الخميس، يونيو ١١، ٢٠٠٩

حكايتي مع المستقبل

القواعد المرعية .. الفاشلة

مستقبل الطفولة و الأمومة

كنت قد تلقيت في عام 1989، دعوة من السيدة هدى بدران، رئيسة المجلس القومي للطفولة و الأمومة، للاشتراك في مجموعة عمل خاصة، وكّل إليها استشراف ملامح المجتمع المصري خلال فترة التسعينات و ما بعدها، و انعكاسات ذاك على الطفل و الأم . تولّت د. هدى رئاسة المجموعة، التي ضمّت عددا من المفكّرين، أذكر منهم المرحوم السفير تحسين بشير و د. سعد الدين إبراهيم، كما شاركت فيها د. أمينة الجندي، و كيلة المجلس في ذلك الحين، و وزيرة الشئون الاجتماعية بعد ذلك . لاحظت في الجلسات الأولى أن الأمر سيمضي وفق العادة المرعية، بالبحث عن نواقص الوضع الحالي، و التفكير في البحث عن حلّ لكل نقيصة، وفقا للخبرات السابقة . فتدخّلت، طالبا أن نحاول النظر إلى الأمر بطريقة أخرى . و وضعت أمام المجموعة بعض الحقائق الأساسية للتفكير في مستقبل الطفولة و الأمومة، وهي :
· التفكير في مستقبل الطفولة، و وضع استراتيجية لذلك، يجب أن ينبع من رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها مختلف الاستراتيجيات، في مجالات حياتنا .
· فهم مؤشّرات التغيير الأساسية التي تسود العالم حاليا، و محاولة اكتشاف القوانين التي تحكمها، و التأثيرات المتبادلة بينها، هو الخطوة الأولى للوصول إلى الرؤية الشاملة لمصر .
· هذا التسلسل يسهّل فهمنا الأمين الصادق للواقع المصري الحالي، و يحدّد لنا نقطة البدء الراسخة، التي ننطلق منها إلى المستقبل .

الفرق بين السياسة و الفكر

و بفضل طبيعة المهمّة و نوعية المشاركين، مضى العمل بعد ذلك وفقا لهذا الأساس السـليم .. و مع ذلك، لم يخل الأمر من حوارات طويلة معقّدة، نتيجة لغياب منهج مسـتقبلي لدى عدد من المشاركين . و انتهى الأمر بتكليفي بمهمة صياغة ورقة تتضمّن حصيلة المناقشات و الحوارات . و كان المفروض أن تطرح الورقة للمناقشة في اجتماع يضم عددا كبيرا من المفكّرين و المختصين و الكتّاب .
في شهر مارس عام 1990، تمّ اللقاء الموسّع بحضور ما يقرب من 40 مشاركا . و قرأت الورقة التي حدّدت الخطوات التي التزمت بها المجموعة في عملها :
( 1 ) التعرّف على جذور التغيّرات العالمية الحالية .
( 2 ) تحديد مؤشّرات التغيّر العالمية التي ترسم صورة مجتمع الغد .
( 3 ) تحديد الصفات الأساسية للإنسان المتوافق مع هذه التغيّرات، و التي تحتاجها طفولة اليوم .
صفات إنسان مجتمع المعلومات
قلت أن طفل اليوم سيدخل إلى معترك الحياة العملية بعد حوالي عقدين من الزمان . و أنّه من الضروري تهيئة طفل اليوم للمستقبل، ليكون متوافقا مع المجتمع، و فاعلا فيه . و أن هذا يتم إذا عرفنا صفات الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، و التي من بينها أن يكون :
· متفرّد و غير نمطي، لا يخضع للقولبة التي كان يفرضها المجتمع الصناعي، منفتح على سيل المعلومات المتدفّق، بمساعدة التكنولوجيات المعلوماتية الجديدة، مستعد للتفاعل معها .
· ممارس للتفكير العلمي و التفكير الناقد، متعرّف على مفردات المنهج العلمي، ممارس للتفكير الناقد، الذي يتيح له أن ينظر للأمور بعين جديدة، و أن يراجع الافتراضات التي قامت عليها حياته، قادر على اكتشاف الافتراضات الجديدة التي تتفق مع الواقع الجديد المتغيّر .
· قادر على التعلّم الدائم و الذاتي و الشامل، مؤمن بأن الحياة أصبحت عبارة عن سلسلة متعاقبة من التعليم و التدريب و العمل .
· مبدع مبتكر، يجيد العمل العقلي، يعتمد على الابتكار كوسيلة لاكتشاف المشاكل، و البحث عن بدائل حلولها، و اختيار الحل الأنسب منها، ثم العمل على تطبيقه ومراقبة صلاحيته .
· إيجابي متعاون، مشاركا في اتخاذ القرارات التي تتصل بعمله و حياته، قادر على التعاون مع الآخرين للتوصّل إلى القرارات، بعد انقضاء التنظيم البيروقراطي الذي كانت تحتكر فيه القيادات اتّخاذ القرارات .
و بدأت المناقشات الجادة، و إن لم تخل من رواسب التفكير السياسي القاصر .

التفكير المعادي للمستقبل

بدأت مناقشات ورقة مستقبل الطفولة، و كانت في معظمها جادة و مفيدة، و صدر الرأي الغريب من د. ماهر مهران، رحمه الله، الذي كان مسئولا عن المجلس القومي للسكان . كان د. مهران عصبيا في كلمته، يتكلّم بنبرة سياسية غريبة على طبيعة كلمات الآخرين . فماذا قال ؟ .
قال د. ماهر مهران، في لهجة أقرب إلى الخطاب الانتخابي " أنا لا يهمّني شيء ممّا قيل عن المسـتقبل و مجتمع المعلومات .. يهمّني أكثر من هذا أن أنقـذ الطفـل المصري من الذباب الذي على وجهه .." . لم يحظ هذا القول بأكثر من همهمات استنكار من الحاضرين .

نواقص التخصّص الضيّق

من بين المجموعة الموسّعة التي ناقشت ورقة مستقبل الطفولة، د. حسين كامل بهاء الدين، الذي أصبح وزيرا للتعليم بعد ذلك اللقاء بوقت قليل . و قد اختار أن يعلّق على أحد مؤشّرات التحوّل التي أقمت عليها رؤيتي للتغيرات المجتمعية التي تصنع مجتمع المعلومات، ذلك هو مؤشّر التحوّل من التخصّص الضيّق الذي أخذ به المجتمع الصناعي، إلى المعرفة الأعم و الأكثر شمولا .
قال أنه يرى ـ على عكس ما قلته ـ أننا نتحوّل من التخصّص الضيق إلى التخصّص الأكثر ضيقا . و دلّل على ذلك بما يحدث في مجال الممارسة الطبّية، حيث أصبح الطبيب يتخصّص كلّ يوم في جزئية أدقّ، ممّا جعل التخصّصات تتضاعف بالآلاف، يوما بعد يوم .
و عندما تولّى د. حسين بهاء الدين يعد ذلك بقليل وزارة التعليم، كتبت مقالا بعنوان " حديث عن الطب، مع وزير التعليم ! " . في ذلك المقال شرحت معنى مؤشّر التحوّل من التخصّص الضيق إلى المعرفة الشاملة، و قلت أنه في ظل معدّلات التغيّر غير المسبوقة في مجال المعلومات و المعارف، نتيجة لتطوّر تكنولوجيا المعلومات، تختفي تخصّصات بأكملها، بل و تتراجع علوم بأكملها مفسحة المجال لعلوم جديدة، و تخصّصات جديدة، لم تكن معروفة من قبل .
كما أن التحوّل من الصناعات الكهروميكانيكية التقليدية، كمركز ثقل في النشاط الصناعي، إلى صناعات جديدة تقوم على خليط من العلوم، كانت محدودة الرواج منذ ثلاثين أو أربعين عاما فقط، مثل علم الإلكتـرونيات الكمـّية، و نظرية المعلومات و علم الأحـياء الجزيئي و علوم المحيطات و الفضاء .. هذا التحوّل يقضي على العديد من التخصّصات الضيّقة القديمة، و يترك أصحابها بلا عمل في مجالات الصناعات الجديدة .

شمولية المعرفة .. ضرورة

من هنا كانت أهمّية شمولية المعرفة، إلى جوار الدراسة المتخصّصة، في معاهد التعليم . كذلك ضرورة الأخذ بالمناهج الديناميكية التي تتغيّر و تنمو، وفقا للتسارع في المعارف و التكنولوجيات . و كذلك ضرورة الأخذ بمبدأ التعليم من المهد إلى اللحد، الذي يجعل من التعليم عملية لا تنتهي بانتهاء مرحلة دراسية معيّنة، و بالدخول إلى مجال العمل . و أيضا، أهمّية إدراك أن صلاحية أي شهادة دراسية يجب أن تكون موقوتة، بحيث تفقد هذه الشهادة قيمتها كمستند، إذا لم يسع صاحبها إلى تجديد و تعديل و تطوير معارفه، وفقا للمعارف المستجدّة .
إنّنا ننتقل، في إطار مجتمع المعلومات، من تدريب الفرد على تخصّص ضيّق معيّن، إلى تدريبه على أن يعتمد على ذاته ـ أوّلا بأول ـ في الوصول إلى المعلومات و المعارف الجديدة، و على أن يتكيّف بالتخصصات الجديدة .
و أعطيت د. حسين كامل بهاء الدين مثالا على ما يفعله التخصّص في مجال الطب . فقلت أن تطبيق التخصّص على مجال التعامل مع الآلة كان نافعا و مفيدا، طوال عصر الصناعة . إلاّ أن تطبيقه في مجال الطـب و العـلاج، رغم كلّ ما وفـّره خلال القرنـين الماضيين من اكتشافات و إنجازات هامة ، جاء متناقضا مع طبيعة الإنسان، و قاد إلى حالة العجز التي تعاني منها الممارسة الطبّية، ليس فقط في مصر، و لكن في جميع أنحاء العالم المتطوّر . و المخلصون الصادقون من الأطباء يعرفون ـ أكثر من غيرهم ـ حالة العجـز التي أحكي عنها .. يعرفون أن الطب يتعامل مع حوالي 15% فقـط من الحالات المرضـية، و يصف 85% من الحالات بأنّها سيكوسوماتية، و هي التي تظهر فيها الأعراض المرضية بينما يكون العضو المعني سليما، بمعنى أن الأعراض المرضية مصدرها غامض في العقل البشري .

السرّ الحقيقي لهذا العجز

السر في هذا العجز، خطأ استراتيجي جعل الحركة الطبية تتعامل مع الإنسان بنفس منطق التعامل مع الآلة، نتيجة للانبهار العام بالآلة و المصنع طوال عصر الصناعة . و الإنسان لا يمكن أن يعامل معاملة الآلة . فالسيارة عندما تحتاج إلى إصلاح نذهب بها إلى المختصّ، بالنسبة لإطاراتها، أو هيكلها، أو تبريدها، أو نظام محرّكها، و نظامها الكهربائي . و يكفي أن يقوم المختصّ في أحد هذه الجوانب بعمله، حتّى ينتهي الخلل .
لكن طبيعة الجسم البشري تختلف عن هذا، فالأعضاء و العمليات في الجسم البشري تكون على أعلى مستوى من التكامل و تبادل التأثير . و العرض الذي يشكو منه إنسان قد يحتاج في علاجه إلى عدد من المختصّين . و هذا هو ما دعا بعض الدول المتقدّمة إلى مواجهة هذا القصور في الممارسة الطبية إلى تنمية و تصعيد دور الممارس العام، غير المتخصّص، و استمراره طوال حياته كممارس عام، مستمتعا بالفوائد المادية و الأدبية للطبيب المختص .

الشفاء .. و إيجابية المريض

و هناك خطأ استراتيجي آخر وقعت فيه الحركة الطبية، خلال عصر الصناعة، بافتراض الدور السلبي للمريض في عملية الشفاء، شأنه شأن الآلة التي لا يكون لها دور ما في إصلاح عطبها . فالمهندس المختصّ، يشخّص الخلل، و يحدد العلاج، و يطبّقه على الآلة، دون توقّع دور إيجابي لها في ذلك العلاج .
لقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة، القدرات الواسعة للإنسان في تحقيق الشفاء الذاتي، بما يعجز الطب الحديث عن تفسيره . و الغريب أن التراث الطبي الإسلامي، وقت ازدهار الحضارة الإسلامية، كان يعطي اهتماما كبيرا بهذه الحقيقة، الأمر الذي نجده في كتابات ابن سينا و الرازي و غيرهما من كبار علماء ذلك العصر .

و إلى الرسالة التالية لرى كيف تنتصر انتهازية الوزير على التفكير الجاد .