الأربعاء، سبتمبر ٢٦، ٢٠٠٧

التعليم : من عصر الصناعة، إلى عصر المعلومات

تعليم عصر المعلومات
لكي نعرف السبيل إلى العمل .. لا بد أن تكون الرؤية المستقبلية واضحة لنا، حتى تتكامل
جهودنا، و تتم على أساس الفهم الواضح للإجابة المطلوبة عل السؤال الحيوي :
كيف تختلف حياتنا في عصر المعلومات عنها في عصر الصناعة أو الزراعة؟

يجب أن يكون واضحا لنا جميعا، أننا عند التفكير في مستقبل تعليم عصر المعلومات، لا ننطلق من الأحلام و التمنيات، و رؤى المدن الفاضلة، بل نتأمّل مؤشرات التغيير الأساسية في عصر المعلومات، ثم نرى تأثيرها على شكل التعليم الجديد . و هذا جهد علمي و فكري، يمكن أن يتناقض مع أفكار العديدين في مصر، و تصوراتهم التقليدية عن التعليم الأمثل .
من أهم التغيرات التي قادت إليها تكنولوجيا المعلومات، تحوّل العمل من العضلي اليدوي الروتيني، في المصنع و المكتب، إلى العمل العقلي الذي يعتمد على التفكير و الابتكار .. و طفل اليوم، سيدخل إلى مجال العمل المنتج بعد حوالي 15 سنة . و لو لم نبدأ من الآن في إعادة بناء التعليم وفقا لاحتياجات مجتمع المعلومات، فستكون النتيجة بطالة شاملة للخريجين الذين لا يحتاجهم نوع العمل السائد في مجتمع المعلومات . و هذه المشكلة واجهتها ـ و تواجهها ـ العديد من الدول المتقدّمة حتّى الآن .. نقص في العمالة المتطوّرة التي تشتد الحاجة إليها، و وفرة من العمالة غير المطلوبة . و من هنا كان التدريب، و إعادة التدريب، ثم إعادة التدريب مرّة أخرى .

المدرسة – المصنع

الإنسان الناجح في عصر الصناعة ـ المنسجم مع احتياجات ذلك العصر ـ كانت تتوفّر فيه اشتراطات أساسية، نابعة من طبيعة الحياة في المجتمع الصناعي، و محقّقة لصالح الاقتصاد الصناعي . لهذا، جرى تنظيم كلّ شيء في الحياة لتنشئة ذلك الإنسان .
و لأن المجتمع الصناعي كان يقوم على النمطية و المركزية، و السعي إلى الجماهيرية في كل مجال، جرى تصميم الاقتصاد، والتعليم، و الإعلام، و الإدارة، و الإنتاج و الاستهلاك، و الديموقراطية النيابية،على أساس جماهيري، أي على جمهور يضم الملايين من البشر النمطيين
التعليم الذي عرفناه، و الذي مازال مأخوذا به في كثير من المجتمعات، كان مصمّما لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و طبيعة العمل فيه . فمع خروج العمل من الحقل و البيت، في عصر الزراعة، كان من الضروري إعداد الأبناء للعمل في المصنع .
و قد تمخّض هذا عن هيكل مركزي آخر من هياكل المجتمع الصناعي، ألا وهو التعليم الجماعي، أوالجماهيري . و أقيمت المدارس على شكل مصانع تنتج التلاميذ . و كانت مهمة التعليم العام الجماعي أن يلقّن التلاميذ أساسيات القراءة و الكتابة و الحساب، و شيئا من التاريخ و الموضوعات الأخرى . على اعتبار أن هذا هو غاية ما يحتاجه الإنسان ليصبح قادرا على العمل في المصنع أو المكتب .
لكن خلف هذا المنهج الظاهر، كان هناك منهج خفي أكثر أهمّية .
ذلك المنهج الخفي تضمّن ـ و ما يزال ـ في معظم المجتمعات، ثلاثة دروس هامّة :
· التدريب على الالتزام بالمواعيد .
· طاعة الرئيس .
· التعوّد على العمل المتكرّر .
فالعمل في المصنع يتطلّب من العمّال أشياء لم يكن يعرفها العامل الزراعي .. يتطلّب عمّالا يصلون إلى عملهم في الوقت المحدّد، خصوصا أولئك الذين يعملون على خطوط التجميع . كما يتطلّب عمّالا يتلقّون التعليمات من رؤسائهم، وفقا للتسلسل الوظيفي، فيطيعونها دون تساؤل أو استفسار . و يحتاج إلى رجال و نساء على استعداد للعمل كعبيد للآلة أو المكتب، يقومون بالعمل المتكرّر، كلّ يوم، على مدار حياتهم، دون احتجاج أو تذمّر

التعليم النمطي الجماهيري

و هكذا، شاع التعليم النمطي الجماهيري، الذي عرفناه، و ما زلنا نأخذ به حتّى اليوم، و الذي يستهدف
· تعويد التلاميذ على العمل المتكرّر، كوسيلة للاستيعاب . و تقسيم المعارف إلى جزئيات متفرّقة، يتلقّاها التلميذ واحدة بعد الأخرى، دون أن يطلب منه ـ أو يتاح له ـ الربط بينها، للتوصّل إلى الكلّيات . و خضوع التلميذ لآلية تلقّي المعلومات، و رفض أيّ محاولة من جانبه للخروج عن هذه الآلية، أو ابتكار سبيل آخر للوصول إلى المعلومات
· تعويد التلميذ على طاعة الرؤساء، ابتداء من زميله مسئول الفصل ( الألفة )، إلى أستاذه و معلمه، إلى ناظر المدرسة .. و تعويده على تنفيذ الأوامر الصادرة إليه، دون السماح له بمناقشتها
· تعويد التلاميذ على الانضباط زمنيا، من خلال برنامج العمل اليومي، الذي يبدأ بجرس، ثمّ حصّة، ثمّ جرس، ثم راحة .. و هكذا حتّى نهاية اليوم الدراسي . هذا، بالإضافة إلى التوقيتات العامة، التي ترسّخ النمطية عند التلاميذ، مثل طابور الصباح، و تحيّة العلم، و النشيد الجماعي .

المخطط الخفي

ظل هذا هو التعليم الأمثل على امتداد ما يزيد عن قرنين من عمر عصر الصناعة . و إذا كان هذا التعليم قد شاع في المجتمعات الصناعية لفائدته في إعداد العمالة اللازمة للعمل الصناعي، فإنّه قد شاع عندنا، و عند غيرنا من الدول التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية، نتيجة لرغبة المستعمر في فرض نظمه على الشعوب التي يستعمرها، حتّى يسهل عليه تحقيق الفائدة الأكبر من استعماره
عندنا، و في الكثير من الدول العربية، قامت خبرات رجال التعليم على هذا النوع من التعليم، باعتباره الشكل الطبيعي المقبول للعملية التعليمية . و لا أعتقد أن أحد من أقطاب التعليم في مصر كان يدرك الأهداف الحقيقية للتعليم الجماهيري الذي فرضه عصر الصناعة . و إنصافا لهم، نقول أن الكثير من كبار رجال التعليم في الدول الصناعية المتطوّرة، لم يكونوا يدركون المخطط الخفي الذي قام عليه ذلك التعليم .
كالعادة، جرى اكتشاف هذا، عندما تلاحقت موجات ثورة المعلومات، في النصف الثاني من القرن الماضي . لقد اكتشف المفكّرون و الخبراء أشياء كثيرة .. اكتشفوا أن النظم الإدارية لعصر الصناعة لم تعد نافعة، و كذلك نظام الديموقراطية النيابية، و الاقتصاد الصناعي بشقيه الاشتراكي و الرأسمالي، و التعليم النمطي الجماهيري، و الإعلام الجماهيري .. اكتشفوا ذلك عند مراقبة تدهور الأداء المتواصل للأنظمة التي كانت تنجح دائما، و الهبوط النمو الذي لا يتوقّف في النمو، ممّا يقتضي سرعة البحث عن سرّ هذا التحوّل

و إلى الرسالة القادمة ..لنرى شكل هذه الحياة الجديدة التي نمضي إليها .

الثلاثاء، سبتمبر ٢٥، ٢٠٠٧

من الذي سيجيب عن سؤال أمنية؟

أمنية تسأل : متى و كيف يبدأ الفعل ؟

بدأت التعامل مع الكمبيوتر و الأجهزة المعلوماتية متأخّرا، رغم أنني بشّرت بها منذ ما يقرب من 30 سنة، و بخاصة في كتابي " هذا الغد العجيب "، " أحلام اليوم .. حقائق الغد " . و سعيت إلى الاستفادة من جميع وسائل الاتصال المستحدثة التي وفرها الإنترنيت، حتّى تلك الوسائل التي يقال أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تطلقها، لتجمع بها معلومات عن الأفـراد .. و قد أدخلني أحفادي في عدد من برامج الاتصال الشائعة بين الشباب .. مثل ( ماي سبيس )، و ( فيس بوك )، و أخيرا هاي فايف
و رغم شيوع الاستخدامات السطحية لهذه الوسائل بين الفتيان و الشباب، وجدت استجابات جادة منهم لكل كلام جاد يطرح عليهم .. كما وجدت استجابات من أساتذة و مفكّرين مصريين يقيمون في أمريكا و فرنسا، كما اكتشفت أن استجابات الفتيات أكثر جدّية ..
من بين الاستجابات، تساؤل أمنية، التي كتبت تسألني " غالبا ما أسأل نفسي : هل هذا العالم، في اللحظة الراهنة، من الممكن فهمه ؟ . لقد قرأت مقالاتك الأخيرة، و هي عظيمة، لكن السؤال الذي يظل يتردد في رأسي هو : ما هي الخطوة التالية، لكي نبدأ في الفعل ؟. و كيف ؟ .. مجرّد أفكار .." .
وجدت أنني أوردت في نهاية كتابي " حكايتي مع المستقبل "، تأريخا للمحاولات التي قمت بها للحض على التفكير، تمهيدا للفعل المثمر المفيد،كما رصدت النتائج السلبية لتلك المحاولات .. و تساءلت ـ مثل أمنية ـ عن القوى السياسية القادرةعلى الفهم و الفعل.. و فيما يلي نص الكلمات

خلاصة القــول
· اهتمامي بالمستقبل، ينبع من رغبتي في البحث عن منهج علمي لإعادة بناء حياتنا في مصر، بشكل ينسجم مع التغيّرات الجذرية التي تمر بها البشرية، في تحوّلها إلى مجتمع المعلومات
على مدى ربع قرن، ناديت بأهمية الرؤية المستقبلية لمصر، كأساس لأي تحرّك نحو تجاوز فجوة التخلّف، التي تفصلنا عن باقي المجتمعات المتقدّمة
شرحت، المرّة تلو الأخرى، استحالة الإصلاح و التجويد، أو حتّى مواجهة المشاكل الكبرى، بالتناول الجزئي لكل مشكلة أو مجال على حدة، خاصّة في زمن التغيّرات الكبرى في الحياة، مثل التحوّل من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، أو التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات .
· طرحت عام 1992، أي منذ 13 عام، في كتابي " أفيقوا يرحمكم الله "، منهجا متكاملا لرصد و فهم التغيّرات الحادثة، و وضع الرؤية المستقبلية الشاملة .. كما تضمّن الكتاب ـ بالتفصيل ـ أهم معالم الحياة الجديدة في عصر المعلومات، و طبيعة الأسس التي تقوم عليها مجالات النشاط البشري المختلفة، الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
و في ذلك الكتاب، طرحت بعض التطبيقات الأساسية التي تعتمد على الفهم النابع من الرؤية المستقبلية، فحددت نظم مجتمع المعلومات الجديدة ـ و المختلفة، بل و المتناقضة مع نظم المجتمع الصناعي التي عرفناها ـ في التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الممارسة السياسية، و الإعلام
على مدى ما يزيد عن 15 سنة، كتبت أحذر قيادات مصر من مواصلة عدم المبالاة بما يجري، و عدم قيامنا بتطوير أوضاعنا، وفقا للتحوّلات التي تتم حولنا في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . و قلت أكثر من مرّة أن العزلة عمّا يجري مستحيلة في عصر المعلومات، و أنّه إذا لم نبادر بالحركة، فستجبرنا على ذلك القوى العظمى، ليس لحسابنا، و لكن لحسابها هي
فماذا كانت النتيجة ؟
ربما تكون بيروقراطيتنا قد توقّفت للحظات لقراءة تلك التحذيرات، لكنها سرعان ما أشاحت بنظرها، مواصلة تركيزها على تثبيت الأوضاع القائمة، حرصا على البقاء في موقع السلطة، و مواصلة تحقيق مكاسبها الخاصّة على حساب شعب مصر
· و كما توقعت، تحرّكت الولايات المتحدة لترغمنا على قبول ما كان يوما ما في صالحنا، ثم استنزفت منافعه بالنسبة لنا .. و رضخنا المرّة بعد الأخرى للضغط الأمريكي، و لضغوط الشركات الرأسمالية متعدية الجنسيات، مع علمنا بأن تلك الضغوط كانت لحسابهم، و على حساب مصالح الشعب المصري .. لقد حدث ما حذّرت منه مرارا و تكرارا
راحت أوضاع مصر تتدهور عاما بعد عام .. و رحنا نفقد مكانتنا، ليس بين الدول المتقدمة.. و لكن أيضا بين الدول العربية، و الدول النامية في آسيا و أمريكا اللاتينية
· أصبحنا أشبه بمن يسعى ـ بعناد غبي ـ لفتح باب جديد، بمفتاح قديم
و بدأت أفقد الأمل نهائيا في أن يستمع أحد إلى صوت العقل في مصر .. و لم يبق لي سوى أن أتصور الحل مشروطا بسيناريو الكارثة الكبرى، الذي قد يصل بنا إلى الإفاقة، و تبيّن سواء السبيل.. و لكن، في أعقاب محن و خسائر كبرى، ما كان أغنانا عنها

طريق الخـــلاص

حقيقة مريرة يجب الاعتراف بها .. لا يوجد لدينا أي كيان سياسي، حكومي أم معارض، حزب أم جماعة من الناشطين، يمتلك رؤية مستقبلية لمصر
حتّى لجنة السياسات التي زعمت أنها تنطلق من رؤية مستقبلية، اكتشفت ـ من واقع أوراقها ـ أنها اعتمدت في الأغلب ـ عند وضع تلك الأوراق ـ على بعض بقايا قيادات منظمة الشباب القديمة، التي اكتسبت على مرّ العهود مقدرة على إرضاء الزبون، أو على أصحاب الأفكار البراجماسية من شباب الاقتصاديين، مثل الآلاف الذين كنت ألتقي بهم في المؤتمر العام لجمعية مستقبل العالم، في واشنطون، و الذين لم تكن لديهم النيّة، أو القدرة، على الفهم الشامل الذي يسمح بوضع الرؤية المستقبلية المطلوبة، يعتمدون على قشور الأفكار دون أن يكلّفوا أنفسهم مشقّة الغوص إلى جوهرها
· الفوران السياسي الحالي، قد يشكّل ضغطا إضافيا على البيروقراطية الحاكمة، إلى جانب الضغوط الأمريكية، فيجبرها على تقديم بعض التنازلات غير الجوهرية، التي تعرف سبيل النكوص عنها فيما بعد عندما تهدأ الأمور . و الأحداث الأخيرة، تفيد أن بيروقراطيتنا ولاّدة ! .. و أنها قد بدأت الإعداد لبيروقراطية شابة، إذا ما تداعت العناصر التقليدية، و سقطت في الطريق
و الولايات المتحدة، لديها أجنداتها و أولوياتها، التي تتغيّر وفق حسابات خاصة بنظامها الحاكم .. و لا يعلم إلاّ الله ما يمكن أن تطالب به إذا أو ترفضه . و في جميع الأحوال صالحنا ليس مربوطا أبدا بصالح أمريكا، بل إن التناقض قائم على الدوام
ما هي القوى السياسية المصرية، القادرة على أن ترتفع بممارساتها إلى المستوى الفكري، الذي يسمح لها أن تقيم جهدها على رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تتيح لنا أن نعيد بناء حياتنا ـ بالكامل ـ على أسس الحياة الجديدة لعصر المعلومات ؟
سؤال لا أملك له إجابة .. و من قال لا أدري، فقد أفتى

* * *

ملاحظة أخيرة
لقد بذلت كل ما أطيق من جهد على مدى ما يزيد عن 30 سنة، أكتب في الصحف و المجلات، و أتحدث في الإذاعة و التلفزيون، و أنشر عشرات الكتب .. مركزا حديثي على المستقبل و الرؤية المستقبلية، و تطبيقاتها على المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . . مع التركيز على التعليم باعتباره رأس الحربة في الدخول إلى مجتمع المعلومات ..
و أحدث جهد أنشغل به حاليا هو نقل شرائط الفيديو لحلقات مستقبليات التي قدمتها عام 1995 على القناة الأولى بالتلفزيون المصري ، إلى اسطوانات CDV، و شرائط صوتية، لكي أوزعها كهدية لكل مهتم بالموضوعات التي تتناولها .. والهدف : أن تستفيد أجيال جديدة من هذا الجهد، و تواصل المشوار، الذي يحتمل أن تكون ظروف مصر فيه أفضل من ظروفنا الحالية .