الأربعاء، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل

أسرار شفرة

المجتمع الصناعي المنصرم

كان فهم جوهر المجتمع الصناعي، سبيلي للتعرّف على جوهر مجتمع المعلومات الذي يحل محلّه . لقد توصّل توفلر إلى أسرار الشـفرة الخفية للمجتمع الصناعي، التي قامت عليها الحياة في عصر الصناعة، و من ثمّ أمكن أن نفهم الإطار العام الذي قامت عليه أوجه النشاط البشري طوال سيادة ذلك المجتمع . و في هذا يقول " عندما اجتاحت الصناعة كوكبنا، أصبح تصميمها الفريد الخفي ظاهرا لنا . و هو يتكوّن من ستّة مبادئ، متبادلة التأثير، التي برمجت سلوك الملايين . هذه المبادئ التي نمت بشكل طبيعي من الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك، أثّرت على كل وجه من أوجه الحياة، من الجنس إلى الرياضة إلى العمل إلى الحرب .." .
هذه المبادئ الستة هي :
النمطية أو التوحيد القياسي. الإنتاج الصناعي على نطاق واسع، اقتضى الأخذ القوي بالتوحيد القياسي، لتصنيع المنتجات التي على نفس النمط، و بأقلّ تكلفة . و نتيجة لنجاح هذا التوجّه في التصنيع، عمد المجتمع الصناعي إلى تعميمه على كل شيء : نظم العمل، المدارس، المستشفيات، القطارات، محطات البنزين، الملابس . و لعبت وسائل الإعلام الجماهيري دورا هاما في تكريس النمطية، و صورة التوحيد القياسي، عندما يرى البشر نفس الصور و يطالعون نفس الكلام . بل لقد مضى المجتمع الصناعي فى هذا، إلى حد محاولة التوحيد القياسي للإنسان، رغم تنافي هذا مع الطبيعة البشرية .
التخصّص الممعن . مع تزايد تقسيم مراحل العمل، استبدل المجتمع الصناعي العامل الزراعي القادر على القيام بعدد من الأعمال، بالعامل الصناعي صاحب الاختصاص الضيّق، الذي يؤدّي عملية واحدة محدودة، و يظل يكررها طوال حياته، دون ما حاجة إلى إعمال العقل .
التزامن، أو ضبط توقيت الأشياء . الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك، قاد إلى فرض التغيير على الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع الزمن . فالنظام الاجتماعي المعتمد على السوق، يصبح فيه الزمن معادلا للمال . و الآلات الغالية لا يمكن أن تترك خامدة، و يجب أن تعمل وفقا لإيقاعها الخاص.. و هكذا تبلور مبدأ التزامن . أصبح من الضروري حساب التزامن بين العمليات المختلفة، و ظهرت أهمّية الضبط الدقيق للوقت باستخدام الساعة، استجابة لصفارة المصنع، أو لجرس المدرسة .
التركيـــز . مع الإنتاج على نطاق واسع، و الاستهلاك على نطاق واسع، كانت هناك ضرورة لظهور السوق كوسيط، و قاد هذا بدوره إلى الأخذ بمبدأ التركيز . تركيز السكن في مدن كبيرة حول مراكز النشاطين الصناعي و التجاري . و تركيز التلاميذ في المدارس، و المرضى في المستشفيات، و العجزة في الملاجئ، و المجرمين في السجون . . و أيضا تركـيز رؤوس الأموال في شركات كبرى، و احتكارات عظيمة، باعتبار أن تركيز الإنتاج يضاعف من كفاءته .
عشق الضخامة . كما خلق الانفصال بين الإنتاج و الاستهلاك حالة من عشق الضخامة، و السعي إلى النهايات القصوى . و ساد زعم بأن الضخامة مكافئة للكفاءة . فارتفعت ناطحات السحاب، و أقيمت أضخم السدود، و شيّدت أوسع الملاعب .. و اندمجت الشركات الصغيرة في شركات كبيرة، حتّى تتاح لها قدرة أكبر على المنافسة الداخلية و الخارجية .
المركـــزية . لقد سعت جميع الدول الصناعية إلى تطوير المركزية . فمن أجل مواجهة التوحيد القياسي للعمليات الإنتاجية و الأجور و برامج العمل، و تزامن العمليات التي تجري على بعد مئات الكيلومترات، و مع خلق التخصصات اللازمة للعمليات و الأقسام الجديدة، و مع تركيز رأس المال و الطاقة و البشر من العاملين، و مع السعي للوصول بحجم شبكة العمل إلى الحدّ الأقصى من الضخامة .. من أجل هذا كلّه كان من الضروري خلق أشكال جديدة من التنظيم، مبنيّة على مركزية المعلومات و القرارات .
و في هذا يقول آلفين توفلر أن عملية التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية، دفعت النظام السياسي نحو المزيد من المركزية، فوضعت واشنطن في يديها عددا متزايدا من مفاتيح القوّة و المسئوليات، و احتكرت يوما بعد يوم سـلطة اتخاذ القرار المركـزي، فانتقلت السـلطة فعلا من الكونجرس و القضاء إلى أكثر السلطات الثلاث مركزية : الأجهزة التنفيذية

هذه المبادئ تفقد صلاحيتها

كلّما تأمّلت أوضاع البشر في عصر الصناعة، وجدت هذه المبادئ الستّة وراء كل نشاط من النشاطات البشرية . و ساعدني هذا على تكوين رؤية شاملة للمجتمع الصناعي . و عندما بدأت هذه المبادئ تهتزّ و تتهاوى، في أواخر القرن الماضي، أدركت معنى التغيرات التي نمر بها . لم تعد مجرّد تغيير هنا و تغيير هناك، بل اكتسبت الإطار العام الضروري، الذي يربط بينها .
من واقع دراستي لمرحلة التحوّل من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، و من خلال تعرّفي على المبادئ الأساسية التي قام عليها لمجتمع الصناعي، بدأت أفهم طبيعة مرحلة التحوّل التي يمر بها البشر حاليا . كما استطعت أن أميّز بين الظواهر الناتجة عن مقاومة أصحاب المصلحة في بقاء نظم المجتمع الصناعي، و محاولة استنزاف آخر مكاسبه، و إطالة عمره، و بين الظواهر الصحّية الناتجة عن مقدم المجتمع الجديد، مجتمع المعلومات .
و بقي سـؤال مهم، كيف فقدت تلك المبادئ الراسخة صلاحيتها ؟، كيف انهار النظام الصناعي
الذي دام في أوج قوّته لما يزيد عن قرنين ؟ . كان من المهم أن نجد إجابة على هذا السؤال، قبل أن نبدأ التفكير في طبيعة النظام الجديد الذي يحلّ محل النظام الصناعي، و قبل أن نسعى إلى التعرّف على المبادئ الجديدة، التي ستحل محل المبادئ الستّة للمجتمع الصناعي .
البشـر .. و المعلومات
رغم اقتناعي بأن التحوّلات الكبرى في حياة البشر، لا يمكن إرجاعها إلى عامل واحد أو عاملين، بل إلى العديد من العوامل المرصودة و غير المرصودة، التي تتبادل التأثير فيما بينها، غير أنني اكتشفت أن العلاقة بين البشر و المعلومات هي حجر الزاوية في تحولنا من المجتمع الصناعي إلى المجتمع الجديد .
و كان من الواضح أن التكنولوجيات المتطوّرة في مجالي الاتصال و الكمبيوتر، هي التي قادت إلى تغيير علاقة الإنسان بالمعلومات، و خلقت ما نطلق عليه " ثورة المعلومات " .
· لقد أتاحت تكنولوجيا المعلومات و الاتصال المتطوّرة حصول البشر على قدر من المعلومات، لم يكن يتيسّر لهم من قبل .
· و مع استقبال الإنسان لهذا التدفّق من المعلومات، يختار منها ما يتّفق مع أهدافه و استعداده، و من ثمّ يتباين الأفراد في أفكارهم و مواقفهم، و هذا يقود إلى تباين أساليب حياتهم .
· هذا التباين بين الأفراد، يخلق بطبيعته المزيد من المعلومات و المعارف .
· و مع المزيد من التطوّر التكنولوجي في مجال المعلومات ( كمبيوتر ـ اتصالات )، يتم استيعاب المعلومات المتدفّقة، و تتولّد عنها معلومات و معارف جديدة .
· و هذا يقود بدوره إلى المزيد من تباين البشر، و من ثمّ المزيد من المعلومات ..

ثم كان لقاء ساليزبورج مع المفكر المستقبلي الياباني ماسودا .