خطوط السكك الحديدية، و حفرت القنوات .. و ظهرت محلاّت و مراكز البيع الكبرى لأوّل مرّة، و ترتّب على ذلك ظهور وظائف جديدة لشبكات عمال البيع، و بائعي الجملة، و الوكالات و السماسرة، و مندوبي الصناعات .
في التنظيمات الاجتماعية : قبل الثورة الصناعية، كان شكل الأسرة يختلف من مكان لآخر . لكن ما من مكان وصلت إليه الزراعة، إلاّ و مال الناس فيه إلى العيش في بيت كبير، يضم عدة أجيال من الأسرة .. و كان الكلّ يعمل كوحدة إنتاجية اقتصادية واحدة . و مع تحوّل العمل من الحقل إلى المصنع، تغيّر الوضع . و لكي يتفرّغ العامل للعمل في المصنع، حلّت محل الوظائف الأساسية في الأسرة مؤسسات متخصّصة جديدة .. المدارس لتعليم الأطفال، و الملاجئ لرعاية كبار السنّ، و المستشفيات للمرضى، إلى آخر ذلك . و قد تطلّب العمل الجديد قدرة العامل على الانتقال إلى حيث تنشأ الحاجة إليه . و مع الهجرة إلى المدن ـ حيث المصانع و العمل ـ وصلنا إلى ما يطلق عليه " الأسرة النووية "، التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء .
في التعليم : كان من الضروري إعداد الأبناء للعمل في المصنع، فتمخّض هذا عن هيكل مركزي آخر في المجتمع الصناعي، هو التعليم الجماعي، فنشأت ( المدرسة ـ المصنع ) . كان التعليم الجماعي العام يلقّن التلاميذ أساسيات القراءة و الكتابة و الحساب، و شيئا من التاريخ و الموضوعات الأخرى . لكن، وراء هذا كان يكمن منهج خفي يتضمّن ثلاثة دروس هامة : التدرّب على الالتزام بالمواعيد، و طاعة الرئيس، و التعوّد على العمل المتكرّر . و مرجع ذلك إلى أن العمل في المصنع يتطلّب عمالا يصلون إلى خطوط التجميع في مصانعهم في موقت محدّد، و يخضعون لأوامر التسلسل الوظيفي دون استفسار، و يتحملون العمل المتكرر الروتيني المملّ دون احتجاج .

المبادئ الستّة للمجتمع الصناعي

لكل نظام حياة بشرية قوانينه أو شفرته الخفية، التي تخضع لها جميع النشاطات خضوعا مطلقا . و مع سيادة عصر الصناعة أصبح من الممكن اكتشاف ستّة مبادئ أساسية، حكمت حياة الملايين، و جاءت نتيجة للفصل بين الإنتاج و الاستهلاك . دعونا نستعرضها بشكل سريع، لنرى علاقتها بنظام الحكم، وبديموقراطية التمثيل النيابي الناتجة عنها :
المبدأ الأوّل : التوحيد القياسي، أو النمطية . المجتمعات الصناعية التي أفرزت ملايين المنتجات النمطية المتطابقة، تجاوزت النمطية عندها مجال التصنيع، لتنسحب على كل شيء في الحضارة، من نظم العمل، إلى المنشآت العامة، إلى حياة الإنسان . و قد لعبت وسائل الإعلام الجماهيري دورا هاما في تكريس صورة التوحيد القياسي .
المبدأ الثاني : التخصص الشديد . مع تزايد تقسيم مراحل العمل، استبدلت الثورة الصناعية العامل الزراعي الذي
كان يقوم بعدة أعمال متنوّعة، بالعامل صاحب الاختصاص الضيّق الذي يقوم بعملية محدودة واحدة، يظل يكررها يوما بعد يوم .. و هكذا قام الصرح الصناعي على التخصص الضيّق . و قد واكب نظام التخصص هذا، في الشرق و الغرب، موجة صاعدة من الإخصائيين، الذين يتحكّمون في عمليات النشاط المجتمعي .
المبدأ الثالث : التزامن، و ضبط التوقيت . الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك، قاد إلى قيام السوق، المخططة أم الحرّة .. و أصبح الزمن معادلا للمال، و تعلّم أبناء المجتمع الصناعي استخدام الساعة، و التحديد المنضبط للوقت، فكان جرس المدرسة هو المرادف لصفارة المصنع .
المبدأ الرابع : التركيز . ظهور السوق كوسيط بين المنتج و المستهلك، قاد إلى مبدأ التركيز .. تركيز السكن في المدن الكبيرة حول مراكز النشاطين الصناعي و التجاري،و تركيز المجرمين في السجون، و العجزة في الملاجئ، و التلاميذ في المدارس .. و كما جرى تركيز و تجميع العمال في المصانع، تمّ أيضا تركيز رؤوس الأموال في شركات كبرى، و احتكارات عظيمة . و ساد عصر الصناعة حالة من عشق كل ما هو هائل و كبير .. و ساد زعم يقول أن " الحجم الكبير" مرادف "للكفاءة" .
المبدأ الخامس : عشق الضخامة . بهذا المنطق ارتفعت ناطحات السحاب، و أقيمت أضخم السدود، و شيّدت أوسع الملاعب . رأينا ذلك الولايات المتحدة و ألمانيا و بريطانيا . و لم يكن عشق الضخامة بدافع من الحصول على الحدود القصوى للأرباح، فقد ربط ماركس ين " زيادة حجم المنشآت الصناعية "، و بين " زيادة نمو القوى المادية لهذه المنشآت"، و كان أول ما فعله لينين بعد قيام الثورة السوفييتية، هو دمج الحياة الاقتصادية الروسية في أقل عدد ممكن، من أكبر الوحدات الممكنة .
المبدأ السادس :المركزية الممعنة . سعت جميع الدول الصناعية إلى تطوير المركزية، فأصبحت من الفنون الرفيعة ! . و استجابة للمبادئ الخمسة السابقة، كان على المجتمع الصناعي أن ينجز ذلك من خلال أشكال جديدة من التنظيم منية على مركزية المعلومات و القرارات . و كان أثر هذا واضحا في الحياة السياسية، و بشكل أوضح في البلاد الصناعية الماركسية . و انسحب ذاك على المال و الاقتصاد، و كان البنك المركزي رمزا لمركزية المجتمع الصناعي .

* * *

و لكي نفهم طبيعة الممارسة السياسية التي سادت عصر الصناعة، و التي جرت تحت لافتة " ديموقراطية التمثيل النيابي "، و لكي نعرف كيف نشأت، و لماذا لم تعد صالحة للتعامل مع واقع مجتمع المعلومات .. علينا أن نعرف من هم الذين يسيرون أمور البشر، في ظل المجتمع الصناعي .