الثلاثاء، ديسمبر ٠٤، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات



رؤية مستقبلية لبيتر دراكر
الاقتصاد عابر الدول، و البيئة
العلاقة بين فراشة الأمازون و شيكاغو

لقد استعرضنا في الرسالة السابقة جهد المفكّر المستقبلي جون ناسبيت في تصوّر العوامل المؤثّرة على اقتصاد الغد . و نتحوّل الآن إلى رؤية أكثر عمقا، يقدّمها بيتر دراكر أستاذ الاقتصاديات و الفلسفة، و صاحب المؤلّفات الاقتصادية الهامّة، و الذي عمل لأكثر من عشرين سنة كأستاذ للإدارة، ممّا استحقّ عليه لقب " رائد الإدارة الحديثة " . و هو في كتابه " الحقائق الجيدة " يضع خبرته في كلّ هذه الممارسات، عند تحليله لأعماق مظاهر التغيّر التي يمرّ بها العالم حاليا .
يقول دراكر " لا توجد أيّة نظرية اقتصادية تستطيع تفسير الأحداث الاقتصادية الرئيسية التي مرّ العالم بها منذ عام 1975 . و غني عن البيان، أنّه لم يكن بمقدور أيّة نظرية منها أن تتنبّأ بما حدث منذ ذلك الوقت . الواقع الجديد يتجاوز النظريات الاقتصادية القائمة . النمـوذج الاقتصادي الذي نحتاجه حاليا، يجب أن ينظر إلى الاقتصاد باعتباره عدّة أشياء غير مسبوقة في حساباتنا .

هل نفهم معنى "الاقتصاد العالمي" ؟

وهو يرى أن نظرتنا المعاصرة للاقتصاد، يجب أن تدخل في اعتبارها عدّة أشياء " حياة الكائن الحيّ على الأرض "، و " البيئة "، و " الوضع النسبي للأشياء في الإطار العام " . و أيضا باعتبار الاقتصاد مكوّنا من عدّة دوائـر متبادلة التأثير : دائرة الاقتصاد شديد الصغر (مايكرو) الخاصّ بالأفراد والمشروعات الخاصّة الصغيرة، و دائرة الاقتصاد الكبير (ماكرو)، و بصفة خاصّة الاقتصاد عابر الدول، بالإضافة إلى دوائر اقتصاد الدول و الاقتصاد العالمي .
و يقول دراكر : الجميع يتكلّمون عن " الاقتصاد العالمي " باعتباره واقعا جديدا . إلاّ أنّ ما يجري يختلف تماما عمّا يعنيه معظم الناس، من رجال أعمال و اقتصاد و سياسة، بالنسبة لهذا الاصطلاح .
و هو يربط بين الاقتصاد عابر الدول، و كيان مستجدّ آخر عابر للدول، هو العلاقة بين الكائنات الحيّة و بيئتها .

تعظيم الأسواق

منذ النصف الأوّل من السبعينيات، و في أعقاب موقف الأوبك، و بعد تعويم نيكسون للدولار، تغيّر الاقتصاد العالمي : من شكله القديم كاقتصاد بين الدول، إلى اقتصاد عابر للدول و خارج عن ولاية هذه الدول، و متحكّم فيها . و يرى دراكر أنّ من بين خواصّ الاقتصاد عابر الدول، أنّه يتشكّل من التدفّقات النقدية، أكثر من تشكّله نتيجة لتجارة البضائع و الخدمات . هذه التدفّقـات النقدية لها آليّاتـها الخاصّة . و الملاحظ أن السياسات النقدية و المالية للحكومات القومية ذات السيادة قد أصبحت، منذ ذلك الحين، تستجيب لأحداث المال و أسواق رأس المال التي يخلقها الاقتصاد عابر الدول، أكثر ممّا تسعى إلى لعب دور نشيط في تشكيلها، و التحكّم فيها .
و من بين خصائص الاقتصاد عابر الدول، أن عناصر الإنتاج في الاقتصاد التقليدي ـ من أرض و عمالة ـ تصبح بشكل متزايد ذات دور ثانوي فيه . و أيضا، أصبح المال هو الآخر عابرا للدول، و لم يعد كما كان من عوامل الإنتاج التي يمكن أن توفّر لدولة ما ميزة تنافسية في السوق العالمية . كذلك، لم تعد أسعار تبادل العملات الأجنبية مؤثّرة إلاّ على المدى القريب . و أصبح من الواضح أن الوضع التنافسي الجديد يقوم على أساس الإدارة .
في الاقتصاد عابر الدول، لا يكون الهدف هو ( تعظيم الأرباح )، بل يصبح ( تعظيم الأسواق ) . وبهذا ، من المتوقّع أن تصبح التجارة ـ يوما بعد يوم ـ تابعا للاستثمارات . بل لقد أصبحت التجارة بالفعل وظيفة من وظائف الاستثمار .

تبادل المصالح

و يقول دراكر : إن النظريات الاقتصادية التي بين أيدينا حاليا، ما زالت تفترض أن الدول القومية ذات السيادة هي الجهة الوحـيدة، أو على الأقلّ الجهة الأكثر تأثيرا، و أنّها القوّة الوحيدة القادرة على تبنّي السياسات الاقتصادية الفعّالة . لكن، إذا تأمّلنا طبيعة الاقتصاد عابر الدول، اكتشفنا أن هذه الجهة هي واحدة ضمن جهات أربع، ترتبط بعضها بعضا، لكن لا تتحكّم أي منها في الثلاث الأخرى .
الدول القومية هي إحدى هذه الجهات، إلاّ أن سـلطتها في اتّخاذ القرارات تتحـوّل باطّراد إلى الجهة الثانية،
و هي المناطق الإقليمية ( كالتجمّع الأوروبي ) .
و هناك جهة ثالثة، تتّسم بالأصالة و بأنّها تكاد تكون ذات سيادة، هي الاقتصاد العالمي للنقود و الائتمان و التدفّقات الاستثمارية .
و أخيرا، جهة النشاطات عابرة الدول، و هي ليست بالضرورة ذات ضخامة اقتصادية، و التي تنظر إلى العالم المتطوّر كسوق واحدة .
ثم يقول دراكر ، إن السياسة الاقتصادية الجديدة، تصبح بشكل متزايد أكثر اعتمادا على ( تبادل المصالح ) بين الأقاليم، مسقطة من حساباتها شعاري : التجارة الحرّة و الحماية الاقتصادية
و يضيف دراكر، " لم تعد البيئة تعرف الحـدود الدولية، بالضبط كما هو الحال مع المال و المعلومات. والاحتياجات البيئية الحاسمة، مثل حماية الغلاف الجـوّي، لا يمكن أن تتصدّى لها دولة ما، فالأمر يقتضي سياسات عامّة عابرة للدول، يتمّ فرضها بهيـئات عابـرة للدول أيضا "، ثم يقول : إنّ الاقتصاد العالمي عابر الدول، يفتقد المؤسّسات اللازمة له، و على رأسها القانون عابر الدول

التحكّم في " الطقس " الاقتصادي

الوصول إلى نظرية اقتصادية جديدة تتوافق مع المجتمع الجديد و تتفاعل معه، يقتضي تأليفا وتركيبا لمعطيات الجديدة التي فرضت نفسها في مجال الاقتصاد، سعيا لإطار النظرية الجديدة . الوضع الحالي لن يتيح لنا التوصّل إلى "سياسة اقتصادية" . و الرياضيات الحديثة، التي تتعامل مع الظواهر المركّبة تثير سؤالا هاما : هل من الممكن أن نصل إلى أيّة سياسـة اقتصادية ؟ .. أم هل كتب الفشل على محاولات التحكّم في " الطقس" الاقتصادي المتغيّر، كالتحكّم في الكساد أو التقلّبات الدورية ؟
يقول عالم الاقتصاد الأمريكي جورج سيجلر، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1982، إنّ محاولات الحكومة، على مدى أعوام، للتحكّم و تنظيم الاقتصـاد، لـم ينجح أيّ منها . و يحاول دراكر تفســير ذلك بما يطلـق عليه " ظاهرة الفراشة " . تقول الفكرة، أنّ الفراشة التي تخفق جناحيها في غابات الأمازون الممطرة، يمكن أن تتحكّم في حالة الطقس بمدينة شيكاغو، بعد هذا بعدّة أسابيع أو شهور . في الوقت الذي تقول فيه النظريات الرياضية الحديثة، أن النظم المركّبة لا تسمح بالتنبؤ، لأنّها محكومة بعوامل تفتقد الدلالة الإحصائية . من هذا خرجوا بأنّه، في ظلّ النظم المركّبة، يجوز أن نتنبّأ بما يطلق عليه " المناخ العام"، و يمكن استقرار ما نستخلصه منه . إلاّ أنّه من الصعب جدّا أن نتنبأ ب"الطقس"، لأنّه غير مستقرّ بالمرّة .
و نتيجة لهذا، يمكن القول بأنّ السياسيين الذين يحظون بمساندة قوية من الناخبين، هم أولئك الذين يتحرّكون في اتّجاه ابتكار السياسات التي تخلق : المناخ ، بعيدا عن محاولة التحكّم في : الطقس
محدّدات الواقع الاقتصادي

يقول دراكر : نحن نتكلّم بشكل متزايد عن البنية الاقتصادية : عن الإنتاجية و المنافسة، و التطوّر الإداري النابع من الرؤية بعيدة المدى، و عن دور الأبحاث و مؤسّساتها، و عن العلاقة بين الأعمال الاقتصادية الحكومية .. إلى آخر ذلك . إلاّ أنّه لا توجد لأيّ من هذه الاهتمامات مكانا في نظرياتنا الاقتصادية، أو في النماذج الاقتصادية التي يضعها علماء الاقتصاد . كما أنّ رياضيات النظرية الاقتصادية لا يمكنها أن تتصدّى لأيّ من هذه العوامل . حتّى الإنتاجية تكون نوعية إلى حدّ بعيد، بحيث تصعب معايرتها بشكل مسبق .. و مع ذلك، فهذه هي محدّدات الواقع الاقتصادي
و في الرسالة القادمة ننتقل من الغرب إلى أقصى الشرق، لنستعرض رؤية يابانية حديثة لاقتصاد مجتمع المعلومات