الثلاثاء، أكتوبر ٢٣، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد ... لمجتمع المعلومات


البضاعة التي فقدت قيمتها

الذين يتحكّمون في اقتصادنا، في الحكومة أو القطاع الخاص، هل يدركون أن ما يتكلّمون عنه كإنجازات اقتصادية، هو نوع من اللعب في الوقت الضائع ؟
و هل يدرك كبار خبراء الاقتصاد عندنا أن خبرتهم الطويلة قد تحوّلت إلى بضاعة فقدت قيمتها ؟
هل نعجز تماما عن النظر إلى ما هو أبعد من مواقع أقدامنا، لنتعرّف على الطبيعة الجديدة، و المنطق الجديد، لاقتصاد مجتمع المعلومات، الذي لا يشبه في شيء ذلك الاقتصاد الذي قامت عليه خبرتهم، و تدور حوله اليوم مناوراتهم ؟
الاقتصاد الجديد، ـكما هو حال الإدارة الجديدة و الممارسة السياسية الجديدة يتحوّل من المركزية و التحكّم المركزي، إلى أقصى حدود اللامركزية . و رغم أن هذا يكون في جانب أولئك الذين ينادون بتحويل القطاع الحكومي و العام إلى القطاع الخاص، فإنّ الفهم الشامل لعملية التحوّل الاقتصادي ضروري، للتعرّف على القيمة النسبية لعملية الخصخصة في النظام الاقتصادي الجديد ، و للتعرّف على أهمّية أن تتمّ هذه الخطوة ضمن تغيّرات جذرية أخرى، في النظام الاقتصادي و المالي و النقدي للدولة
التكنولوجيا الجديدة

سنحاول فيما يلي أن نعطي فكرة عامّة سريعة عن ركائز الاقتصاد الجديد، اقتصـاد مجتمع المعلومات
في زمن سيادة مجتمع المصانع ذلت المداخن، و تألّق أسواق المال، كان رمز العصر هو الإنتاج على نطاق واسع لملايين المنتجات المتطابقة . هذا الرمز يفقد حاليا مكانته كعمود فقري اقتصادي للنشاط الإنتاجي . السرّ في هذا، هو بزوغ التكنولوجيات الابتكارية الجديدة، المعتمدة على الكمبيوتر، و التي أتاحت إنتاج كمّيات صغيرة من بضائع حسب الطلب، وفقا لأمزجة المستهلكين، تتوجّه إلى أسواق صغيرة محدودة .. و كلّ هذا دون زيادة في تكلفة الإنتاج
نفس هذا التحوّل ينعكس على الخدمات المالية، حيث نشهد تنوّع خطوط إنتاج هذه الخدمات بشكل متزايد، مع انكماش زمن حياة المنتج الجديد، من منتجات الخدمة المالية
نحن نمضي إلى اقتصاد عالمي (جلوبال)، يعمل بسرعة فائقة للغاية، تضاهي سرعة انتقال النبضات الإلكترونية . كما يخضع لمبدأ الإنتاج حسب الطلب :مثال هذا تحوّل خدمات البنوك من ساعات العمل إلى خدمات على مدى 24 ساعة في اليوم

من الملموس، إلى الرمزي

إنّنا نمضي إلى اقتصاد فائق الرمزية، و لكي نفهم ذلك دعونا نتأمّل المسار التاريخي للثروة
في عصر الزراعة كانت الثروة ملموسة محسوسة، و محدودة الاستخدام ( بمعنى أن استخدامي للأرض يمنع استخدام الآخرين لها )، و كانت أكثر أشكال رأس المال أهمّية
في عصر الصناعة، كانت الثروة أيضا ملموسة و محسوسة و محدودة الاستخدام ( بمعنى أن استخدامي للآلة أو السلعة، يمنع استخدام الآخرين لها ) . و كانت الخامات و الآلات، بدلا من الأرض، أكثر أشكال رأس المال أهمّية . و رغم أن رأس المال كان مادّيا، فإنّ المستثمر لم يكن يتاح له أن يلمس تلك الآلات أو الخامات التي تقوم عليها ثروته، مكتفيا بلمس ورقة ( سهم أو سند )، أيّ كان مكتفيا برمز لثروته
و مع نمو قطاع المعلومات و الخدمات في الاقتصاد المتطوّر، و الاعتماد على الكمبيوتر في الصناعة ذاتها، أصبح من الضروري أن تتغيّر طبيعة الثروة . في القطاعات الإنتاجية المتطوّرة، لا يتطلّع المستثمر إلى "الأصول الثابتة" التقليدية، كالمصنع و المعدّات و الأرض و المخزون، بل يهتم بعناصر مختلفة من أجل تعظيم استثماره، كالعلاقات و قوّة نشاط التسويق، و مدى الكفاءة التنظيمية، و الأفكار التي تنبض في رؤوس العاملين
هذا التحوّل في رأس المال... ينسف الافتراضات التي قامت عليها الأيديولوجيات الرأسمالية و الاشتراكية،لأنّ كلّ منها قامت على العناصر المحدّدة لرأس المال التقليدي
هذا كلّه يعني أننا نحتاج إلى نظريات اقتصادية جديدة، تتعامل مع اقتصاد رمزي يقوم على المعرفة، التي تختلف عن رأس المال في أنّها : (1) بإمكان عدّة أفراد استخدامها في الوقت نفسه، بعكس الأرض أو الآلة، (2) لا يحدث استهلاك لها، بل تنمو مع زيادة المستهلكين، (3) لا تخضع للاحتكار.
معنى هذا، أن رأس المال يسير في رحلة من الملموس المحسوس، إلى ورقة ترمز إلى أصول ثابتة إلى ورقة ترمز إلى رموز دائمة التغيير، في رؤوس العاملين .. و أخيرا، إلى نبضات إلكترونية ترمز إلى الورق، و هذا هو الاقتصاد فائق الرمزية
و هذه الثورة، تحظى بالمساندة المتزايدة، نتيجة للتغيّرات الثورية في طبيعة النقود . لقد اختفت النقود المعدنية بعد ظهور النقود الورقية، و تحوّلت النقود الورقية بعد ذلك إلى نبضات تعتمد على لغة الكمبيوتر
عمالة جديدة، و بطالة جديدة

هذه هي بعض أوجه الخلاف، بين الاقتصاد الذي ما زلنا نتكلّم عنه جميعا، و بين الاقتصاد الجديد الزاحف، الذي لا بد أن نفهم أبعاده، و نتعرّف على حقائقه الجديدة، تمهيدا لأن نعيد بناء اقتصادنا على أساس هذه الحقائق، إذا رغبنا في أن تكون لنا مكانة في عالم الغد
إلاّ أنّ الأمر لا يقف عند حد هذه الاختلافات التي أوردناها
في عصر الصناعة، كان من الممكن تنشيط الاقتصاد، و خلق وظائف جديدة، لمواجهة البطالة، عن طريق حقن السوق بمزيد من رأس المال، أو بدعم القدرة الشرائية عند المستهلكين . كان هذا الحلّ لمشكلة البطالة ممكنا، لأنّ طبيعة العمل كانت محدودة و عضلية و روتينية، ممّا يسمح بإحلال عامل محل آخر، دون توقّف الإنتاج
أمّا الآن، و في إطار تنامي العمالة العقلية أو المعرفية، و بعد أن تكفّل الكمبيوتر و الروبوت بمعظم الأعمال الروتينية القابلة للبرمجة، في المصنع و المكتب، فإنّ الحلول التقليدية لمشكلة البطالة تبدو غير قابلة للتطبيق .. إلاّ إذا فهمنا الصورة الشاملة للتغيّر ، و نبعت حلولنا من الفهم الجديد لطبيعة الاقتصاد الزاحف
الاقتصاد فائق الرمزية

الاقتصاد الجديد، فائق الرمزية، يقتضي رؤية جديدة للعمالة و الطاقة، و يقتضي في ذات الوقت رؤية جديدة للتقسيم التقليدي للنشاط الاقتصادي، كقطاعات زراعية و صناعية و خدمات . التغيّرات المتسارعة التي نلمسها اليوم في جميع أنحاء العالم، تهزّ جوهر ذلك التقسيم الحاسم
إذا سألنا أنفسنا : ما الذي يقوم به هؤلاء الناس ـ فعلا ـ في هذه الشركات، لتحقيق القيمة المضافة ؟ . لاكتشفنا أن الأعمال في القطاعات الثلاثة تتضمّن المزيد و المزيد من العمليات الرمزية، أو : العمل العقلي
هذا هو مجرّد جانب صغير من ملامح الاقتصاد الجديد، و ما لم نسعى إلى استكمال الرؤية، فإنّنا نعرّض اقتصادنا لهزّات مفاجئة، لا تحمد عقباها
و إلى الرسالة القادمة، لنرى طبيعة عمالة عصر المعلومات