الجمعة، ديسمبر ١٤، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات


رؤيـة يابانـية لاقتصـاد الغـد
ياماجوشي الياباني..ولقـــاء برشــلونـة

صاحب هذه الرؤية هو أستاذ الرياضيات و المفكّر المستقبلي الياباني كاورو ياماجوشي، التقيت به لأوّل مرّة في برشلونة، من خلال وقائع مؤتمر لجمعية الدراسات المستقبلية العالمية .. تناقشنا حول النشاط المستقبلي لكل منّا في بلده، فتحمّس ليطلعني على الأوراق الأولي لرسالته عن الاقتصاد الجديد لمجتمع المعلومات .. و كان كريما معي إذ سمح لي بأن أطبع نسخة من هذه الأوراق . كما سمح لي بأن أنشر ما أراه مفيدا من آرائه . . قائلا : يبدو أن علم الاقتصاد ، على أهميته، بقي متخلّفا في مجال التوجّهات المستقبلية
و هو يرى أن علم الاقتصاد يتوزّع حاليا بين ثلاثة نماذج شاعت في عصر الصناعة
الأوّل هو :نموذج الكلاسيكية الجديدة، و هو ما ينسب إلى ليون فالراس، العالم الاقتصادي الذي قام بتطبيق نظام المعادلات الآنيّة للميكانيكا التقليدية على مجال الاقتصاد
و كان الثاني هو نموذج جون كينز، الذي اشتهر بنظريته الثورية حول أسباب البطالة طويلة المدى .
و أخيرا، النموذج الثالث و هو الماركسي، نسبة إلى كارل ماركس .

فالراس .. وتحقيق التوازن

يزعم نموذج فالراس أنّ العمالة الكاملة كفيلة بتحقيق التوازن، و بتلبية الموارد و الاحتياجات في جميع الأسواق . و يتحقق هذا في اقتصاد السوق الرأسمالية، ما دامت الأسعار و الأجور مرنة، قابلة للتغيّر بلا قيود . و يمضي أتباع هذا النموذج إلى القول بأن التوازن الذي يتحقّق بذلك، يتضمّن التخصيص الأمثل للموارد، و التوزيع الأكفأ للدخول . و من ثمّ، فإن مشاكل الاقتصاد الأساسية في إنتاج و توزيع و استهلاك السلع و الخدمات، يمكن أن يصل المجتمع إلى حلّها عن طريق آليّات التكيّف الذاتي للأسواق الحرّة . و إذا ظهرت البطالة، فإنّ مرجعها يكون للسياسات و القوانين الحكومية الخاطئة .

بين كينز و ماركس

أمّا نموذج كينز، فيرى أنّ الرأسمالية الحديثة قد فقدت آليّات التكـيّف الذاتي في الأسواق، بسـبب بطء التكيّف بين الأسعار و الأجور، و بسبب الاحتـكارات و الاتّحادات و التنظيمات التجارية . و من هنا، وجب قيام الحكومة بوضع سياسات و ضوابط مالية و نقدية، سعيا وراء العمالة الكاملة، لكي يتحقّق توازن السوق . أمّا التوازن الاقتصادي العالمي، و التوزيع العادل للدخول، فيتحقّقان من خلال السياسات و الضوابط التي تتكفّل بها المنظّمات العالمية، كالأمم المتّحدة و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي . أمّا النموذج الماركسي، فيقول : أنّ الرأسمالية ـ من حيث المبدأ ـ مقدّر لها الفشل، نتيجة لصراع الطبقات، و سوء توزيع الدخل بين الرأسماليين و العمّال .
على أساس هذه النماذج الثلاثة، قامت ثلاث مؤسّسات اقتصادية، و كان على أيّ شعـب أن يختار بينها . و يرى ماجوشي أن رؤية آلفين توفلر للرأسمالية و الاشتراكية كوجهين لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، كانت فتحا فكريّا، يتيح الخروج من مأزق النماذج الثلاثة السابقة .

عمليات الانفصال الأربع

و لكن، ما هي المؤسّسات السياسية و الاقتصادية الجديـدة التي تنبع من مجتمع المعلومات ؟ . يتصدّى المفكّر ياماجوشي للإجابة عن هذا السؤال، مستوحيا رؤي المستقبليين من ناحية، و التحوّل في نموذج العلوم الطبيعية من ناحية أخرى .
يقول أن جذور النماذج الاقتصادية الثلاثة لعصر الصناعة، اختلفت عن بعضها في تفسير عمل الأسواق، أسواق العمالة و السلع و رأس المال . و هو يرى أنّ سوق العمل كان وليد الانفصال بين العاملين و أصحاب العمل، و سوق السلع كان وليد الانفصال بين المنتج و المستهلك، كما قاد الانفصال بين المدّخرين و المستثمرين إلى قيام سوق المال .
لكنّه يشير إلى عملية انفصال رابعة، لا بدّ أن ندخلها في اعتبارنا، هي انفصال الإنسان عن الطبيعة . لقد كانت الثورة الصناعية عبارة عن عملية عزل للإنسان عن بيئته، و عن الطبيعة ذاتها . كما أنّها حضّت على استعباد الطبيعة و استغلالها، لحساب انفراد الإنسان باستخدامها .
ثمّ يتساءل ماجوشي: الآن .. هل حان الوقت الذي نسأل فيه أنفسنا سؤالا أكثر أهمّية : لماذا قامت هذه الأنواع الأربعة من الانفصال في حضارتنا المعاصرة ؟، و لماذا بقيت سائدة ؟
التكنولوجيا الميكاترونية
يجيب ياماجوشي قائلا : إنّ ذلك يتّصل اتّصالا وثيقا و قويّا بالتكنولوجيا الميكانيكية، التي قام عليها عصر الصناعة . و هو يطرح هذا كتمهيد، لتوضيح نتائج التحوّل من تلك التكنولوجيا إلى تكنولوجيا جديدة، هي التكنولوجيا الميكاترونـية ( أيّ الميكانيكية ـ الإلكترونية )، التي تفرض تصوّرا للاقتصاد في مجتمع المعلومات، يختلف عن التصوّرات التقليدية، التي عرفها مجتمع الصناعة .
انحصر إنتاج عصر الصناعة في السلع و الخدمات . و كانت السلع هي محور الإنتاج منذ قيام الثورة الصناعية . و كان إنتاجها يتم بشكل نمطي و على نطاق واسع، ممّا أتاح انفصال المنتجين عن المستهلكين . و مواصلة السعي لتحقيق أكبر كفاءة للإنتاج على نطاق واسع، تطلّبت تنظيم المنتجين في قسمين : العمّال، و المديرين ( الذين يمكن أن يكونوا في نفس الوقت المالكين لوسائل الإنتاج ) . هذا الفصل بين العمّال و المديرين، يضرب عميقا في جذور طبيعة إنتاج السلع . و نتيجة لهذا، تأسّست أسواق السلع و أسواق العمالة، و مع تطوّر و توسّع اقتصاديات السوق، تمّ الفصل بين الذين يديرون و الذين يملكون . ممّا قاد إلى ظهور الانفصال بين المستثمرين و المدّخرين .
من المعروف، أنّ تبادل البضائع هو في جوهره تبادل حقّ التفرّد بالاستخدام، أيّ تبادل الملكيّة . لذا كان من الضروري أن تنشأ الملكية الخاصّة كأساس قانوني لعصر الصناعة، بهدف تأميـن إنتاج السلع، و تبادلها في السوق .
انتعشت الأسواق الرأسمالية، نتيجة لعمليات الانفصال الأربع التي أشرنا إليها، كما انتعشت الأسواق الاشتراكية، و أفرزا معا توجّهاتهما الحاكمة، على شكل النماذج الاقتصادية الثلاثة التي أشرنا إليها .

مرحلة التحوّل التكنولوجية

لكي نفهم خصائص التكنولوجيا الميكاترونية، في مقابل خصائص التكنولوجيا الميكانيكية، نقول أن التكنولوجيا الجديدة يحلّ فيها الإنتاج حسب الطلـب، و إعادة تدوير المصنوعات، و المعرفة . محلّ الإنتاج على نطاق واسع، و ما يترتّب عليه من تلويث للبيئة، و استنزاف للموارد الطبيعية . كذلك تحلّ فيه المواد الخام مع البيانات و أشكال الطاقة المتنوّعة و المعلومات، محلّ المواد الخام و أدوات الإنتاج و طاقة الحفريّات و العمالة .
و بمزيد من التحديد، نقول أن المنتجات غير النمطية، و التي تتم بشكل متنوّع وفقا للطلب، و التي تراعي إعادة استخدام المواد المصنّعة سابقا، حفاظا على المواد الأوّلية، تتكوّن من سلع و خدمات . كما أنّ الإنتاج حسب الطلب، و بناء على رغبات المستهلكين، يستوجب مشاركتهم في عمليات الإنتاج للحصول على المعلومات التي تتّصل باحتياجات و أمزجة و أذواق المستهلكين، و التعرّف على تصميماتهم المفضّلة . هذا النوع من الإنتاج لم يكن يحقّق شيوعا في عصر الصناعة .
هذا كلّه، بالإضافة إلى أنّ العالم يتحوّل من طاقة الحفريّات ( فحم و بترول و غاز )، إلى مصادر طاقة متنوّعة و متجدّدة .
الملاحظة الهامّة في هذا الطرح، هي أن أدوات الإنتاج لم تعد تلعب دورها الحيوي القديم، الذي كان لها في عصر الصناعة . و أنّها آخذة في الاختفاء التدريجي من قائمة مدخلات العملية الإنتاجية .
السؤال التالي الهام الذي يطرحه المفكّر المستقبلي الياباني كاورو ياماجوشي :
ما الذي يترتّب على هذا كلّه ؟، ما الذي يترتّب على تحوّلنا من الصناعات الميكانيكية التي عرفها عصر الصناعة، إلى الصناعات الميكاترونية، التي تتزايد شيوعا في عصر المعلومات ؟ .
و إلى الرسالة التالية لنستعرض إجابة هذا السؤال .