السبت، أكتوبر ٢٥، ٢٠٠٨

حكايتي مع المستقبل


توفلر.. و صدمة المستقبل

كنت في حاجة إلى فهم آليات التغيّر، التي تنقل البشر من طريقة حياة، إلى طريقة أخرى تختلف في كلّ شيء عن سابقتها . و فهم لمسببات التغيّرات الكبرى، التي تنقل البشر من نمط مجتمعي إلى نمط آخر . كانت لديّ بعض الأفكار المتناثرة، لكنّها كانت تفتقر إلى الإطار العام الذي يجمعها، و يتيح للرؤية المستقبلية أن تكون واضحة، تسمح بأن نستنبط منها مستقبل أي ظاهرة، أو نشاط بشري .. و لم يحدث ذلك قبل أن ألتقي بصاحب " الموجة الثالثة "، المفكّر المستقبلي الملهم آلفن توفلر .
و الحق، أنني قرأت توفلر قبل ذلك بسنوات عديدة، في كتابه الشهير " صدمة المستقبل " . و رغم إعجابي بالموضوع و الكتاب و الكاتب، إلاّ أنني لم أكن قد بدأت اهتمامي المنظّم بالمستقبل، و هكذا واصلت قراءاتي في موضوعات اهتمامي السابقة . و فيما بعد، أدركت أن ذلك الكتاب بقي كامنا في لاشعوري، مستقرّا في ذاكرتي، يفعل فعله دون أن أشعر .

الموجـة الثالثـة

في بداية الثمانينيات، من القرن الماضي، قرأت كتاب " الموجـة الثالثـة "، للمفكّر المستقبلي الكبير آلفن توفلر، ففتح أمامي باب فهم المسيرة الحقيقية للتاريخ البشري واسعا .عندما كنت أطرح رؤيتي لمجتمع الغد في الاجتماعات و اللقاءات، كنت أجد من يقول لي مستنكرا " من أين جئت بتشخيصك لمجتمع الغد، أو مجتمع المعلومات كما تسمّيه ؟، أذكر لنا دولة واحدة أو مجتمعا واحدا تنطبق عليه مواصفات المجتمع الذي تتحدّث عنه .." . كان من الصعب أن أقدّم إجابة عن ذلك التساؤل، و نحن في وسط دوامة التحوّل، من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . من كتاب " الموجة الثالثة "، وضعت يدي على المنهج السليم، الذي يدعم تصوّراتي لمجتمع المعلومات، و القوانين التي تحكمه . و بفضل ذلك الكتاب، بدأت دراسـة أقرب مراحل التطورات الكبرى، في حياة البشر : التحوّل من حياة الزراعة إلى حياة الصناعة .
تعبير "الموجة "، الذي اختاره توفلر، يعفيه من تعبير " حضارة "، أو " عصر "، سعيا إلى الوضوح الذي قد تؤثّر عليه الارتباطات التاريخية و الإقليمية و القاموسية للتعبيرات الأخرى . في كتابه هذا، يتحدّث عن موجات تحوّل كبرى يمر بها البشر على سطح الأرض، تحدث تغييرات جذرية في كل شيء، في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و تقوم على ابتكار تكنولوجيات كبرى عميقة التأثير . الموجة الأولي صنعت الحياة الزراعية، و الموجة الثانية صنعت الحياة الصناعية، أمّا الموجة الثالثة فهي التي تصنع حياة المعارف و المعلومات .

ثوابت المجتمعات البشرية

بدأت أركّز على دراسة المجتمع الزراعي، و نمط الحياة الذي يتأسّس في أيّ مجتمع زراعي مستقرّ على سطح الأرض، في أي مكان من العالم . و رغم خصوصية المجتمعات الزراعية في مختلف بقاع الأرض، فقد استطعت أن أصل إلى الثوابت المشتركة بين هذه المجتمعات، الثوابت التي ترسي أعمق الخصائص في المجتمع .. إيقاع حياة الفرد، و طبيعة عمله و حدود الاقتصاد السائد، و العلاقات التي بين أفراد ذلك المجتمع، و نوع الأسرة و تركيبها الخاص، و حدود مسئولية اتخاذ القرار، و القيم و المبادئ و العقائد التي تحكم حياة الأفراد في المجتمع الزراعي، و التي تكون واحدة، سواء كان ذلك في جنوب آسيا أو وسط أفريقيا، أو في بلدان أوروبا و أمريكا . لقد دامت هذه الثوابت على مدى العمر الطويل للمجتمعات الزراعية، و الذي بلغ ما يقرب من عشرة آلاف سنة .

مرحلة التحوّلات العظمى

ثم انتقلت إلى دراسة أقرب مراحل التحوّل العظمى، مرحلة التحوّل من الزراعة إلى الصناعة . و سعيت إلى فهم التكنولوجيات الأساسية التي فجّرت ذلك التحوّل،و آثارها على حياة البشر في المجتمعات الصناعية، أيّا كان مكانها، في الغرب أم الشرق، في الشمال أم الجنوب . آثارها على الإنتاج و طبيعة العمل، و على الاقتصاد و العلاقة بين الإنتاج و الاستهلاك . و على حياة الأسرة التي تحوّلت من أسرة كبيرة ممتدّة إلى أسرة صغيرة قادرة على الحركة . و على أساليب التعليم التي شـاعت في عصر الزراعة، و التي تحوّلت إلى نظـام تعليمي محدّد الأهـداف، يخدم إنتاج و اقتصاد الحياة الصناعية
كما حرصت على الرصد الدقيق للتحوّلات التي طرأت على نسق حياة الفرد، و على المبادئ و الأسس و العقائد التي كانت شائعة في عصر الزراعة . ثم رصد المبادئ و الأسس و العقائد الجديدة التي فرضها المجتمع الصناعي لخدمة مصالحه .

منطق التغيّرات

دراسة مرحلة التحوّل العظمى هذه، كانت السبيل لفهم مرحلة التحوّل الحالية، من الصناعة إلى المعلومات، و كانت السبيل إلى وضوح الرؤية المستقبلية، التي تسمح باستشراف المستقبل، و التعرّف على دقائق مجتمع المعلومات، و هو ما زال في طور التشكّل .
هذه الرؤية المستقبلية، أتاحت لي أن أنتقل من مجرّد رصد التغيّرات الحالية، و طرح التصورات الانتقائية، إلى فهم المنطق الذي تخضع له التغيرات في كل مجال، وفقا لمبادئ و سس و عقائد مجتمع المعلومات .
استطعت أن أفهم : لماذا كانت الأشياء على صورتها التي عرفناها طوال سنوات سيادة عصر الصناعة . و تعرّفت على الشفرة الخاصّة لعصر الصناعة، و على مكوّناتها، التي فرضت شكلا خاص للعمل و العمالة، و البناء الاقتصادي، و التعليم الذي جرى تصميمه لصالح الاقتصاد الصناعي، و الإدارة التي نجحت في ضبط العمل لحساب المؤسّسات الكبرى . عرفت السرّ في شيوع ما أطلقنا عليه الإعلام الجماهيري، في الصحافة و الإذاعة و التلفزيون، و طبيعة الثقافة الجماهيرية التي تواكبه . عرفت لماذا كان الاستعمار و الحروب الاستعمارية، توجها ضروريا للدول الصناعية الكبرى .. عرفت الكثير الذي ساعدني على فهم طبيعة الحياة القادمة .

و إلى الرسالة التالية، لنسترض معا أسرار شفرة المجتمع الصناعي المنصرم .