الاثنين، سبتمبر ١٥، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

( 1 ) بداية الحكايـة ..

بين التفكير المستقبلي، و الخيال العلمي

التفكير المستقبلي ليس نوعا من التنجيم و قراءة الطالع .. إنّه جهد عقلاني منطقي ابتكاري للتعرّف على مسار حركة حياة البشر بين الماضي و الحاضر و المستقبل . و عملية التعرّف هذه لا تكون قطعية أو حاسمة، و هي تتوقّف على المنهج الذي يلتزم به المفكّر . بدون الالتزام بمنهج سليم واضح، يمكن أن نصل إلى توقعات خاطئة .
مثال ذلك ما حدث في "نادي روما "، عندما استند إلى منهج رصد التطور، و مدّ الخطوط على استقامتها، بالاعتماد على الكمبيوتر، للتعرّف على مسـتقبل الأوضاع، ممّا تضمنه تقريـره الشهير " حدود للنمو "، الذي ظهر عام 1972 . و قاد هذا إلى توقّعات غير صحيحة، ممّا اضطر النادي إلى الرجوع عن ذلك المنهج . و مد الخطوط على استقامتها، يعني تصوّر إنّ الآتي بالنسبة لظاهرة ما، سيمضي بنفس معدّل نمو تلك الظاهرة في الماضي . و نحن بهذا نتناسى علاقة تلك الظاهرة بغيرها من الظواهر المتغيّرة، كما نتناسى عنصر الصدفة في الحياة .

من أين جاء الخلط ؟

في بدايات اهتمامي بالتفكير المستقبلي، و الكتابة عن المستقبل، وخلال لقاءاتي مع الجمهور، كان يتكرر سؤال من بعض الحاضرين، يسبّب لي انزعاجا : " أليس الحديث عن المستقبل، نوعا من الخيال العلمي ؟ " . و كنت عادة ما أصرّ على توضيح الفرق، و أقول أن الخيال العلمي ينطلق من حقيقة علمية، ثمّ يضخّم من آثارها، ساعيا إلى تجسيد عنصر المفاجأة و الإثارة التي تكسب ذلك النوع من الكتابة جاذبيته .
كنت أتصور أنّني ـ شخصيا ـ السبب في هذا الخلط . فقبل أن هتم بالتفكر المستقبلي، كنت أتابع إنتاج قصص الخيال العلمي، و أستمتع به، و أجمع أحدث ما يظهر من كتب و قصص و روايات في مجال الخيال العلمي، حتّى تأسّست لدي مكتبة كبيرة في هذا المجال . و لعل مرجع هذا إلى دراستي العلمية، و إلى تقديري للعقلية الابتكارية التي يعتمد عليها كاتب هذا النوع من الأدب .
و لعل الخلط قد جاء نتيجة لنشـري ترجمات و ملخّصات، لأهمّ قصـص الخـيال العلمي في الصحف و المجلاّت، ثم إصداري لثلاث كتب تتضمّن مجموعات من أنجح قصص الخيال العلمي، لأهمّ الكتّاب المعاصرين في هذا المجال، مثل إيزاك آزيموف، و آرثر كلارك، و راي برادبوري، و برترام شاندلر .
نتيجة لنقص هذا النوع من الكتب في مكتباتنا، كنت أنتهز فرصة سفري إلى بيروت، و بعد ذلك إلى لندن، لأقتني أحدث ما ظهر من كتب الخيال العلمي . و كما قلت من قبل، لم أكن حتّى ذلك الوقت قد انشغلت بالتفكير المستقبلي .. حتى حدثت المصادفة، عن طريق الخطأ ! .

آرثــر كلارك، و الكوكب الثالث !

في عام 1974، وجدت في إحدى مكتبات بيروت كتابا جديدا لآرثر كلارك، بعنوان " تقريرعن الكوكب الثالث، و تأمّلات أخرى "، فاشتريته باعتباره كتابا من كتب الخيال العلمي .
و كانت المفاجأة الرائعة، أن أجد في كلمات كلارك مدخلا مبهرا للتفكير المستقبلي . الكتاب لا يخلو من حديث عن كتاباته في مجال الخيال العلمي، و عن جهده في فيلم "أوديسا الفضاء 2001 "، لكنه حرص على طرح ما تحقق من أشياء أوردها في قصصه و مقالاته .
مقاله عن " رجال فوق القمر " الذي نشرته مجلة (هوليداي ) عام 1958، و قبل أن يستطيع الإنسان إطلاق أي جسم إلى الفضاء الخارجي، جاءت الأحداث التي تضمنّها مطابقة لما تحقّق بعد ذلك . بل إن المجموعة الأولى من مقالاته التأمّلية بعنوان " تحديات أمام سفينة الفضاء "، التي نشرت عام 1959، قبل عشر سنوات من وضع نيل آرمسترونج قدمه على القمر، تضمنت من التوقعات العلمية الدقيقة ما أثبتته الأيام بعد ذلك .
التكنولوجيا و المستقبل
لكن أكثر ما بهرني في ذلك الكتاب، هو ما جاء في نصفه الثاني من حديث عن الآلة المفكّرة، و عن عصر آلات الإدارة الذاتية، أي التي تدير نفسها، و أثر ذلك على العمل و العمالة، و على انقضاء مصطلحات ذلك الوقت الاجتماعية و السياسية . و كلام كثير ملفت، كقوله أن الألعاب هي البديل الضروري لدوافع القنص و الصيد عند الإنسان، و أن التعليم هو هدف الوجود في المستقبل، و أن الفن هو التعويض عن تشوّهات الواقع، و أن هدفنا في المستقبل لن يكون أن نستكشف، بل أن نفهم و نستمتع .
و في فصل التكنولوجيا و المستقبل يقول " بديهي أنه من المستحيل إن نتنبّأ بالمسـتقبل، , أنا لم يحدث أن عمدت إلى فعل هذا . الذي حاولت أن أفعله، في كتابات الخيال العلمي و غيرها من الكتابات، هو أن أرسم إطارا لمساحات لا بد أن يقع المستبقل داخلها .." .
و كمرشد للمستقبلات المحتملة، يضع آرثر كلارك ثلاثة قوانينن وجدها مفيدة :
القانون الأوّل لكلارك : عندما يقرر عالم متميّز و مسنّ أن شيئا ما يكون ممكنا، فهو يكون في الأغلب على حق بالتأكيد . و عندما يقول أن شيئا ما مستحيل، فالأرجح أنّه مخطئ .
القانون الثاني لكلارك : الوسيلة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن، هي أن تمضي عبرها إلى ما هو مستحيل .
القانون الثالث لكلارك : أي تكنولوجيا متقدّمة بشكل كاف، لا يمكن التفريق بينها و بين السحر .

الباب الواسع للتفكير المستقبلي

كان كتاب " تقرير عن الكوكب الثالث، و تأمّلات أخرى "، بابا واسعا عبرت منه لأوّل مرّة إلى عالم التفكير المستقبلي . لقد فهمت منه كيف يمكن أن يكون الاتصال و الانتقال بديلان، كلما كان أحدهما أكثر تطوّرا قلّت حاجتنا إلى الآخر . قرأت فيه عن قرن أقمار الاتصال، قبل أن يطلق العالم أول واحد منها، و عن أنواع الأقمار الاصطناعية التي سيطلقها البشر، و أثر ذلك على البيت و المدينة و العالم بأكمله .
سعيت بعد ذلك إلى اقتناء كل ما تقع عليه عيني من الكتب التي تتحدّث عن المستقبل و التفكير المستقبلي . و كان أكثر ما أعجبني كتاب " صدمة المستقبل " للكاتب و المفكّر المستقبلي الكبير آلفين توفلر . لقد رسم لي ذلك الكتاب جانبا من الأبعاد النفسية و الاجتماعية و السياسية للتطور التكنولوجي . و مع ذلك، فقد تهيبت الخوض في آفاق المستقبل، من النواحي الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، لنقص خبرتي في تلك المجالات . و آثرت أن التزم جانب الحذر في سعيي، مقتصرا على دراسة المستقبل من الجانبين العلمي و التكنولوجي، مما تؤهّلني له دراستي و تخصّصي .
تركّزت قراءاتي على الكتب و المراجع التي تتناول مستقبل العلوم و التكنولوجيا . و من هنا كان أول كتبي عن المستقبل يدور في ذلك الإطار . كتاب " هذا الغد العجيب " .

الذي لم أكـن أعــرفه ..

في أوّل الأمر، ظهرت مادة كتاب " هذا الغد العجيب " كمقالات في مجلة " المصوّر "، و عندما لاحظت مدى اهتمام القارئ بها، قررت أن أعتمد عليها في إعداد مادة الكتاب، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1984 . طرح ذلك الكتاب استشراف لمستقبل أهم المجالات التي تؤثّر على حياة الأفراد و المجتمعات، على المدى القريب و البعيد .. في مجالات الانتقال و الاتصال و الطاقة و الصناعة و التعليم و هندسة الجينات .
في مجال الانتقال و النقل نجد حديثا عن مستقبل الشوارع المتحرّكة و السيارة الكهربائية . كما نكتشف كيف سينتهي عصر العجلة و الميناء و المطار، و كيف تضع ثورة المستقبل في المواصلات و النقل خاتمة لحياة القطار، الذي عرفته البشرية لحوالي قرن و نصف . و ما يراه بعض علماء المستقبل، من أن القطار سيعرف عصره الذهبي، عندما يبدأ الإنسان في استعمار الكواكب الأخرى التي يسعى إلى استغلال ما بها من ثروات معدنية، يفتقر إليها على الأرض .
و في مجال الطيران، كيف سيستهدف التطور القادم تحقيق سرعة أكبر، و المزيد من الاعتماد على طائرات الإقلاع و الهبوط العمودي، التي يطلق عليها الفرتولات، و التي تحل محل طائرات الهيليكوبتر الحالية . و يقول الكتاب أن العالم قد تحرّك على عجلات لمدة ستة آلاف سنة، غير أن حركة التطـور توحي بأن العجـلات قـد آن لها أن تسـقط عن عرشها، مفسـحة المجال لعصر الحوّامات، التي تسير على حشيّة من الهواء، فوق الماء و اليابسة .
و يمضي الكتاب في تسجيل الأحلام العلمية الأبعد لمستقبل الانتقال، فيطرح أفكار الاعتماد على الجاذبية المضادة .

مستقبل الطاقة و المادة و الاتصال

يتناول الكتاب مخاطر الاعتماد على طاقة الحفريات، و طاقة الانشطار النووي . و كيف أن ما توصلنا إليه بالفعل ـ معمليا ـ من إطلاق طاقة الاندماج النووي، سيتيح لنا في المستقبل ما لا حدّ له من الطاقة، اعتمادا على مياه المحيطات ! . هذا بالإضافة إلى ما حققته البحوث العلمية في مجال استنباط مصادر جديدة للطاقة، كالطاقة الشمسية، و الجوفية، وطاقة الرياح و الأمواج .
و هنا أيضا، يمضي الكتاب إلى استكشاف أفاق أبعد من المستقبل، فيتحدّث عن حلم إرسال الطاقة لاسلكيا، بالضبط كما يحدث مع موجات اللاسلكي و التلفزيون . ثم يمضي إلى الحديث عن استغلال الأشعة الكونية، و المجال المغناطيسي كمصدر محتمل للطاقة .
و بالنسبة لمستقبل الوصول إلى المواد الخام المطلوبة، يود الكتاب عمليات التعدين في الأرض و البحر و الجو . ثم يمضي لما هو أبعد مستقبليا، ليطرح فكرة، أو مغامرة، سحب النيازك والكويكبات، و الاستفادة ممّا بها من ثروة معدنية . كما يورد أحلام " التحوّل العنصري " التي تراود العلماء، أي تحويل عنصر يشيع وجوده إلى عنصر آخر تشتد الحاجة إليه، التي يمكن أن تتحقّق مع تطور علم المستقبل، الذي يمكن أن نطلق عليه اسم "الكيمياء النووية " .
في الفصل الخاص بمسـتقبل الاتصـال، يطرح الكتاب عرضا سريعا لوسـائل الاتصال عبر التاريخ، ابتداء من الحركات و الأصوات، إلى اللغة، و حتّى أقمار الاتصال الاصطناعية . ثم يتحدّث عن انفجار المعلومات الذي تولّد عن ارتباط تلك الأقمار بالكمبيوتر، و حيرة الإنسان في متابعة التضاعف الهائل في حجم المعلومات يوما بعد يوم، التي لم يضع حدّ لها سوى ظهور الكمبيوتر فائق السرعة .
العديد من التطورات التي تحدّث عنها الكتاب في بدايات الثمانينيات، قد تحقّقت اليوم، لكنها كانت تبدو كالعجائب في ذلك الحين، مثال ذلك التليفون التلفزيوني، الذي يتيح رؤية من تتحدّث إليه، و الذي يستخدم حاليا في إجراء اللقاء بين أطراف في أنحاء مختلفة من العالم .

التسيير الذاتي .. و العمالة

يقول الكتاب أن الإنتاج الذي نعرفه اليوم، قد تطوّر فوق التربة الخصبة التي وفّرتها له العلوم الهندسية و التكنولوجية التي وصلتنا من الماضي . و من هنا، يكون علي كل من يسعى إلى تحديد شكل الإنتاج في المستقبل أن يكون قادرا على رؤية كل ما هو جديد، و استشراف ما هو في سبيله إلى التخلّق داخل المعامل و مراكز البحث العلمي .
و يرى الكتاب أن الأوتوماتية، أو التسيير الذاتي للمصانع، هو القطب الذي تنجذب إليه جهود التطوير . فجوهر الإنتاج الصناعي الكبير، هو صناعة الأدوات أو الأجهزة الصناعية، التي تمكّن الإنسان من إنتاج السلع .
و يشرح الكتاب، كيف أن المستقبل سيشهد قفزة هائلة في إنتاج الآلات ذات التحكّم العددي، لتصبح الآلة الواحـدة قادرة على القيام بعشرات الأعمال . و هـذا يقود بدوره إلى سـيادة العقـل الإلكتروني، ليقتصر دور الإنسان على تحديد هدف تلك الآلة .

القنبلة الموقوتــة !

في فصل بهذا العنوان، يتحدّث الكتاب عن عالم غريب في ذلك الوقت، هو عالم هندسة الجينات، و عن جهود العلماء في حلّ شفرة الحياة و الوراثة . و يورد تاريخ تطوّر هذا العلم العجيب، منذ عام 1953، منذ أعلن العالمان واتسون و كريك اكتشافهما لسلّم الحياة الحلزوني، إلى أن عرفنا كيف تعيد مادة (د ن آ) إنتاج نفسها، و حللنا شفرتها، و تعرّفنا على وظائف الجينات المختلفة، و تمكّنا من عزل جينات بشرية نقية، و رسمنا خريطة الجينات، بل و تمكّننا من بناء الجينات اصطناعيا، و تغيير الخصائص الوراثية للخلية الحيّة .
و منذ ذلك الحين، بقيت هذه الكشوف أشبه بالقنبـلة الموقوتة، كلما مضينا في تطبيقاتها، أو في مجرّد التفكير في مستقبلها . و منذ ذلك الحين، اشتدّ الجدل حول مزايا و عواقب هذا الإنجاز العلمي، و بخاصة في مجال الاستنساخ . و منذ ذلك الحين، تحدّث العلماء عن مخاطر تكنولوجيا الاستنساخ، لو وقعت في يد المغامرين أو الطغاة .. و ما زال الجدل قائما ..

مـاذا بعــد ؟

لقي كتاب " هذا الغد العجيب " إقبالا واسعا من القرّاء، و أعيد طبعه أربع مرّات . و كتب الراحل أحمد بهاء الدين في جريدة الأهرام، يلفت النظر إلى أهمية الكتاب في إعداد عقول الأجيال للغد، و اقترح على وزارة التربية و التعليم أن تعمّمه على تلاميذ المدارس .
و حتّى يومنا هذا، كلما التقيت بالشباب العامل في مجال المعلومات و الكمبيوتر، في المؤسّسات أو في جهاز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، راحوا يحكون لي عن أثر قراءة ذلك الكتاب على تفكيرهم، و على تحديد مستقبل دراستهم .
لقد أشرت من قبل أنّني في ذلك الوقت، اقتصرت على تناول أبعاد المستقبل، في الحدود العلمية و التكنولوجية، تهيبا من الخوض فيما هو أوسع من ذلك من مجالات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية . لكنّى، مع مواصلة القراءة و البحث و التفكير، اكتشفت عدم جدوى الإحجام عن فهم الارتباطات القوية بين مختلف جوانب الحياة . و فهمت الذي لم أكن أعرفه، و هو ضرورة التعرّف على العلاقات متبادلة التأثير بين مختلف مؤشّرات التغيير .. و بدأت صفحة جديدة من حكايتي الطويلة مع المستقبل .

* * *

لقد اكتشفت أن مجرّد رصد المستقبل العلمي و التكنولوجي، مع ما فيه من فائدة، لا يفيد في فهم أبعاد التغيير السريع المتلاحق الذي تمر به حياة البشر . كان السؤال الذي يلحّ على عقلي هو : ما هي نتائج التغييرات الحادثة ؟، و إلى أين تمضي بنا ؟ .. و إلى رسالة تالية .