الثلاثاء، أبريل ٠٨، ٢٠٠٨

ديموقراطية مجتمع لمعلومات

من كتاب لي تحت الطبع يحمل عنوان :
سقوط صندوق الانتخابات عن عرشه
ــ
أفكار ديموقراطية
للقرن الحادي و العشرين


بناء نظام حضاري جديد، ينبع من حقائق عصر المعلومات، على أنقاض النظام القديم النابع من حقائق عصر الصناعة، يتطلّب وضع هياكل سياسية جديدة أكثر انسجاما مع الواقع الجديد، في العديد من الدول، و في نفس الوقت . عن هذا يقول آلفن توفلر " هذا مشروع مؤلم، يثير الدوار من فرط ضخامته، و يستغرق ـ بلا ريب ـ عدة عقود لإنجازه .. و لكنّه ضروري .." .
هذه العملية الهائلة لإعادة البناء، التي ستمس آلاف الملايين من البشر، هل يمكن أن تتم بسلام ؟ .. يرى توفلر أن هذا رهن بعدة عوامل : مدى المرونة التي يمكن أن تظهرها النخبة العنيدة المتصلّبة التي بيدها الأمور .. و عمّا إذا كان التغيير يتسارع نتيجة انهيار اقتصادي، و عمّا إذا كانت هناك تهديدات و تدخّلات عسكرية خارجية .
علينا أن نعير التفكير في حياتنا السياسية، من خلال ثلاثة مفاتيح أساسية :

أولا : أفول الأغلبية .
ثانيا : الديموقراطية شبه المباشرة .
ثالثا : إعادة توزيع سلطة اتخاذ القرار .

ولنبدأ في هذه الرسالة طرح النقطة الأولي :

أوّلا : أفول الأغلبيــة

أهم عنصر جديد في حكومة عصر المعلومات، يتّصل بقوّة الأقليات . و هذا يعني أن حكم الأغلبية، الذي هو المبدأ الرئيسي للشرعية في عصر الصناعة، يفقد قيمته بشكل مطّرد . لقد أصبحت الأقليات أكثر أهمّية من الأغلبية .. و نظامنا السياسي الجديد يجب أن يعكس هذه الحقيقة .
في هذا يقول توفلر " .. و اليوم، و نحن نمضي بعيدا عن التصنيع، و نتحوّل بشكل سريع إلى مجتمع غير جماهيري أو نمطي .. يصبح من الصعب جدا ـ و من المستحيل غالبا ـ أن نتوصّل إلى أغلبية، أو حتّى تحالف حاكم .." .
و عن نفس الموضوع، يقول المفكّر الأمريكي والتر دين بيرنام " أنا لا لأري أساسا لأي أغلبية إيجابية، في أي شيء حاليا .." . و لأن النخبة تقوم شرعيتها على الأغلبية، تعمد دائما إلى الحديث باسم الأغلبية .. كان الحزب الشيوعي يتكلّم نيابة عن ( الطبقة العاملة )، و كان نيكسون يزعم أنّه يمثّل في أمريكا ( الأغلبية الصامتة ) . و اليوم، في الولايات المتحدة، تهاجم قيادات حركة المحافظين الجدد المطالب المتصاعدة للأقليات الجديدة، مثل السود، و أنصار المرأة، بزعم أنهم يتكلّمون باسم مصالح الأغلبية، القوية، المعتدلة .

مجتمع النجوم الكوكبية

كلّما ابتعدنا عن سيادة عصر الصناعة، فقدت الجماهير و الطبقات الكثير من دلالاتها، نتيجة لدخولنا بشكل أوسع إلى عصر المعلومات . و يقول توفلر : في مكان المجتمع الطبقي، الذي تتوحّد فيه قلّة من الكتل الرئيسية ذاتها، لكي تشكّل
أغلبية، لدينا الآن مجتمع جديد يتشكّل من مجموعات النجوم الكوكبية، و هو الذي تعمد فيع آلاف الأقليات، التي تكون في معظمها مؤقّتة، إلى الدوران حول نفسها، صانعة أشكالا جديدة للغاية، ذات تكوينات وقتية، نادرا ما تشكّل تراضيا بنسبة 51 في المائة، حول المواضيع الرئيسية .. ثمّ يعقّب قائلا " تقدّم حضارة عصر المعلومات، يضعف شرعية العديد من الحكومات الحالية .. و يتحدّى جميع افتراضاتنا التقليدية حول العلاقة بين الحاكم و الأغلبية، و العدالة الاجتماعية " .
المنظّرون للمجتمع الصناعي، غالبا ما يتباكون على ما يحدث من انقسامات في المجتمع الجماهيري، الذي كان عماد عصر الصناعة . و بدلا من اعتبار ذلك توجّها إلى المزيد من التنوّع الثري، و فرصة جديدة للتنمية البشرية، نراهم يهاجمون الظاهرة، باعتبارها مشجّعة للتفتت و البلقنة ( نسبة إلى البلقان )، و نتيجة من نتائج "أنانية " الأقليات .

الركود الاقتصادي و الثقافي

و في هذا يقول توفلر أن هذه الحقيقة لها آثارها الهائلة، مثال ذلك أنه عندما حاول الروس أن يضعوا حدّا لهذا التنوّع الجديد، أو كبح التعددية السياسية المصاحبة له، قاموا في حقيقة الأمر، بما يطلقون عليه بلغتهم : تكبيل وسائل الإنتاج، ممّا قاد إلى إبطاء التحوّلات الاقتصادية و التكنولوجية في المجتمع .. و نحن في العالم غير الشيوعي ( واضح أن هذا القول كان قبل انهيار النظام الشيوعي )، نواجه نفس الخيار : إمّا أن نقاوم الاندفاع تحو التنوّع، في محاولة أخيرة يائسة لإنقاذ المؤسسات السياسية لمجتمع الصناعة، أو أن تعترف بالتنوّع و نسعى بالتبعية إلى تغيير تلك المؤسسات .
و من الواضح أن الاستراتيجية الأولى، و التي لا يمكن فرضها سوى بالوسائل الشمولية، تقود إلى نوع من الركود الاقتصادي و الثقافي .. أمّا الاسـتراتيجية الثانية، فتقود إلى التطـور الاجتماعي، و إلى ديموقراطـية القرن الحادي و العشرين، التي تقوم على الاعتراف بالأقليات .

الافتراض الخاطئ

إذا كنّا نسعى إلى بناء كيان ديموقراطي، نابع من منطق عصر المعلومات، علينا أن نسقط من حسابنا الافتراض الخاطئ المخيف، الذي يفيد أن تزايد التنوّع و التعدد و التباين في المجتمع يقود آليا إلى التوتّر المتزايد و الصراعات . و يطرح توفلر هذا بمثال طريف و غريب فيقول " إذا ما سعى مائة رجل باستماتة للحصول على نفس الخاتم النحاسي، قد يصل بهم الأمر إلى حدّ أن يحارب بعضهم بعضا من أجل الحصول عليه . و من ناحية أخرى، إذا كان لكلّ واحد من المائة هدفه الخاص المختلف، يصبح الأكثر فائدة لهم أن يتعاونوا و يتاجروا، و يقيموا بينهم علاقات عضوية .. فإذا توفّرت لهم الترتيبات الاجتماعية المناسبة، يمكن أن يقود التنوّع و التعدّد إلى حضارة آمنة مستقرّة .." .
و هو يستخلص من هذا، أن نقص المؤسسات السياسية المناسبة، يقود إلى زيادة حدّة الصراعات غير الضرورية بين الأقليات، ممّا يصل بها إلى حافّة العنف، و يجعل من الصعب ـ أكثر فأكثر ـ العثور على الأغلبية .
نحن في حاجة إلى ترتيبات جديدة مبتكرة، تستوعب التنوّع و تجعله شرعيا .

مصير صندوق الانتخابات

في هذا يقول توفلر " باختصار.. نحن نريد تحديث مجمـل النظام، لكي ندعم دور الأقليات المختلفة، و بحيث تصنع ـ في نفس الوقت أغلبيات ..لكي يتم هذا، يقتض ي الأمر تغييرات جذرية في العديد من هياكلنا السياسية، على أن نبدأ
بأكبر رموز الديموقراطية .. صندوق الانتخابات .." ,
كان من الممكن احتمال النواقص المعروفة لنظام حكم الأغلبيـة، قبل دخولنا إلى عصر المعلومات . و السرّ هو أنّه ـ من بين أشياء أخرى ـ كانت معظم الأقليات تفتقر إلى القوّة الاستراتيجية التي تستطيع بها أن تمزّق النظام . و في عالم اليوم، حيث المجتمع دقيق التشابك بين عناصره، و حيث أصبحنا جميعا أعضاء في مجموعات الأقليات، لم تعد الأحوال السابقة تحكم مجتمعنا .
في هذا يقول توفلر " نظم التغذية المرتدّة التي تنتسب إلى الماضي الصناعي، تبدو بالنسبة لمجتمع المعلومات اللاجماهيري شديد الغلاظة . لهذا يجب علينا أن نستخدم التصويت، و قياسات الرأي، و الاستفتاءات, بطريقة جديدة تماما .." .
في العالم الذي نمضي إليه، حيث تكنولوجيات الاتصال الغنية، يصبح لدى الناس وسائل عديدة لتسجيل آراؤهم و وجهات نظرهم في كل شيء، دون أن يمدّوا أيديهم إلى صندوق الانتخابات .. كذلك توجد طرق مستجدّة ـ سنعرض لها فيما يلي ـ تسمح بتغذية تلك الآراء في صلب عملية اتخاذ القرار السياسي .
و بالتأكيد، سيكون علينا أن نسقط الهياكل الحزبية الحالية التي انقضى زمنها، و التي كانت مصممة لعالم بطيء التغيّر، يعتمد على الحركات الجماهيرية، و التجارة الجماهيرية .. و أن نبتكر هياكل حزبية مؤقّتة، يتاح لها أن ترصد التغيرات التي تطرأ على الأقلّيات .
يقول توفلر " نحن في حاجة إلى تعيين ( دبلوماسيون )، أو ( سفراء )، لا تكون وظيفتهم التوفيق بين الدول، بل بين الأقليات داخل كلّ دولة . قد نلجأ إلى إنشاء مؤسسات شبه سياسية، لمساعدة الأقليات ـ سواء كانت مهنية أم عرقية أم جنسية أم إقليمية أم دينية ـ لكي تقوم بتأسيس و تفكيك تحالفاتها بشكل أسرع و أسهل .." .

أفكار جريئة .. و عاقلة

من بين ما هو مطروح، أن يجري اختيار أعضاء المجالس التشريعية و النيابية ـ في المستقبل ـ بنفس الطريقة التي يتم بها اختيار المحلفين في القضايا، ببعض الدول التي تأخذ بذلك النظام .
يتساءل دكتور تيودور بيكر، أستاذ القانون و العلوم السياسية في جامعة هاواي " لماذا يكون اتخاذ القرارات الهامّة، في الحياة أو الموت، في يد الأشخاص الذين نختارهم كمحلّفين .. بينما نترك القرارات حول ما يجب أن ننفقه من مال على مراكز رعاية الطفل، أو الدفاع، لتكون من نصيب من ( يمثّلون ) هؤلاء المحلفين ؟! " .
و هو يرى أن التنظيمات السياسية تظلم الأقلّيات بشكل منظّم . فيذكّرنا بأن غير البيض يشكّلون 20% تقريبا من الشعب الأمريكي، بينما ينالون 4% من مقاعد مجلس النواب، و 1% من مقاعد مجلس الشيوخ . و بالنسبة للنساء اللاتي يشكّلن أكثر من 50% من التعداد الأمريكي، يكون من نصيبهن 4% فقط من مقاعد النواب، و لا شيء بالنسبة لمجلس الشيوخ ( هذه الأرقام ترجع إلى عام 1976 عندما كتب هذا ) .
ثم يواصل بيكر طرح أفكاره الجريئة فيقول " يجب أن يتم اختيار ما بين 50 و 60 % من المجلس النيابي الأمريكي بالقرعة من بين أفراد الشعب الأمريكي، تقريبا بنفس الطريقة التي يتم بها اختيار الأفراد للخدمة العسكرية من الاحتياط،عندما تنشأ الضرورة .." .

بدائل تثير الدهشة

يعلّق توفلر على ما يطرحه بيكر فيقول " إذا ما أتحنا لأنفسنا أن نفكّر بحرّية للحظات، أمكننا أن نصل إلى الكثير من البدائل التي تثير الدهشة .." . ثم يقول، لدينا الآن التقنيات الضرورية التي تتيح لنا اختيار نماذج من النواب، بشكل أكثر صدقا من نظام المحلّفين أو طلب احتياطي الجيش . يمكننا أن نقيم مجلس نيابي للمسـتقبل أكثر ابتكارية، بحيث يتم ذلك ـ للغرابة ـ مع أقلّ إزعاج للتقاليد الانتخابية الحالية .
ثم يقول، لو شئنا أن نبقي على نوابنا المنتخبين، يمكننا أن نتيح لهم 50% فقط من الأصوات، بالنسبة لأيّ موضوع، بينما تذهب 50% الباقية من الأصوات إلى عيّنات عشوائية من الجمهور ! . و يضيف " باستخدام الكمبيوتر، و وسائل الاتصال المتطوّرة، و الأساليب الانتخابية، أصبح من السهل، ليس فقط اختيار عيّنة عشوائية من الجمهور، بل أن نواصل تحديث هذه العيّنة من يوم لآخر، لتزويدها بأدقّ المعلومات، و أحدثها، بالنسبة للموضوع المطروح .." .
و يمضي توفلر في تصوّره، فيقول أنّه عندما تنشأ الحاجة إلى اتخاذ قرار ما، يجتمع النوّاب المنتخبون للتصويت، في حدود 50% المخصصة لهم، و في نفس الوقت تقوم العيّنة العشوائية، التي لا تعيش بالضرورة في العاصمة، و تتوزّع بين العديد من المنازل و المكاتب، بإعطاء نسبة 50% الباقية من الأصوات إلكترونيا .
و يواصل قائلا " مثل هذا النظام، لن يوفّر فقط عملية تمثيل أقوى ممّا وفّرته أي حكومة قائمة على التمثيل النيابي في يوم من الأيام .. بالإضافة إلى أنه سيوجّه لطمة قوية لجماعات أصحاب المصالح الخاصّة، الذين ينتشرون في ردهات و ممرات معظم البرلمانات .. سيكون على هذه الجماعات أن تعمل على الشعب كلّه، و ليس على القلّة المنتخبة .." .

و إلى الرسالة القادمة، لنستكمل طرح المفكر المستقبلي آلفن توفلر حول ديموقراطية القرن 21