السبت، سبتمبر ٠٥، ٢٠٠٩

الرؤية المستقبلية لمصر

على من يمكن أن :
ينعقـــد الأمـل ؟

لقد رأينا فيما سبق أهمّية السعي إلى تغيير المفاهيم، وفقا للواقع الجديد الذي نعيشه . و فيما يلي نعطي ـ على سبيل المثال ـ المفاهيم التي يجب أن تتغيّر في بعض مجالات النشاط البشري . و كيف أن المفاهيم القديمة في مجال ما، يمكن أن توصلنا إلى استخلاص خاطئ في مجال آخر .
و لنبدأ بمجال العمل و العمالة ..
نتيجة للتوصّل إلى تكنولوجيات إلكترونية متطوّرة، مثل الكمبيوتر و الإنسان الآلي الذي يعمل بالكمبيوتر، تغيّر مفهوم العمل و العمالة تماما، قياسا على المفهوم الذي ساد قرون عصر الصناعة .
لقد أثبت الروبوت، أو الإنسان الآلي، أنّه قادر على القيام بمعظم الأعمال الروتينية التي يمكن برمجتها، في المصنع و المكتب، و التي كانت تشكّل النسبة العظمى من العمالة في عصر الصناعة . و بعد أن تكفّل بذلك، لم يبق أمام العمالة البشرية سوى الأعمال العقلية التي تقتضي التفكير . عامل عصر المعلومات، قد تراه جالسا أمام جهاز كمبيوتر، يتابع سير العمل الذي تقوم به أجهزة الروبوت، و يتدخّل عندما تظهر مشكلة ما، و يفكّر في بدائل الحلول المتاحة لتلك المشكلة، ثم يختار من هذه الحلول أنسبها لظروف العمل، و يطبّقه ثم يراقب تطبيقه، ليضمن سلامة الاختيار .
هذه صورة عامل اليوم و الغد، و هي تختلف اختلافا جذريا عن صورة العامل و مفهوم العمل، ممّا كان شائعا و مأخوذ به طوال عصر الصناعة .
إذا لم ننجح في تغيير مفهوم العمل و العمالة عندنا، و في ترسيخ المفهوم الجديد النابع من طبيعة عصر المعلومات، فسنقع في أخطاء كبيرة عند التفكير في إعادة بناء مجالات نشاط بشري أخرى، كالإدارة و الاقتصاد و التعليم .

الابتكار .. و تغيير المفاهيم

المفهوم القديـم للعمل، تقوم عليه الكثير من أفكارنا و نظرياتنا و نظم حياتنا الحالية، في مختلف المجالات . و جهد التفكير الابتكاري هو الذي يسمح لنا بإعادة النظر في جميع افتراضاتنا الحالية، للتثبّت من استمرار صلاحيتها، أو لتبنّي افتراضات جديدة مناسبة .
الواقع الجديـد للعمل و العمالة، يضعف قيمة كلّ ما يتحدّث به الخبـراء حاليا، عن البـطالة و أسبابها و كيفية التصدّي لها . لن يفيدنا في مواجهة هذا الواقع الجديد أن نرجع إلى المؤلّفات و النظريات و الخبرات التقليدية . و هذا يعني، أنه إذا أردنا اليوم أن نصل إلى حلّ لمشاكل البطالة المتفاقمة، لا يقودنا إلى مشاكل أكبر، فلا بد أن يقوم هذا الحل على المفهوم الجديد للعمل و العمالة .
و دون الدخول في التفاصيل، يمكننا أن نرى كيف تؤثّر الطبيعة الجديدة للعمل و العمالة على مستقبل الإدارة، و كيف تسقط معظم النظريات الإدارية التي كانت ناجحة للغاية في عصر الصناعة، و كيف تعيد تشكيل مؤسّسات العمل، مسقطة الاعتماد على التنظيم البيروقراطي الهرمي، و مفسحة المجال لعديد من أشكال التنظيمات الشبكية الجديدة، التي تنسجم مع طبيعة العمالة الجديدة .
العامل العقلي الجديد، لم تعد تنفع معه نظم الإدارة بالأوامر، و أصبح صالح العمل يقتضي مساعدته على اتّخاذ قراراته بنفسه . المؤسّسات الكبرى، في الدول المتطوّرة اقتصاديا، استشعرت مبكرا التغيرات المطلوبة التي نشير إليها، و أعادت تنظيم نفسها على أساس جديد، مستغنية عن تسلسل الرئاسات و التنظيم الهرمي التقليدي، و معتمدة على العديد من التنظيمات المبتكرة الجديدة، التي تعتمد أساسا على فريق العمل الصغير المتكامل، حرّ الحركة، شبه المستقل، المتّصل بقيادة العمل مباشرة، دون تدخّل من الإدارات الوسيطة .
كلّ هذا، جاء أساسا نتيجة لتغيّر مفهوم العمل و العمالة في عصر المعلومات .

تعليم جديد، لدعم العمالة الجديدة

و نفس الشيء ينسحب على التعليم، لأنّنا في أشد الحاجة لإعادة بناء نظمنا التعليمية على أساس المفهوم الجديد للعمل و العمالة، فالتعليم يسعى أساسا لسد حاجات العمل في المجتمع . غير أن حظ التعليم يكون دائما أتعس من حظ الإدارة، و خاصة إدارة المشروعات الخاصّة . فالنشاط الاقتصادي الخاصّ لا يكذب على نفسه، و يزعم أن الأوضاع على خير ما يرام، بينما تكون الأزمة واضحة للعيان . لقد بدأ استكشاف السبل الإدارية الجديدة لمجتمع المعلومات، على يد المؤسّسات الخاصة، التي شعرت أن معدّلات نموها لم تعد تحتفظ بنفس النسبة السابقة . إنّها لم تنتظر حتّى تفلس، بل بدأت قلقها و البحث عن حلول لمجرّد أن معدّل رواجها قد بدأ يتناقص . و هذا هو عكس ما يحدث في النشاطات الحكومية .
رغم أن التعليم عندنا قد وصل إلى الحضيض، بالمقاييس التقليدية القديمة، و رغم أننا نثبت كلّ يوم عدم قدرتنا على تحديد أولويات الحركة في إعادة بناء التعليم المناسب للحياة في عصر المعلومات، فإنّنا نجد من يتحدّث ـ متبجّحا ـ عن نهضة علمية، و عن ريادة في هذا المجال تشهد بها جامعات العالم ! .
تعليم عصر المعلومات الذي نطالب بإعـادة بناء التعليم على أساسه، يناسب التحوّل في مفهـوم العمل و العمالة الذي تحدّثنا عنه . التعليم الأساسي الجديـد لمجتمع المعلومات يستهدف توفير عمالة جديـدة، هي العمالة العقلية أو المعرفية، و يستهدف تدريب المتعلّمين على العمل في هياكل غير التي كان يستهدفها تعليم عصر الصناعة .
و هنا أيضا يفشل العديد من الأذكياء، الحريصين على المصلحة العامة، في تبين سبيلهم، و معرفة أولويات إعادة بناء النظم التعليمية الجديدة، نتيجة لأن الأمر يقتضي القدرة على تغيير المفاهيم، و هو أمر شاق ما لم نعتمد على آليات التفكير الابتكاري، التي أشرت إليها من قبل، و ربّما يتاح لي فيما يلي من حديث أن أوردها بشيء من التفصيل .

من أين نبدأ ؟

بعد هذا، نعود إلى السؤال القديم : من أين نبدأ ؟، و من المنوط به أن يبدأ ؟ ..
أقول دائما أننا في حاجة إلى الحدّ الأدنى من الاتفاق على" رؤية مستقبلية " لمصر . و هذا لا يمكن أن يتم بالاعتماد على المفاهيم و المدارك التقليدية الشائعة حاليا .. هذه الرؤية تكون " مستقبلية "، لأنّها تستوعب " مستقبل " التغيير في المفاهيم . و هذا يبيّن ـ ثانية ـ أهميّة الاعتماد على التفكير الابتـكاري، الذي يمكن أن يساعدنا على النظر إلى ما نحن فيه بعين جديدة، تتيح التعرّف على المسالك الجديدة، التي تستوجبها المفاهيم الجديدة .
و نعود مرّة ثالثة إلى السؤال المطروح .... من الذي يمكن أن يبدأ مسيرة رسم الرؤية المستقبلية لمصر ؟ . ما هي الجهة التي يبدأ عندها ذلك الجهد ؟ .
هذا الجهد ـ كما قلنا من قبل ـ يعتمد على المعرفة الشاملة المتجدّدة، غير الغارقة في التخصّص، كما يعتمد على التفكير الابتكاري المنظّم، الذي يتيح النظر إلى أي شيء، و كلّ شيء، بعين جديدة، و بشكل غير تقليدي، يتجاوز النظرة السياسية النفعية قصيرة المدى، التي تسعى إلى تلوين الحقيقة بكلّ ألوان الطيف، وفقا للمصالح القريبة .
استبعاد الاعتماد على الحكومة
بهذا المنطق، يمكننا استبعاد احتمال الاعتماد على الحكومة بوزاراتها و أجهزتها المختلفة . لقد تصوّرت ذات يوم أن بإمكان جهاز المعلومات لخدمة صناعة القرار، التابع لرئاسة الوزراء، أن يتكفّل بالبدء في مهمة وضع إطار العمل الذي يقود إلى صياغة الرؤية المستقبلية لمصر . و قد نبع تصوّري من إدراكي أن تقاليد الحكم عندنا لا تسمح بقبول الرأي المخالف، إذا ما صدر من خارج مؤسّسة الحكم .. تصوّرت أن الجهاز بتبعيته لرئاسة الوزراء يمكن أن يطرح التوجّه المستقبلي، دون خدش للكرامة الوهمية التي تتمسّك بها الحكومة . غير أن التجربة العملية أثبتت لي خطأ تصوّري . فمن الذي بقي لنعتمد ليه ؟! ..
يبدأ الحلّ بالتخلّص من الأوهام التي نحرص على التمسّك بها، رغن أنّها هي التي تعوق تقدمنا .