السبت، أبريل ٠٤، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل


حكايتي مع المستقبل

أفيقــوا … يرحمــكم الله


في يونيو عام 1992، ظهرت الطبعة الأولى من كتابي " أفيقوا يرحمكم الله .. كيف يجب أن يفكّر الإنسان العربي في مستقبل : التعليم، الإدارة، الاقتصاد، الممارسة الديموقراطية، الإعلام " .
لا أعرف لماذا صدّرت الكتاب بنداء !!، ربّما كان هدفي أن أستنفر القارئ، من أجل أن يتحـقّق له الفهم المنشود للمستقبل . فماذا قال هذا " النداء " ؟ .
" ما أقوله يتناقض مع يسوّد صفحات الجرائد و المجلات عندنا، و ما يشغل موجات البثّ الإذاعي و التلفزيوني، و مع ما يتدفّق من تصريحات السياسيين و المسئولين، و مع ما تختال به صفوة المفكّرين و الخبراء في بلدنا خلال المؤتمرات و الندوات .. إنّني لا أستعذب النفخ في قربة مقطوعة ـ كما يتصوّر البعض ـ و لكنّي أومن أن إصراري على إيقاظ النيام، و كشف الزيف و التدليس، و إدانة الكسل الذهني، يؤتي ثماره بالتدريج البطيء، الذي يتناسب مع جهدي الفردي المتواضع، الذي لا يستند إلى جماعة أو هيئة أو مؤسّسة أو حزب، أو حتّى شلّة، في مواجهة أغلبية لا تريد أن تفيق، و لا تريد أن تتبيّن الهوّة التي تنتظرها، و هي تمضي كالسائر في نومه، تلك الهوّة التي تزداد عمقا و اتّساعا مع مرور الأيام، بفضل تسارع التغيّرات التي يمرّ بها الجنس البشري . إلى القلّة الضـئيلة التي بدأت تنتبه إلى الواقع الذي أكتب عنه أقول : فكّروا و ناقشوا و اطرحوا جانبا كل ما اعتدتم سماعه من آراء و أفكار تقليدية، و تماسكوا لتنجحوا في نقل رؤيتكم إلى الآخرين .. و إلى السائرين نياما أقول : أفيقوا يرحمكم الله ! " .
تحاشي الأخطاء الشائعة
و في نهاية مقدمة الكتاب، قدّمت للقارئ جانبا من الأخطاء التي علينا أن نتحاشاها، لكي نفهم حقيقة الواقع و المستقبل :
· اعتبار أن الآتي هو المزيد ممّا كان، إيّ أن الذي يحدث في العالم اليوم هو مجرّد تغيّر كمّي يخضع لنفس القوانين السابق تطبيقها .
· تصوّر أنّه من الممكن النظر إلى كل ظاهرة، و دراستها بشكل جزئي، بمعزل عن باقي الظواهر المتزامنة .
· استخدام الكلمات و الاصطلاحات بمعناها القديم، دون الاتفاق على مضمونها الجديد .
· الانطلاق من أيديولوجية أو نظرية أو عقيدة سابقة، نبعت من ظروف مجتمعية مختلفة .
· تصوّر إمكان دراسة الظاهرة كما هي، دون الرجوع إلى جذورها، و استشراف مستقبلها .
· الاكتفاء بمجرّد حصر مؤشّرات التغيير في كل مجال من مجالات الحياة دون تفهّم العلاقات المتبادلة، القائمة بين هذه المؤشّرات .
· محاولة رسم مستقبل نشاط ما، في غياب رؤية شاملة، تربط بين هذا النشاط و غيره من النشاطات .

دعوة إلى الوضوح الفكري

و كنت واضحا فيما أحاول تقديمه في هذا الكتاب، فقلت أن ما سأفعله في الصفحات التالية، هو أن أطرح نماذج من التفكير في بناء مختلف نشاطات حياتنا، على أساس مؤشّرات التغيير التي تقود إلى مجتمع المعلومات . و أننّي اخترت في عنوان الكتاب تعبير " كيف يجب أن يفكّر الإنسان العربي في المستقبل"، و لم أقل كيف نحقّق المستقبل على أرض الواقع ـ فمجال ذلك حديث آخرـ باعتبار أن الوضوح الفكري، و شمولية النظرة، هما السبيل إلى جهد الاستشراف الناجح .
بعد أن طرحت الأسس التي يقوم عليها مجتمع المعلومات، قمت بتطبيق المنهج الذي توصّلت إليه على عدّة مجالات . و كان من الطبيعي أن أبدأ بالتعليم في مجتمع المعلومات، لإحساسي بأن التعليم يجب أن تكون له الأولوية، باعتبار أن التلميذ الذي يدخل اليوم إلى النظام التعليمي الجديد، يصبح ضمن القوى المنتجة في المجتمع بعد حوالي 15 سنة، هي سنوات الدراسة المختلفة .
ثم أجريت تطبيق على مستقبل الإدارة في مجتمع المعلومات، و كيف أن التحوّل إلى المجتمع الجديد أسقط الأسس الإدارية التي كانت ناجحة و محقّقة للنمو، و أحلّ مكانها أسس جديدة للنظم الإدارية، تناقض مع الأسس القديمة . الشركات الكبرى في الدول المتطوّرة تكنولوجيا، أحسّت بعمق التحوّل الحادث، و بدأت في ابتكار نظم إدارية جديدة، على أساس الواقع الذي فرضه عصرالمعلومات، فاستطعت تقديم أمثلة عملية، تدعم الطرح النظري الذي قمت به .
ثم أجريت نفس التطبيق على مجال الممارسة الديموقراطية، و السر في التحوّل من الديموقراطية إلى ديموقراطية المشاركة . و كذلك على مجال الإعلام الجماهيري، الذي تلقّى أكثر الضربات تأثيرا، نتيجة لتفتّت الجماهير، و تحوّلها إلى مجموعات متمايزة .
كما أجريت بعض التطبيقات الأخرى، عن مستقبل المـرأة في مجتمع المعلومات، و مسـتقبل حروب عصر الصناعة، و مستقبل فكرة الوحدة العربية، و استحالة تحقّق الوحدة الإندماجية .

اقتصاد مجتمع المعلومات

كان من الطبيعي أن أبدأ بالاقتصاد، عند طرح تصوّراتي لمجالات النشاط البشري الأخرى في مجتمع المعلومات، باعتباره من العوامل الأكثر أهمّية في حياة الشعوب، و لأنّه يضرب بجذوره في جميع المشاكل المعاصرة، على امتداد العالم . إلاّ أنّني آثرت أن أمهّد لذلك بطرح التطبيقات الأخرى، حتّى يتأكّد القارئ أننا بصدد عملية إعادة بناء شاملة، و ليس مجرّد تحسين و تجويد و تطوير لما هو قائم، أو مأخوذ به . و ربّما لصعوبة موضوع الاقتصاد بالنسبة للقارئ، و بالنسبة لي شخصيا .
و لكي أرسم صورة عريضة لاستشـراف اقتصـاد المعلومات، طرحت آراء و أفكار عدّة مفكّرين مستقبليين، جون ناسبيت، الذي يعتمد على تحليل مضمون كلّ ما يقال و يكتب، لتحديد المؤشّرات التي ترسم إطار الاقتصاد الجديد . ثم قدّمت رؤية أعمق للمفكّر المستقبلي الكبير بيتر دراكر، أستاذ الاقتصاديات و الفلسفة، و الذي يطلق عليه أيضا لقب " رائد الإدارة الحديثة " .. و استفدت كثيرا من آراء و طريقة تفكير المفكّر المستقبلي الرائد آلفين توفلر .
و ختمت حديثى عن اقتصاد المعلومات بطرح الرؤية المتميّزة للأستاذ الرياضيات، و المفكر الياباني كاورو ياماجوشي . لقد التقيت هذا المفكّر المستقبلي في برشلونة، بأسبانيا، ضمن المشاركين في مؤتمر من مؤتمرات جمعية دراسات المستقبل . أثناء فترة تناول الغذاء بين جلسات المؤتمر، كنت أجلس معه نناقش أفكارنا عن المستقبل، فأعجبني فكره المنظّم، و رؤيته الواضحة، فسألته إذا ما كان له كتب بالإنجليزية، قال أن المتوفّر بالإنجليزية الآن دراسة عن اقتصاد مجتمع المعلومات، و لكنّها مجموعة أوراق و ليست كتابا، و هي تباع في مكتبة المؤتمر، فاشتريتها . عندما عدت إلى القاهرة، قرأتها، و دهشت لمستواها الفكري المرتفع، فطرحت هذا كلّه في الفصل الخاص باقتصاد المعلومات من كتابي .
حظي كتاب " أفيقوا يرحمكم الله " بترحيب من بعض الكتّاب الجادين، في مصر و لبنان و الخليج . و عندما نفذت الطبعة الأولى، رفضت دار الشروق تقديم طبعة ثانية، و دون إبداء الأسباب . اندهشت، و لم أدرك في ذلك الوقت سرّ هذا الموقف، فعلاقتي بالدار ترجع إلى منتصف الثمانينيات، و معظم كتبي نشرتها الدار في طبعات متكرّرة، تزيد عن الخمس . لم أدرك أن هذا الموقف كان أحد حلقات الحصار الذي واجهته، نتيجة لتصادم الفكر مع الحساسيات الذاتية، و الغوغائية السياسية .

و إلى الرسالة التالية، حتّى أستعرض لكم خصوم المستقبل الذين صادفتهم في مسيرتي .