الثلاثاء، مايو ٢٧، ٢٠٠٨

في الديموقراطية التوقعية

في مواجهة الانهيار المتواصل

عند مركز عملية اتّخاذ القرار

في مواجهة الانهيار المتواصل عند مركز عملية اتخاذ القرار، يمكننا أن نسلك أحد طريقين :
الطريق الأوّل، هو محاولة المضي قدما في تقوية السلطة الحكومية، بالاعتماد على المزيد من السياسيين الإضافيين، و البيروقراطيين، و المستشارين ذوي الخبرة، مع التركيز على العقول الإلكترونية، على أمل اجتياز محنة التسارع و التعقيد و التركيب في الأحداث، المحلية و العالمية .
و الطريق الثاني، هو البدء في تخفيض عبء اتخاذ القرار، بتوسيع قاعدة المشاركين في ذلك العبء، و السماح بمزيد من القرارات التي يتم اتخاذها في القواعد و الأقاليم، أو في مراكز النشاط الفئوي، عوضا عن التركيز على قيادة صنع القرار المتخمة في المركز .
الطريق الأول يقود إلى المزيد من المركزية و التكنوقراطية و الشمولية، بينما يقود الطريق الثاني إلى ديموقراطية جديدة، ذات مستوى أكثر تطوّرا . و لا توجد أسباب تحضّ على سلوك الطريق الأول، فالقول بأن المركزية و الشمولية في اتخاذ القرار هما السبيل إلى " الكفاءة "، و أن الديموقراطية تقود إلى التشويش و الإخفاق .. هذا القول ليس سوى خرافة زائلة . فالنظر الأمين إلى الديموقراطية، بشيء من التعقّل، على ضوء نظرية المعلومات و اتخاذ القرار، بعيدا عن النظريات السياسية البالية، يفيد أنها تحقّق من الفضائل ما تفتقده المركزية و الشمولية .

مستقبل الدكتاتور

ما يحدث اليوم في مختلف المجتمعات من تغيير متلاحق متسـارع، يجعل مهمة الطاغية أو الدكتاتور محفوفة بالمخاطر . و إذا كان الدكتاتور قادرا على الحركة السريعة، نتيجة لعدم اضطراره لسماع و مواجهة الرأي الآخر، فإن هذا يعتبر ميزة في حالة كون ذلك الدكتاتور حكيما و ذكيا، و أيضا في حالة كون مجتمعه نمطيا، يتمتّع بثبات نسبي . و قد أثبتت التجارب السياسية، في مختلف أنحاء العالم، أنه في حالة تحقّق ذلك، فأن العائد الذي يصل إليه هذا النظام يكون مقترنا بمخاطر هائلة .
يقول توفلر " تصرفات الحاكم الأوحد تصبح بشكل متزايد عرضة للخطأ، و متسمة بالخطورة . و هي و إن كانت تستهدف تضخيم الذات، إلاّ أنها ـ في أغلب الأحيان ـ تقود إلى تحطيم الذات، إذا لم تتم مراجعتها عن طريق معارضة ديموقراطية، و إذا لم يجر تصحيحها و تقويمها على ضوء الأفكار المتغيرة القادمة من ( أسفل ) ..".
و يستطرد قائلا أنّه على العكس من هذا، يقود تضاعف قنوات التغذية المرتدة القائمة بين المواطنين، و بين صنّاع القرار في الحكومة، و خاصّة التغذية المرتدة السلبية، إلى المحافظة على استقرار المجتمع .. فهي تعمل عمل (الترموستات) في الأنظمة الحرارية، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض مخاطر الخطأ . كما يعني أيضا أن ارتكاب الخطأ يكون من الممكن تصحيحه بأقل الخسائر ..
كلما ضعفت التغذية، و التغذية المرتدة، في العملية الديموقراطية، زادت الفجوة بين القرارات و الواقع، و زاد خطر بقاء الأخطاء بدون تصحيح، حتى يتضخّم أثرها، و تتحوّل إلى أزمات .

الزمن كعامل مؤثّر

يمكن أن يصبح الحديث عن ديموقراطية المشاركة ناقصا ـ بشكل ما ـ إذا أهملنا النظر إلى الزمن كعامل مؤثّر في سلامة القرار . و لكي تكون مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار فعّالة، لا بد أن يتجاوز اهتمامهم ما هو " هنا و الآن"، عند اتخاذهم للقرار . و أن يدخلوا في اعتبارهم الأوضاع الأكثر أهمية، و التي تؤثّر على المستقبل البعيد
إن ترك المواضيع طويلة المدى زمنيا للآخرين، على سبيل الإهمال أو عدم الاهتمام، ينتهي بالمواطنين ـ على أحسـن الفروض ـ إلى التورّط في اتخاذ قرارات قاصرة، ثم إلى الدخول في معارك، عند التصـدّي للتصوّرات بعيدة المدى، التي يكون غيرهم قد وضعها . و هذا هو السـرّ في أن الديموقراطية التوقّعية تصرّ على دمج التغـذية المرتدة للمواطنين بتوفّر الوعي المستقبلي لديهم .
المراقب المتأمّل للتجارب الأولى، في حقل الديموقراطية التوقّعية، في المجتمعات التي شرعت في الأخذ بها، سيلاحظ توتّرا متناميا بين أولئك الذين يؤمنون أساسا بالمشاركة، مع عدم اقتناعهم القوي بالتوجّه المستقبلي، و بين أصحاب الفكر المستقبلي الذين لا يضعون ثقلا مناسبا للمشاركة .

معالجة جديدة لعملية اتخاذ القرار

من المهم أن نتّفق على أن هذا التركيز على المستقبل بين الجماهير، ليس له علاقة بما عرفناه من جهود المخططين التكنوقراطيين .. الذين يتصوّرون أننا نحتـاج إلى : " خطة شاملة " لربع القرن القادم مثلا . أو بمن يتحمّسون للوصول إلى إجماع حول قضية ما، بما يعني أن نمضي جميعا وراء رؤية واحدة .. كلّ من هذين الموقفين يعتبر من مخلّفات المجتمع النمطي المنصرم .
أهم ما يناط بأولئك الذين يلتزمون بالديموقراطية التوقّعية، ليس السعي إلى استنباط أهداف محددة للحي أو المدينة أو المحافظة أو الدولة، و لكنه السعي إلى خلق و استنباط معالجة جديدة لعملية اتخاذ القرار، تتم فيها بصفة مستمرة إعادة تقييم الأهداف، بصرف النظر عن كونها أهداف هذا أو ذاك، و بأن يتم ذلك على ضوء التغيير المتسارع الذي نعيشه .
و على هذا، فالديموقراطية التوقّعية لا تعد بسلامة القرار الذي يتخذه عامة المواطنين ( حتّى عندما يتم ذلك بمساعدة الخبراء، كما هو الحال دائما )، كما أنها لا تفترض قدرة المواطن على فهم الأمور التقنية دون تعليم أو مساعدة من الخبراء، و هي لا تسعى ـ بالضرورة ـ للوصول إلى إجماع، دعك من فرضه .. إن ما تفعله هو بناء جمهور للمستقبل، و ليس هناك ما هو أهم من ذلك .. إنّها توفّر عددا كبيرا من المواطنين النشطين، الذين ـ بصرف النظر عمّا يمكن أن يكون بينهم من اختلافات ـ يتّفقون في اعتقادهم بأن خط النهاية للحياة السياسية يجب أن لا يقف عند حد الانتخابات التالية .

الفرص و البدائل الخلاّقة

هذا الجمهور المستقبلي، إذا جاز التعبير، يساعد على تحرير الساسة الأذكياء، و موظفو الدولة، من قيودهم الحالية، ممّا يتيح لهم القيام بعملهم بطريقة أفضل، حتّى في ظل أدوات اتخاذ القرار الحالية غير المناسبة ..و تحررهم بما يتيح لهم التحدّث بصراحة و ذكاء عن الاحتياجات بعيدة المدى، دون أن يظهروا بمظهر البلهاء أو المخرّفين ! .
و هكذا، توفّر الديموقراطية التوقّعية دعما للسياسات بعيدة النظر،و تضاعف من تقديرنا للفرص و البدائل الخلاّقة، بما في ذلك الرؤى المستقبلية، التي عادة ما يتم استبعادها بتأثير الاستقطاب السياسي .
خارج المجال السياسي الشكلي، تثير الديموقراطية التوقّعية العديد من الأسئلة الخصبة :
أولا : إلى أي مدى يمكن إعادة التوافق بين "الخبراء " و " المواطنين " ؟
ثانيا : و ما هي العلاقة بين الديموقراطية و التعليم ؟
ثالثا : و هل يمكن أن تساعدنا في وضع استراتيجيات عريضة للتطور التكنولوجي تحظى بتأييد المواطنين ؟ .
يقول توفلر " إذا نظرنا إلى الديموقراطية التوقّعية، على ضوء ضخامة المخاطر التي تواجهها، فقد نراها مجرّد استجابة متواضعة .. فهي لا تتضمّن حدثا درامـيا، و هي لا تقتـل و لا تخطـف خصومها، كما أنها لا تهدد بقلب نظام الحكم بشكل تآمري .. إنها في جوهرها أداة تهذيب ديموقراطية . و مع ذلك، فإننا نرتكب خطأ كبيرا عندما نقلل من قدر القوّة التي تولّدها، أو من دلالة هذه الطاقة السياسية الجديدة .." .