الثلاثاء، نوفمبر ٢٠، ٢٠٠٧

اقتصاد جديد لمجتمع المعلومات

من الشركات العملاقة
إلى اقتصاد البوتيكات

ماذا يقول المفكّر المستقبلي آلفن توفلر عن اقتصاد مجتمع المعلومات؟

كان هدف المؤسّسات الإنتاجية في عصر الصناعة، هو التحكّم في جميع العمليات المتّصلة بما تنتجه . في مطلع القرن الحالي، سعى جون روكفلر، في شركة استاندرد للبترول، إلى التكفّل بكل النشاطات المتّصلة، كضخ البترول و تكريره و تسويقه . كذلك سار ارنست وبر، في شركة ناشيونال للصلب، على نفس النهج، ممّا جعلها أعلى الشركات المنتجة للصلب أرباحا، في ثلاثينيات القرن الماضي . فقد تحكّمت تلك الشركة في مصادر الحديد الخام الخاصّة بها، و خفرت مناجمها الخاصّة لاستخراج الفحم، و اعتمدت على نظامها الخاصّ في للنقل .
في مثل هذه الشركات، و في كلّ مرحلة من مراحل توسّعها، كان هناك نظام ضخم لتسلسل الرئاسات، يتولّى وضع البرامج، و نظم تخزين مستلزمات الإنتـاج، و يحارب في أسعار التحويل الداخلية .. و في جميع الأحوال كان القرار يتّخذ مركزيا . و يقول الكاتب المستقبلي الكبيرآلفن توفلر أنّ ذلك كان جوهر نظام الإدارة بالأوامر . و هو الأسلوب الشبيه بأسلوب بيروقراطيات التخطيط السوفييتية .

المقاول الخارجي

غير أن ما يسود حاليا، هو عكس ذلك تماما .
يسود حاليا مبدأ توزيع العمل في العديد من المشروعات الاقتصادية، بين جهات ذات تخصّصات و أحجام مختلفة . فشركة "بان أميريكان" للطيران، على سبيل المثال، تتعاقد مع المقاولين الخارجيين لتدبير شغل أماكن الشحن في رحلاتها عبر القارات . و تعلن شركتان كبيرتان، مثل جنرال موتورز و فورد، أنّهما ستزيدان حجم الاعتماد على العمالة الخارجية، بما يصل إلى 55 في المائة . و تقول مجلّة "الإدارة اليوم"، أنّ محاولة تحقيق التكامل الرأسي داخل الشركات متعدّدة الجنسيات، أصبح بلا معنى أو فائـدة، كما تقول أن الحكومات و الوكالات الحكومية ذاتها يتزايد إيكال عمليّاتها للمقاولين الخارجيين .
خلاصة القول، أن قيام مراكز الربح داخل الشركة، يناظره قيام مراكز أكثر تنوّعا و عددا خارجها .

اقتصاد البوتيك

واقع الحال، أنّنا نمضي بشكل متزايد بعيدا عن الشكل التقليدي لاقتصاد الضخامة . و في هذا يقول آلفن توفلر أنّ الشركات الصغيرة، و ذات الحجم المتوسّط، تكتسب اعترافا كبيرا باعتبارها المراكز الجديدة للعمالة و الابتكار و الديناميكية الاقتصادية .
المقاول الاقتصادي الصغير، أصبح البطل الجديد للاقتصاد . فعن فرنسا، تقول الفايننشيال تايمز "لقد تمّ التخلّي عن خطط دعم المشروعات الاقتصادية الكبرى، لحساب برامج يغلب أن تساعد على انتشار المشروعات الصغيرة" . كما توفّر بريطانيا خدمات المشورة الإدارية، لدعم انتشار التنظيمات الاقتصادية الصغيرة، و الارتفاع بكفاءتها . و في الولايات المتّحدة الأمريكية، تنشر مجلّة " إنك"، التي تقوم بقياس نشاط مائة شركة صغيرة رئيسية، ما يفيد تضاعف معدّل تزايد الشركات الصغيرة كلّ خمس سنوات .
و هذا يعني : أنّنا في مكان الاقتصاد الذي يتحكّم فيه عدد من المؤسّسات الضخمة العملاقة، نسعى اليوم إلى خلق اقتصاد جديد فائق الرمزية، يتشكّل من وحدات صغيرة، قد يستقرّ بعضها في جوف المشروعات الاقتصادية الكبرى، لاعتبارات محاسبية و مالية . إنّنا نمضي إلى اقتصاد البوتيكات .
هذا الاقتصاد، متعدّد الأشكال و التركيبات، يتطلّب أشكالا جديدة تماما للتنسيق . و هذا هو ما يفسّر عمليات الانفصال و التجمّع التي لا تنتهي، بالنسبة لما يطلق عليه " التحالفات الاستراتيجية "، و غير ذلك من التنظيمات الجديدة .

العلاقات و التنسيق كمصدر للثروة

في مدينة أتلانتا، بالولايات المتّحدة الأمريكية، توجد مؤسّسة كبرى تستخدم وحدها 37 ألف موظّف، و يصل مجموع ما تدفعه من رواتب إلى بليون و نصف دولارا سنويا، و تقوم منشآتها على2و2 مليون قدم مربّع .. هذا المشروع الضخم هو مطار أتلانتا .
إنّه عبارة عن "موزاييك" عملاق، يتشكّل من عشرات التنظيمات المنفصلة . و يتضمّن تنوّعا كبيرا، من الخطوط الجوّية، إلى خدمات الطعام، إلى شركات الشحن، إلى تأجير السيارات، إلى الوكالات الحكومية الداخلة في نشاطها مثل إدارة الطيران الفيدرالية، إلى خدمات البريد و الجمارك . و يتبع موظّفو هذه التنظيمات اتّحادات و نقابات مختلفة متعدّدة
القليل من الثروة الناتجة، يعود إلى جهد شركة أو وكالة بعينها . فالثروة المتدفّقة من هذا الموزاييك الكبير، تنتج بالتحديد عن العلاقات القائمة بين جزئيات ذلك الموزاييك، و التنسيق و الاعتماد المتبادل بينها . هذه العلاقات، لم يعد من الممكن أن تقوم على أساس القيادة البسيطة، التي يفرض فيها أحد المشاركين نمط سلوك الآخرين .

المؤسّسة الفارغة !

بديهي أن المؤسّسات العملاقة التي تقوم على التنظيم الهرمي، أو غير ذلك من التنظيمات المركزية، ما زالت موجودة، و ما زال لها نفوذها الكبير . لكن الأشياء تتغيّر بسرعة .
لم يعد المورّدون مجرّد باعة بضائع و خدمات، فهم يورّدون المعلومات الحسّاسة إلى الشركة، و من ناحية أخرى يستمدّون المعلومات المفيدة لهم من قواعد البيانات الخاصّة بالمشتري . لقد أصبحت العلاقة عبارة عن علاقة مشاركة .
يقول جون سكالي، المدير التنفيذي العام في شركة " آبل " للكمبيوتر : إنّنا قادرون على أن نعتمد على شبكة متكاملة من الشركاء، العاملون في تطوير البرمجيات (سوفت وير)، و صنّاع التجهيزات الهامشية، و الباعة، و تجّار الجملة . و يزعم البعض ـ خطأ ـ أنّنا بمثل هذه الترتيبات قد ساعدنا على بزوغ المؤسّسة الفارغة .. و أنّنا نصبح مجرّد قشرة فارغة تعتمد في بقائها على شركات خارجها .
يتحدّى سكالي وجهة النظر هذه، مشيرا إلى أن هذا الموزاييك التنظيمي، هو الذي يسمح لشركة آبل نفسها أن تصبح طيّعة و قادرة على التكيّف، و أن هذا هو السند الذي اعتمدت عليه الشركة في الوقوف على قدميها خلال الأزمات .

الحكمة الكلّيـة

و في شركة ماتسوشيتا اليابانية، تبلورت عملية المشاركة، في شكل ما يطلقون عليه اسما طويلا هو "الإنتاجية العالية من خلال استثمار الحكمة الكلّية" .فالشركة تلتقي مع مقاوليها الفرعيين، في مرحلة مبكّرة من مراحل تصميم و رسم مسـار الإنتاج فيها، و تسألهم أن يساعدوها على تطوير ذلك المسار . و يتوقّع كوزابورو سيكاتا، رئيس رابطة مقاولي الباطن، أو المقاولين الجزئيين، في شركة ماتسوشيتا، أن يصبح هذا النظام ممارسة قياسية شائعة . فالمشاركة المسبقة في المعلومات غير المتوفّرة لباقي الأطراف عند بداية إنشاء العمل، ليست نوعا من الكرم و طيبة القلب من جانب الشركة، لكنّها ضرورية لمواجهة المنافسات من الشركات الأخرى . و الثابت أن مديري الشركة ينصتون بانتباه، عندما يتكلّم أحد مورّديها الفرعيين المنتظمين، البالغ عددهم 324 مورّدا .
عن هذا يقول آلفن توفلر " في الماضي، كنّا نسمع كلاما يتردّد على ألسنة مديري الشركات، حول أن جميع العاملين شركاء في العمل . و الجديد، أن هؤلاء المديرين يكتشفون حاليا أنّهم مرغمون على تطبيق ما كانوا يحرّكون به ألسنتهم من قبل .." .

و إلى الرسالة القادمة، لنرى كيف يمكن أن نفهم الاقتصاد العالمي الجديد