الخميس، أكتوبر ٠١، ٢٠٠٩

الوهم الرابع

ثمانية أوهام تعوق تقدمنا

رابعا : إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

قد يعترض البعض على وصف الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية بالوهـم، و قد يقول البعض الآخر أنه من الصعب تصوّر حياة الإنسان، بدون عقيدة أو أيديولوجية، فأعظم إنجـازات البشرية كانت تقوم على عقيدة معيّنة أو فلسفة خاصّة أو أيديولوجية محدّدة . غير أن الوهـم الذي أتحدّث عنه، هو وهم تصوّر إمكان تطبيق عقيدة أو أيديولوجية، نابعة من مواصفات مجتمـعية معيّنة، على ظروف مستجدّة نابعة من مواصفات مجتمعية مختلفة ..
نحن في حاجة شديدة لمراجعة العقائد و الأيديولوجيات التي شاعت في عصر الزراعة، و أيضا في عصر الصناعة، لنرى مدى توافق السياق الذي خرجت منه مع أوضاعنا المجتمعية الراهنة و القادمة، بكلّ ما تتّسم به من تغيّرات جذرية متسارعة غير مسبوقة .
و نحن نعلم مدى صعوبة تنازل الفرد عن عقيدة آمن بها لسنوات سابقة . و خير مثال على هذا، عقيدة أن الأرض منبسطة ساكنة و أن الشمس تدور من حولها، ما زالت بعد مئات من سنوات التنوير التي كشف فيها علم الفلك طبيعة العلاقة بين الأجرام السماوية، و بعد أن التقطت مراكب الفضاء صورا و أفلاما تظهر الأرض ككرة، تجد من يتمسّك بها في بعض المجتمعات المتخلّفة . و السر في هذا هو أن اقتلاع العقيدة الخاطئة أو التي قد ولّى زمنها يحتاج إلى نوعين من الجهد، في الوعي و اللاوعي معا .

العيب في التطبيق
و من الأمثلة القريبة الواضحة على هذا، الوهم الذي يقع فيه من يقولون بأن الماركسية كعقيدة ما زالت صالحة كأساس للمجتمع البشري، و أن ما حدث من انهيار في الدول الاشتراكية يرجع إلى عيوب و أخطاء في تطبيقها .. و كذلك الوهم الذي يقع فيه من يعتقدون أن سقوط الاشتراكية معناه الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي . إلى هذه الأوهام يعود الكثير من المشاكل و المآسي التي يعاني منها المجتمع البشري حاليا .
الذي قلته ـ أكثر من مرّة ـ في كتاباتي عن المستقبل، هو أن الاشتراكية و الرأسمالية معـا، وجهان لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، بأسسه و مبادئه و عقائده .. و أن تلك العملة قد بدأت تفقد قيمتها و تختفي من التعاملات الحديثة . العمّال الذين تتحدّث عنهم الماركسية، هم عمّال عصر الصناعة : يعتمدون على العمل العضلي البسيط المتكرّر، الذي لا يحتاج إلى تفكير أو إعمال للعقل، و هي نفس صفات عمّال المجتمع الرأسمالي . و المجتمع الذي ترسمه الماركسية هو مجتمع الصناعة الجماهيري، الذي يقوم على التوحيد القياسي و النمطية، و يدار من أعلى وفقا لتسلسل الرئاسات الهرمي المركزي، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي .
فالماركسية بهذا، قامت أساسا لتتعامل مع المجتمع الصناعي، و تلتزم بخصائصه في العمل و الإنتاج و التنظيم الإداري و التركيب الاقتصادي . و هو نفس ما قامت عليه رأسمالية آدم سميث و ريكاردو .
لهذا،بصرف النظر عن سلبيات و إيجابيات هذا أو ذاك، فإن انقضاء عصر الصناعة و الدخول إلى عصر المعلومات، بأسسه و مبادئه المناقضة غالبا مع أسس و مبادئ عصر الصناعة، يجعل تصوّر استمرار الاعتماد على أي من الأيدلوجيتين، في التفكير و التنظيم و التخطيط، وهما كبيرا .
خلاصة القول، لا توجد عقيدة أو أيديولوجية صالحة لكل زمان و مكان . و أكثر أوهام التفكير ضررا، تصوّرنا إمكان حلّ مشاكلنا، و إعادة بناء حياتنا، على أيديولوجية أو عقيدة نابعة من نظام مجتمعي سابق، لم يعد يسود حياتنا .

و إلى الوهم الخامس، و هم التناول الأحادي في زمن التغيير